الارتقاء للأسفلِ
بقلم: المنجي حسين بنخليفة – تونس -
حانة في آخر زقاق مظلم، اختبأتْ في البلاد العتيقة، فتحتْ أبوابها في زمن كان الدخول إليها منقصة، من يرتادها يسقط من سلّم مجتمعه، كان المتسرّب إليها يتنكّر، يبحث عن رفقة قبل الدخول، تراهم يستنكرون وجودها بين أزقّتهم في النهار، وفي الليل يترحّمون على والد من فتحها، كان الواحد منهم يلتفتُ كالسارق قبل فعلته، فإذا أمن العيون انساب في الزّقاق، خطاه تكاد تسبقه في الدخول. الخمرة في زمنهم كانت نشوة، ومسح أتعاب النهار، ومن في زاده معرفة، كانت مفتاح ما استغلق من أفكاره، وما تنافر من حروف كلماته، فتفتح أبواب الغرف الموصدة من فكره، فتلمّ شمل شتات الكلمات، من أدب، شعرا ونثرا.
اليوم خفتَ بريق الحانة، فالمدينة امتلأتْ بحانات اتسعتْ، وتجمّلتْ، وما عاد من يدخلها ينكرها في النهار، فقد تبرّجتْ وتعرتْ ببلّور يكشف من جلس، ومن ترشفتْ من كأسها فنسيتْ ستر أماكن من جسدها تستهوي المارين، لم تعد الخمرة كسابقتها، تنعش، وتريح، وتفكّر، فالناس ملّتْ من بقايا عقولهم فسكبوا عليها كؤوسا من النسيان، لعلّها تريحهم بغيابها، فينتشون بالغياب. إلاّ روّاد هذه الحانة المرمية من زمن مضى، فالخمرة عندهم لها فكر، وفلسفة، ودور خفيّ لا يعرفه إلاّ هم، وُلِدَ فكرهم من رحم سجن واحد، تجرّعوا عذاباته معا، تشابكتْ أكفهم لتكفيف دموعهم، الزاد يتقاسمونه وإن قلّ، إن أحدهم تهاوى له من روحه ركنٌ، تسارعوا لترميم ما تداعى.
يلتقون كلّ مساء، لا غريب بينهم، أول الجلسة، هدوء، وسكون، ووقار...لا صوت يرتفع، ولا قنان الخمرة تحدث بعد فراغها جلبة وصوت اصطكاك، لكن حينما تصل الخمرة لمواطن الأسرار، تفضح ما حرصوا على طمره خوفا، وخجلا.
الأستاذ حامد له بينهم تقدير وتبجيل، في السجن كانوا يستشيرونه فيما اختلفوا فيه، ويحكّمونه في شجارهم، إذا تكلم يفاجئك بأفكار ما اعتدت سماعها، غريبة، وطريفة، ولكن حين يشرحها تقنعك، وإذا فكرت فيها قلت كيف غابت عن فكري. تلاميذه رغم تلحفه بالغياب مازالوا يردّدون أفكاره، ويستشهدون بكلماته، حديثه طريف، إن طرح ما استغلق من الأفكار وشّاها بما داعب من الكلمات.
صاحب الحانة ورث عن أبيه قلة الكلام، وعدم النظر في عيون مريدي حانته، يعتقد أن النظر في عيونهم يكشف سرّهم، وهم لولا الهروب من سرّهم وماضيهم ما حملتهم خطاهم إلى عتبات الحانة المستترة، ولكن حينما تدبّ ما حملت الكؤوس المسكوبة في أجوافهم، يسفر السرّ وماضيه عن أشياء كانت مركونة في ظلام النسيان، فكأنّ ما يحتسونه زيتُ قنديل يضيء لهم كهوفهم المظلمة، فتظهر لهم أشياء لو ذُكرت لهم في صحوهم ما عقلوها.
احمرّتْ عينا الأستاذ حامد، ارتعشتْ يداه عند اقتناص الكأس من فوق الطاولة، تراقصتْ الخمرة في الكأس، تطاير رذاذها، تنحنح، ارتخى قليلا، جسده بدأ بإعلان تمرده عن أعراف الهيبة والوقار، سحب كرسي خيزران، اتكأ عليه، حتى إذا أخذت ثورة الجسد مداها تجد الكرسي يلجم تمرّدها، يحدّ من تمدّدها، لكن من يلجم لسان الأستاذ حينما يبحر في محيطات نظرياته الغريبة، حين يرمي مرساته في موانئ فكرية متباينة، حينها الكلّ يصغي إليه، ويتركون فوضوية حديثهم، ليشنّفوا آذانهم بكلمات تخرج طرية ندية من أعماق روحه، وإن حملتْ في ظاهرها شطحات الغرابة فهم خير من يدرك جمال معانيها، فقد قال فيه أحدهم: ارعوا في أرض الأستاذ وهو مخمور، فإذا صحا أصبحت بور.
