صفة لازمة للخروج عن الصراط المستقيم
التطرف «قبح» يفقد الإنسان توازنه مع الحياة ويجافي الفطرة الإنسانية
لقد تكرر لفظ الفتنة ستين مرة في القرآن الكريم ليدل على معان متعددة كلها تفيد في تحريرنا، فقد ورد بمعنى الابتلاء والامتحان، كما في قوله تعالى: (ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)، إضافة إلى وروده بمعنى الميل والصد عن الحق وذلك كقوله تعالى: (وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ). بل نجد للفظ الفتنة دلالة على الضلال كقوله تعالى: (وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَـمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً).
إن التطرف إذن أمر مذموم حتماً وفق الآيات السابقة، حتى ولو لم يؤد إلى القتل فهو يحدث فتنة كبيرة، وعليه قرر الإسلام عقوبات صارمة وقوية وزاجرة على جريمة الفتنة لأنها تقود إلى فوت الحياة واضطراب في المجتمع، وذلك مخالف كذلك لوجوب الاتفاق والإتلاف، ذلكم أن الدين الحنيف فيه كل مفردات المنهج الرباني المطلوبة في بناء الحياة المطمئنة، بعيداً عن التطرف الذي يناقض التوازن المطلوب في الحياة، وذلك بالاعتدال والوسطية في العبادة والمعاملة، وبالنظر الواقعي والمتوازن إلى الإنسان جسداً وعقلاً وروحاً، وبمراعاة الانسجام والتناسب مع الفطرة الإنسانية، إدراكاً لمعنى الآية:(وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً).
حماية الفكر
إن الإسلام كله جاء لحماية الفكر وتوجيهه وترشيد السلوك من خلال الربط بين طاعة الله والأمن الفكري، يقول تعالى: (وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
فالإنسان لا يكون مرْموق الرَّخاء ولا مرموق الإخاء، إلا إذا رافق الإسلام الحق الوسطي السمح، ووضع عصى الظلام والتبس برداء النور حتى نبعد الأهْواء ونقرب الوِصالَ من الشّفيق الرحيم علنا نحصل الثواب ونغمر أنفسنا بالسعد بالجميلِ. وتلين قلوبنا ومقالاتنا ومقاماتنا ويعم وفاء إنسانيتنا.
لذم التطرف معالم ومظاهر كثيرة ومتعددة تدل على أنه أذم طريق وأقبح عمل، لأنه يقود إلى ضرب مخلوق كرمه الله وهو الإنسان، يقول تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ..)، وحواسه أشرف من الكواكب المضيئة، فلا يجوز سلوك طريق يمس من هذا الشرف وهذه الحرمة الخاصة.
ومن مظاهر هذا القبح أنه يفقد توازن الإنسان والحياة: فمن الواضح جداً أن التطرف يفقد الإنسان توازنه، ومن ثم يصيب الحياة باضطراب وهلاك، لأنه يمس الضروريات الخمس من الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وهنا ننقل كلمات معبرة عما نحن بصدد الحديث فيه وهي للأصفهاني في كتابه الذريعة إلى مكارم الشريعة يقول:”في مراعاة أمور الدنيا والآخرة، الناس ثلاثة أصناف: صنف منهم المنهمكون في الدنيا بلا التفات منهم إلى العقبى، وصنف مخالفون لهم غاية المخالفة يراعون العقبى من غير التفات منهم إلى مصالح الدنيا، وصنف متوسط قد أعطوا الدارين حقهما، وهذا الصنف هم عند الحكماء الأفضلون لأن بهم قوام أسباب الدنيا والآخرة، ومنهم عامة الأنبياء لأن الله عز وجل بعثهم لإقامة مصالح المعاد المعاش، ولأن أمورهم مبنية على الاعتدال الذي هو أشرف الأحوال. والتطرف يمثل الطريقين الأوليين أو أحدهما، فكان مذموما، مع ما يقتضيه الطريقان أو أحدهما من أمور تؤدي إلى الهلاك والخراب.
