بين المثالية والتذكر والنسيان

انحراف الفطرة يكون بالنسيان الذي يسببه الجهل, لذلك فالإنسان بحاجة إلى العلم والعقل ليعود ويتعرّف على فطرته السليمة.
كالبحر لا حدود لمعانيه ,تتقاذفك أمواجه من معنىً إلى معنى ,وفي كل مرةٍ تحملك إلى شاطئٍ مختلف، فقط جرّب أن تُبحر فيه ولو لمرةٍ في حياتك !
هل الإنسان كائنٌ مثاليّ!
جرى تداول كلمة (المثالية) بين الناس كصفة تطلق على شخص أو فعل أومجموعة من السلوكيات تصدر عن شخصٍ ما تجتمع فيه معاني السمو والرفعة عن صغائر الأمور التي يمكن أن نقول عنها بأنها مخلّة أو وضيعة فتكون ضد العدل والقانون الأخلاقي والقانون العام في مجتمعٍ ما قياساً إلى قوانين وقواعد ومعايير يحدّدها المجتمع، حتى ليبدو ذلك الشخص أو الفعل نموذجاً يُقتدى به .
فمن هو الإنسان المثالي ,وماهي صفاته؟ وهل الإنسان بطبعه كائنٌ مثاليّ؟
أسئلة  ثارت في ذهني ,أسئلة قابلة للنقاش والبحث لها عن إجابة أمر مشروع بل واجب في عصرٍ نرى فيه التناقضات صارخةً وصريحة ,بين حروبٍ عسكريّةٍ وفكريّةٍ وعنصريّة تُشنّ باسم الإنسانية وصناعة واقعٍ مثاليّ لإنسان العصر ,وبين واقعٍ إنسانيٍّ مأزوم تخلّفه تلك الحروب ممن يتعامل مع الآخر بفوقية وجبروتٍ وكأنه فوق كل القوانين والأعراف والمبادئ ,وآخر يلاقي صنوف العذاب والخضوع والعبودية!
أسئلة قابلة للنقاش والطرح والإستفهام بين إدعاءاتِ إقامة العدل والمساواة بين البشر والمناداة بحقوق الإنسان وبين المكاسب الذاتية الإقتصادية والسياسية والإجتماعية منها التي تختبئ خلف تلك الإدعاءات.
فما هي المعايير والقواعد والقوانين التي يحتكم إليها البشر ليصبحوا مثاليين أو لنطلق على مجتمعٍ ما أنه مثاليّ ,فمعرفة البشر بتلك القوانين وتحديدهم لها سيساعدهم للإقتراب من المثالية التي يتوقون إليها ..على مرّ الزمن تكفّلت المجتمعات بوضع هذه القوانين وإن لم تكتبها ولكن هناك إتفاق جماعي عليها تمثّل ذلك في العادات والتقاليد والأعراف ,ثم جاءت الأديان السماوية لتسعى لتوضيح تلك القوانين بشكلٍ أكبر بالإبقاء على ما كان منها صحيحاً وتغيير ما كان منها خاطئاً أو يتنافى مع مبادئ العدل والمساواة ,بتسليط الضوء على الخطوط العريضة للقوانين ووضع الإطار العام لها في هئية مبادئ وعقائد قلبية وعملية تهذب النفس وتنظّم السلوك.
 والسؤال الذي يهمنا في مقالنا :أيّ مثالية يصبو إليها الإنسان مادامت القوانين التي يحتكم إليها ليست ثابتة ولا مستقرة أو حتى عادلة خاصةً بعد تخلّي الإنسان عن مضامين الدين ومبادئه السامية ,واستخدامه كأداة ووسيلة لتحقيق مآربه وأطماعه على الأرض ,وإخضاع الآخر لتسلّطه وجبروته..وإذا كان لا يزال يتمسّك بالدين الحق فإنه يعتمد على فهمه الخاص لتلك القوانين الدينية ,ذلك الفهم الذي لا ينفكّ عن ذاتيته ورؤيته الخاصة للواقع ,ما يجعله مشوّهاً وقاصراً –في أحيان كثيرة-عن آداء مهمة التقنين والقياس؟
فمعرفة القوانين والتزامها كفيلٌ بإيصال الإنسان إلى مرحلة أو درجة معينة تقترب من المثالية ,,فما هو مصدرهذه المعرفة.
لقد حدّدها أفلاطون وهو  الفيلسوف الأثيني ورائد المثالية بأن المعرفة  تذكّر والجهل نسيان، إذا سلّمنا بهذه المقولة ,فهل هذا يعني أننا فُطرنا على المعرفة ثم نسيناها وما علينا إلا تذكّرها لنتمكّن من تمثّلها في حياتنا ,وماجهلُنا بتلك المعرفة أيضاً إلا نسيانٌ لها؟
المثالية كمعنىً سامٍ -إذا تحدّثنا عنها على أنها تعني الكمال المطلق للإنسان, يضطر الإنسان كثيراً إلى التخلِّي عنها حفاظاً على طبيعته المادية النابعة عن غريزةٍ تختبئ خلف عدة دوافع وحاجات جسدية ونفسية ,كغريزة الأكل التي يعبّر عنها دافع الجوع ويشبعها الطعام كمادة تدخل الجسد وتتفاعل معه.
