قبل أعوام قليلة، لم تكن مناهج ومقررات كليات الطب تشير من بعيد أو قريب لمرض التوحد، إلا في حالات قليلة متفرقة. ويعود السبب في ذلك إلى أن هذا المرض، وبعد توصيفه لأول مرة من قبل الطبيب النفسي الأميركي "ليو كاننر" في عام 1943، ظل مرضاً نادراً إلى حد كبير. أما الآن، وحسب مركز التحكم والوقاية من الأمراض في الولايات المتحدة، فيتعرض واحد من كل 166 طفلاً أميركياً، إلى درجة من درجات التوحد، وهو ما يشكل ضعفي نسبة الإصابات قبل عشرة أعوام فقط، وعشرة أضعاف معدلات الإصابة مقارنة بالجيل السابق. ولم تقتصر هذه الزيادة على الولايات المتحدة فقط، بل حدثت بقدر مماثل أيضا في اليابان، وانجلترا، والدانمرك، وفرنسا. والمثير للدهشة أن الأطباء والعلماء، لم يتمكنوا حتى الآن من الخروج بتفسير جيد لهذه الزيادة الهائلة. حيث لا تزيد التفسيرات المطروحة حالياً عن كونها آراء ونظريات، مثل حدوث زيادة في المعرفة العامة بطبيعة هذا المرض، بالإضافة إلى تكثيف حملات التوعية الصحية الهادفة للتعرف على والتشخيص المبكر للمرض، وهو ما نتج عنه كشف عن المزيد من الحالات. أو ربما كان سابقاً، يتم تشخيص الكثير من الأطفال المصابين بالتوحد على أنهم متخلفون، أو مجانين، ويتم حجزهم مدى الحياة في المصحات العقلية، أما الآن فيتم تشخيصهم بشكل سليم ليضافوا إلى أعداد المصابين بالمرض. وفي محاولة للوصول إلى تأكيد أو نفي تلك النظريات والاحتمالات، وهي كثيرة، تضاعفت الميزانية الفيدرالية الأميركية المخصصة لأبحاث التوحد، لتصل حالياً إلى 100 مليون دولار. وتضاعفت أيضاً ميزانيات الأبحاث المتعلقة بالتوحد في معظم الدول الصناعية، في محاولة مماثلة للتحقق من النظريات التي تسعى لتفسير أسبابه.
وربما كان من أهم النظريات الساعية لتفسير أسباب التوحد، تلك القائلة بوجود علاقة وطيدة بين التوحد وبين العوامل البيئية المختلفة. ولذا يقوم مثلاً علماء السموم في مركز الصحة البيئية للأطفال ومكافحة الأمراض بمدينة "دافيس"، بدراسة عينات من الشعر، والدم، والبول، والأنسجة، من 700 عائلة مصاب أحد أفرادها بالتوحد. باحثين عن أية بقايا من المعادن الثقيلة، أو المبيدات الحشرية، أو الأفيونات، وغيرها من السموم. بينما يعتقد علماء معهد الأبحاث الطبية المتعلقة بالاضطرابات العصبية التطورية بجامعة كاليفورنيا، بأنهم على طريقهم لاكتشاف مهم جداً، حول سبب نوع واحد على الأقل من التوحد، يتميز بإصابة العائلات بشكل قوي. حيث تمكنا من التعرف على أجسام مضادة غير طبيعية، في دماء الأطفال الذين تعاني عائلاتهم من منظومة الطيف التوحدي. وبشكل أكثر أهمية، تواجدت هذه الأجسام المضادة في دماء الأمهات اللواتي أصيب أكثر من طفل من أطفالهن بالتوحد. وفي نفس الوقت، يؤمن الكثير من الباحثين بأن التوحد ينتج عن خليط من الضعف الوراثي ومن المثيرات البيئية. ففي التوائم المتشابهة، تصل نسبة احتمالات إصابة كلا الطفلين معاً إلى ما بين 60% إلى 90%. وبشكل شبه مؤكد، يؤمن الكثيرون بأن منظومة الطيف التوحدي، تنتشر في عائلات بعينها. وبالفعل، وجد علماء الجينات في أبحاثهم على التوحد، بعض المناطق المثيرة للشبهات على الأجسام الصبغية (الكروموسومات)، وإن كان يحتمل أن تكون هناك العشرات من الجينات المسؤولة عن المرض.
ورغم أن العلماء لم يستطيعوا بعد، تحديد الأسباب المباشرة خلف الإصابة بالتوحد، أو التعرف على العوامل التي أدت إلى زيادته بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، إلا أن الكثير من الخرافات المحيطة بالتوحد، أصبحت تتساقط الواحدة تلو الأخرى. انقشاع الخرافات تلك، أدى إلى تأكيد بعض الحقائق والصفات التي تميز هذا المرض. من هذه الصفات نذكر:
- التوحد مثله مثل الأمراض السرطانية، عبارة عن طائفة كاملة من الأمراض، لكل منها سببه الخاص. فمن المعروف والمؤكد، أن المرض يظهر في شكل طيف واسع من الأعراض مختلفة الشدة، بدءاً من الإعاقة الشديدة، وحتى الإعاقة البسيطة. وهو ما يدفع الأطباء إلى استخدام لقب "اضطرابات الطيف التوحدي"، في إشارة إلى اختلاف درجات وأشكال المرض.
- على عكس ما كان يعتقد سابقاً من أن التوحد ناتج عن مرض المخيخ، وهو جزء في مؤخرة المخ يعمل على دمج النشاطات الحسية والحركية، أصبح ينظر للتوحد حالياً على أنه مشكلة عامة في كيفية تواصل أجزاء المخ مع بعضها بعضاً.
- ربما كان لجهاز المناعة دور حيوي في الإصابة ببعض أنواع التوحد على الأقل. وهو إذا ما ثبت، فربما قد يفتح طرقاً جديدة للوقاية والعلاج.
- الكثير من الأعراض الكلاسيكية للتوحد، مثل الدوران، وخبط الرأس، والترديد اللانهائي لبعض العبارات، ربما تكون ميكانيزم للتكيف، وليست سلوكيات متأصلة. بينما يمكن اعتبار بعض الأعراض الكلاسيكية الأخرى، مثل فقدان المشاعر، وعدم القدرة على الحب، على أنها نتاج لضعف الاتصال. وهو ما يمكن أن يفسر أيضاً، وجود نسبة مرتفعة مفترضة من التخلف العقلي بين المرضى.
ساحة النقاش