بقلمي / محمد البنا

Mohamed Elbanna

ورقة بيضاء وقلم أسود

لا تسألوني عن بطل قصتي ، ما اسمه ، أو ما مهنته ، إن شئتم اختاروا له اسمًا ومهنة ، فأنا أثق في قدراتكم .
هو صديقي ، لا لا ..لن استهل إقصوصتي بكذبةٍ بيضاء، في الحقيقة هو ليس صديقًا لي ، ولكني أعرفه معرفةً شخصية ، أما عن أحداث قصتي فهى حتى هذه اللحظة مشوشةً في ذهني ، نعم أعي تفاصيلها ، وتختلج مشاعر حروفها في وجداني ، لكني وللحقيقة لا أعرف من أين سأبدأ ، كما أنني لا فكرة قد تبلورت عندي عن كيفية إنهائها ، وهنا يأتي دوركم للمرة الثانية ، طبعًا تتذكرون المرة الأولى عندما إقترحت عليكم اختيار اسمٍ ومهنةٍ له ، أما هذه المرة فآمل أن تستمتعوا بأحداثها ، رغم أن هذا ليس هدفي الرئيس ، وأن تجتهدوا قليلًا للربط بين الأحداث ، وأخيرًا أن تستنبطوا مرادي من تلاوتها على أسماعكم ، هذا المراد الذي لم أحدده حتى لحظة تدويني لهذه السطور !
قابلته صدفة .. ها أنا أكذب للمرة الثانية ، فهى لم تكن صدفة ، كمان إنها لم تكن عن سابق موعد معه .
جمعنا وثلة من مهندسي العالم المتحضر مؤتمرٌ عالمي ، وعندما إعتلى المنصة ، خلع نظارته الطبية ، وأفرد على الطاولة أمامه ورقةً بيضاء ، والتقط من جيب سترته السوداء قلمًا أبانوسيًا أسود ، تعكس الأضواء الساطعة بريقه اللامع ، وتعكس أيضًا سواد عينيه الشديد ، وبياضهما الأكثر شدة .
لم ألمح للحظة إنفراجة شفتيه ، ولكن صرير قلمه كان مدويَا ، ونظراته موزعةً بالتساوي في عقول الجميع ، بالنسبة لي لم يقل شيئًا جديدًا فأنا أعرفه كما سبق وقلت لكم ، لذا كانت المفاجأة لي صاعقة ، عندما صفق بحرارةٍ له الحضور ، وهذا الذي صفقوا له صباحًا ،رأيته في مساء ذات اليوم غاسلًا للصحون في قبو مطعم عشاء في ذات المدينة المطمئنة ، يشاركه ثلة من أبناء جلدته تسللوا لواذًا لأحيائها الراقية الطافية بنعومة في أمواجٍ هادئة زبدها رخاءا .
هندامه النظيف ، سواد عينيه ، وعمق نظراته ، كانوا مدعاةً لنادلةٍ شقراء جميلة ، شعرها جدائل من ذهب ، عيناها لؤلؤتان زرقاويتان ، جسدها ممشوقٌ نحيف ، لا تخفى دقة نحت تضاريسه على كل ذي عينين يبصران ، كانوا مدعاةً لأن تنتظره ريثما يُنهي عمله ، وتصطحبه إلى شقتها .
صمته استولى على مشاعرها ،بما أفاض به من همسات ، نظراته الدافئة أججت غرائزها ، فأماطت عن عينيه نظارته ، وسبحت في بحر عينيه ، وغرقت .
مع إنبلاج الفجر عن الليل البهيم ، لملم أشياءه ، ولم ينس أن يخرج ورقته البيضاء ، ويدون بقلمه الأبانوسي الخالي من المداد ، ثم يطبقها بحرفية شديدة ويدسّها والقلم في جيب سترته الداخلي وينصرف .
أخبرني ذات أمسية ، ولا مبرر لما يحيك في صدوركم الآن استنكارًا لإخباره لي ، فلا داعي أن أذكركم أنني أعرفه جيدًا ، أه ...يبدو أنني نسيت أن أخبركم أنه أيضًا يعرفني معرفةً جيدة ، رغم أنني لست صديقه ، لذا أخبرني ذات أمسية أن الحياة منقسمةً إلى نصفين ، أولهما يُدوّن بالقلم الأبانوسي الأسود الخالي من المداد ، ونصفها الآخر يُدوّن بذات القلم الأبانوسي الأبيض المداد ، وكلاهما على ورقةٍ بيضاء ، شريطة أن يخلع نظارته الطبية .

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 21 مشاهدة
نشرت فى 15 نوفمبر 2016 بواسطة azzah1234

عدد زيارات الموقع

161,029