قال الأستاذ بصوت أجشّ، تزيده الخمرة والتدخين بحّة ليس منفّرة: يا سادة هذا المكان، يا رفاق الـ"لا" في سجن السلطان، يا صحابي في كؤوس أسوء أنواع الخمور، إنّني تيقّنتُ أنني لست إنسانا، أنا حيوان مثل كل حيوان.
قال له أحدهم: الواضح قد بالغتَ في الشرب هذه الليلة يا أستاذ.
قال: كنت سكرانا قبل الآن، والآن صحوتُ، كنت جاهلا فعلمتُ، كنت ساهٍ فانتبهتُ...
وأنا طفل صغير من شدّة حبي للفاكهة كانت عائلتي تسميني "فأر الفاكهة"
والدي كان يزعجه كثرة لعبي بالكرة أنا وأولاد حيّنا في الشارع، وكلّما أصابت الكرة بلّور أحد المحالات اشتكوا لوالدي، يصرخ فيّ: تعال يا كلب، والله لأحرمنّك من هذه الكرة اللّعينة، فيمزقها قطعا، حتى اقتنعت أنّ فيّ شيئا من الكلب، فوالدي لا يخطئ.
معلمنا مسعود، ومن منا لا يعرف هذا المعلم، ومَن مِن الأولاد لم يتجرّع ألام عصاه التي اختارها بعناية من فرع زيتونة أطلت من فوق سور المدرسة لتذكّر معلمنا أن أغصانها تحت أمره، يقتطع منها متى شاء، فعصاه في ظاهرها التأديب، وفي باطنها الإهانة والعذاب، كان معلمنا طويلا، طول مع نحافة حدّ الميلان، شعره أشعث، وذقنه يتذكره بالحلاقة مرّة كلّ أسبوعين، ملابسه متّسخة تفوح منها رائحة سجائر عطنة، محفظته الجلد الكبيرة اصطبغت بلون أسود عند مقبضها، وأطراف أماكن غلقها، يرميها فوق الطاولة، بعد أن يخرج عصاه، يمسكها باليمنى ويصير يربِّتُ بها على كفه الأيسر، كانتْ لديه عداوة غريبة للكلمات الطيّبة، فكلماته تكاد لا تخرج من:
ـ أنتَ يا حمار اخرج للسبورة...
ـ لو كنتُ أفهّم في خنازير لكانت فهمتْ...
ـ أنتِ، مالكِ تختبئين وراء زميلتكِ كالدجاجة...
حتى صرنا لا نعتبر هذه الكلمات مسبّة لكثرة سماعها، صرنا نرددها فيما بيننا، ولا أحد منا يغضب.
كبرنا، وكبرتْ معنا مسبّتنا، في الصغر كان عذابنا من عصا معلمنا، والآن سجن، وقيد، ومنفردة، مخطئون حين ظننا أن "لا" تطهّرنا... وترفعنا... وترجع فينا شيئا فقدناه في الصغر، شيئا فقدناه في كلّ خطوة خطوناها في الكبر، قالوا هذه البلاد بلادكم، فاحموها من كلّ الأعداء، كلّ ما فيها لكم، سهولها، جبالها، خيرات أشجارها، والبحر، والسماء...عشقناها، وكلّ عاشق مهووس بمن عشق، فقلنا: "لا" لمن رأينا في عيونه غدرا، لمن سرق، ونهب، لمن سجن، وشرّد، وقتل بلا سبب، لمن ظن أن هذه البلاد قطعة أرض يورّثها، يقسمها، ويهديها كما يشاء...آه من حرف: "لا" أشقى حروف الهجاء، أقساها، وأصعبها...به عيون غسلتْ وجه شهيد، قال: "لا" قبل الوداع ثم فارق، به قيود كبّلتْ كفّ أديب، ورسّام، وشاعر...به اتهمونا من فرط عشقنا أننا خُنّا الوطن، وهم من فرط سطوتهم صلّاح البلاد.
ماذا يبقى لنا من بعد "لا" إلا عالم وصفوه لنا منذ الصغر، فاِرْضَوْا به يا سادتي، اِرْضَوْا به، فهو خير من عالم فيه البشر عجزوا أن يحموا أرضهم، وذاتهم، و"لاءهم"...
دمعتْ عينا الأستاذ، ورفاق الكأس مسحوا على الخد باقي الدموع، تقاسموا ما في القنينة قبل الخروج، عبروا ضيق الزقاق إلى فسحة الشارع الكبير، أوقفتهم دورية شرطة حين رأتهم ليس لهم على أجسادهم سلطان.
قال لهم شرطي: أبشر أنتم أم حيوانات حتى تفعلوا في أنفسكم هكذا!
قالوا له بصوت واحد: حيوانات يا سيدي، حيوانات، نحن رضينا، فهل هذا يرضيك؟
2016

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 26 مشاهدة
نشرت فى 23 أكتوبر 2016 بواسطة azzah1234

عدد زيارات الموقع

160,554