وإذا كنا نقصد بالمثالية هي تلك الحياة الطبيعية التي يعيشها البشر بشكلٍ متوازن بين الروح والجسد ,وأن عقد هذا التوازن والوصول إليه من خلال الطريق السويّ المعتدل الذي هدانا إليه الله يعدّ هو روح المثالية !
فالإنسان بطبعه وفطرته يبحث عن المثالية والكمال إرضاءاً لروحه التي تنزع إلى ذلك نزوعاً ,فتحلّق به عن طبيعته الواقعية المنغمسة في الحياة وماديّتها التي إن تجاهلها تماماً دون هدىً هلك ,وإن إنقاد إليها تماماً دون هدى هلك أيضاً.
فما المقصود بالهدى؟ وماهو ذلك الهدى الذي يجعل البشر يعيش حياةً بين المثالية –الكمال المطلق-والواقعية أو لنقل حياة مثالية متوازنة بين الروح والجسد ؟
أثناء قراءتي لسورة طه عنّت لي من الآيات أفكار تجلّت لأول مرة، وجدت نفسي في حاجة ملحّة لتدوينها، وفي الحقيقة أني لم أعد إلى أي كتابٍ من كتب التفسير لأطّلع
على ما كتبوه في هذه السورة , سوى ما قرأته منذ زمن.
وقد تعمّدت ذلك في هذه المرة ,فما خطر في بالي وجال في ذهني من معان قرآنية خالطت معارفي وتجاربي الشخصية التي اكتسبتها خلال حياتي ولامست في شعوري وعياً خاصاً ربما يختلف أو يتفق مع ما ذكره الأوائل أو المحدثين..يبقى وجه من أوجه القرآن التي تتعدد وتتنوع بتعدد العقول والأفهام التي تقرأه وتستوعبه ..ولنقل بأنها محاولة لربط حياتنا الإجتماعية والنفسية بما نجده من فيضٍ نوراني يُشعُّ بين سطور القرآن.
1-يقول تعالى في سورة طه في مقدمتها:طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى.
لقد أنزل القرآن تذكرة ..يذكر الإنسان الذي يخشى ..
يذكّره بماذا ؟ وهل عرف الإنسان شيئاً قبل أن يأتي الرسل والأنبياء ويعلموه؟
تذكّرت حينها قوله تعالى:
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ. [الأعراف:172]
وتذكرت أيضاً قوله: (وعلّم آدم الأسماء كلها)
هذا يعني أن البشر حباهم الله بعلمٍ ثابت في أصل خلقتهم ,فطرة تدلّهم على خالقهم , وهي مبادئ عقلية فطرية تساعد على تنظيم وتفسير كل ما يتلقّاه الإنسان في حياته ,و مع هذه الفطرة أعطاهم مفاتيح العلم الذي يرثونه عن والدهم الأول جيلاً بعد جيل وهي المعرفة بالأشياء والماديات والمجرّدات والنقليات ,فتتراكم العلوم وتتوسّع وتتشعّب وتختلف وتتنوّع وتنمو على أساس القاعدة العقلية الفطرية الأولى التي تتأصّل في نفوسهم وتدلّهم على أن الله هو الإله الواحد الأحد.
وقد جاء القرآن ليذكّر البشر بهذه الفطرة ويعرّفهم عليها والتي قد تتراكم عليها كثير من الملهيات والمغالطات العقلية التي تبعدهم عن رؤية الحقيقة من خلالها ,فينسون خالقهم وموجدهم الذي يمتلك الحقيقة المطلقة واليقينية ...وهذا النسيان يشقي الإنسان بالجهل والضلال ,فالجهل بالشيء يولّد الخوف والهروب منه بعكس المعرفة التي تقرّبك منه ,والقرآن على هذا معرفة وطمأنينة.
فجهل الإنسان بخالقه ينسيه إياه ويبعده عنه ,وقد جاء القرآن ليذكّر ويعرّف الإنسان بخالقه وبالتالي يقترب منه ويطمئن إليه بالعلم والعبادة والعمل..وأنه تعالى صاحب الحقيقة المطلقة التي لا يحقّ لأيّ بشر أن يدّعي امتلاكها ,فحين يدرك الإنسان ذلك يسعى جاهداً للبحث عن الحقيقة بدل الركون للكسل والخضوع وأنه مهما بذل فلن يصل ,فينتقل إلى الشعور الدائم بحاجته إلى مولاه الذي سيفيض عليه بالهدى والنور...إلى أن يلقاه.