الصراط المستقيم
التدليل على هذا المظهر لا يحتاج إلى كثير عناء، لأن التطرف صفة لازمة للخروج عن الصراط المستقيم قال تعالى: (وأنَّ هذا صراطي مستقيما فاتَّبِعوه، ولا تَتَّبِعوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بكُم عن سبيله، ذلكم وَصَّاكم به لعلكم تتقون)، وقد فسر الصراط المستقيم بالإسلام، فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: “الصراط المستقيم هو الإسلام وهو أوسع ما بين السماء والأرض”، وهو الذي جعله جل ثناؤه سبباً للوصول إلى رضاه، وطريقاً لمن ركبه وسلك فيه إلى جِنانه وكرامته، وعلى ذلك فسرت السنن كذلك بالطريق المستقيم، كما في قوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُكَذِّبِينَ) وتعلق المعنى بما نحن بصدد الحديث فيه واضح جلي، لأنه جاز لك أن تقول: فلان على السنة أي على طريق الاسْتِوَاء لا يَميل إلى شيء من الأَهْواء وهذا يدل على أن مفهوم التطرف متعلق بانحراف فكري، ومخالفة للسنن الإلهية والكونية والفطرية، ومجانبته للطريق الشرعي المستقيم الذي يعتبر واحدا وما عداه معوجة وبعضها يشبه بعضاً في الاعوجاج، ولا شك أن التطرف قمة في الاعوجاج، لأنه خروج عن سبيل المؤمنين، قال تعالى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْـمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا).
مصلحة العباد
إن الفطرة هي صفة يتصف بها كل موجود في أول زمان خلقته وهي مخلوقة للسكينة والطمأنينة ولا تتوانى في البحث عن الهدوء ومتهيئة دوماً لكل ما ينفعها ويحقق سعادتها، والتطرف منهج يعوق مبتغاها ومسعاها، والإسلام وباقي الأديان أتوا لتنميتها ودفعها إلى الرفعة والارتقاء، لأن المقصد الأصلي لبعثة الرسل هو تحقيق مصلحة العباد وإسعادهم في العاجل والآجل والفطرة في تكوينها وحقيقتها تنافي مفاسد التطرف وبلائه، فحيث ما “عرف بالعقل أنه من صالح الحياة الإنسانية كان مطلوباً شرعاً، وما عرف أنه من المفاسد كان منهياً عنه لا يقرر الشرع بذلك بلسان الأمر والنهي، ولكنه يعتمد فيه على إدراك العقول الصحيحة والفطرة السليمة للمصالح والمفاسد”، وكل ما يخالف هذا الأصل، حتى وإن ظهر أنه من الإسلام، فهو عند التحقيق ليس كذلك. فالدين في الإسلام مرتبط بالفطرة والانسجام مع الإنسان، ولا من سبيل لتجاوز ذلك بأي حال من الأحوال حتى ننجح في بناء مجتمع متماسك وآمن.
لقد خلقنا الله في هذه الحياة لهدف تحقيق عبودية الله عز وجل، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ، مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ)، وذلك من خلال عمارة الكون والأرض، يقول تعالى: (... هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ)، ومن هنا كانت ضرورة الوسطية التي ترتكز على هذا البعد وعلى فلسفة الوجود بالمفهوم الإسلامي في أبعاد مفهوم خلافة الإنسان لله في الأرض قال تعالى: (ثم جعلناكم خلائف في الأرض...)
فالنظام الاجتماعي في الإسلام من حيث وجود المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى مؤسس على مبدأ خلافة الإنسان، التي ترجع الإنسان إلى مكانته الكونية للتنمية والتقدم والازدهار، لأن التنمية لها مفهوم شامل تعبدي ووجودي وأخلاقي وحضاري؛ إذ الغاية تكمن في تحقيق الكمال الإنساني في الإسلام، المتمثل في عبوديته لله سبحانه وتعالى كتعبير عن علاقة الوجود بالله، فهي حركة مستمرة نحو ما يجب أن يكون.
إذن يبدو جليا أن هذه الممارسات الفكرية التطرفية تسهم في إثارة ما يعوق التنمية الشاملة. وهذه الظاهرة تستدعي سرعة البحث والمعالجة لأصلها وآثارها وأسبابها من كل المهتمين.
د. محمد قراط