2-تنتقل بنا الآيات في ذكر قصة موسى مع فرعون بشيء من التفصيل...بدأ موسى عليه السلام بمخاطبة فرعون خطاب العقل والمنطق بتذكيره وإشارته إلى آيات الله في الكون ,ولكن فرعون أبى ,فتواعدا يوم الزينة ..واجتمع فرعون وحاشيته بموسى وأخاه ,فأظهر موسى معجزته الربانية التي غلبت سحرهم ,فآمن السحرة لأنهم أصحاب علم وصنعة وأدركوا أن ما جاء به موسى ليس سحراً بل هو أمرٌ أكبر من ذلك أمرٌ لا تدركه عقولهم ..
فكيف يغفل العقل عن الإلتفات إلى ما يحيط به من دلائل وآيات والتساؤل عن مصدرها وحقيقتها في محاولة لزيادة رصيده من المعرفة؟
لقد كان طريق العقل الذي ابتدرهم به موسى في دعوته لا يلائم عقولهم التي غفلت عن رؤية آيات الله في الخلق واعتادت على وجودها ورؤيتها فلم تعد تحرّك فيها الشعور والإيمان ,فلم يكن إلا طريق المعجزة الخارقة والتي تباغت عقولهم الضئيلة وتصعقها بالمفاجأة التي سرعان ما حرّكت عقولهم في المساحة التي تشتغل فيها –أي السحر- حتى أيقنوا أن ما لديهم من المعرفة والسحر الذي يتفاخرون ويتكبرون ويستعلون به على الجهلاء ويسترهبوهم ويخفوِّهم ويقودوهم به ,هذا السحر لا يساوي شيئاً أمام المعجزة الربانية التي لا تضاهي سحرهم بأيِّ حالٍ من الأحوال ,ما جعلهم يثوبون إلى رشدهم ويوحِّدون ربهم تحت تهديد فرعون الذي لم يدرك القصة بعد ,لأن كِبره وذاته المتعالية والجاهلة سدّ عليه كل طرق المعرفة الربانية ,ماعدا الطريق الحتميِّ والأخير الذي لا يمكن بعده العودة ,إنه طريق الموت والفناء إنه حقّ اليقين والعلم الحقيقي الذي لا يدركه الإنسن إلا في لحظاته الأخيرة ,ما يجعله يتذكر أن في الحياة حقائق كثيرة طالما غفل عنها بجهله وعناده ,ويظلّ الموت من الحقائق الكبرى التي لا يسع الإنسان إلا أن يؤمن بها ولو في آخر لحظة من نَفَسِه.
فالعادة تنسي  الإنسان خالقه وتمنعه من التفكّر في سبب الحياة والوجود.
3- ثم ينجّي الله تعالى موسى –عليه السلام- ومن تبعه ,ويُنعم عليهم ويتفضّل بالطيبات ويطالبهم بالتمتّع بها دون الإسراف فيها ,فينغمسوا في ملذّات الحياة التي تلهيهم عن التقرّب إلى الله والتعرّف عليه بدوام ذكره وحفظه.
فكيف تُطغي النعم الإنسان؟
طيبات الحياة وملذّات الدنيا حين يُسرف فيها تستولي على الإنسان ,وتسخّر جسده وعقله للحصول عليها فيزداد الجسد طلباً لها ولا يشبع ,ويزداد العقل تلبيةً لا فلا يقنع حتى تجعله أداةً لإنتاجها وزيادتها ,بدلاً من أن يكون أداةً للحفاظ عليها ونمائها لتمكّنه هذه الملذات من تلبية نداء الفطرة كوسيلة للعودة إلى الله وذكره  ..أما الإغراق فيها فسينجم عنه غفلة ونسيان للخالق وللحكمة السامية التي وُجدنا لأجلها .
4-يذهب موسى عليه السلام ليتلقّى الألواح من ربه ,ويترك قومه مع أخيه هارون –عليه السلام-فيصنع السامريّ العجل الإله الذي لا ينطق ولا يضرّ ولا ينفع ,ويعبده القوم
فكيف يشرك القوم بالله بعد أن عرفوا الله ؟
لقد طال العهد على بني إسرائيل أي مرّ عليهم فترة زمنية طويلة ,وقد عجل موسى عليه السلام إلى ربه ليتسلّم منه الألواح ,ما جعلهم ينسون ربهم وتوحيدهم ويخونوا العهد  الذي قطعوه بينهم وبين الله وكان موسى هو حامل رسالة هذا العهد بينهم...فوقعوا في الجهل ليعودوا ويبحثوا عن إله آخر يملأ الفراغ الذي وقعوا فيه ,وصنع السامري العجل الإله الذي لا ينطق ولا يضر ولا ينفع ..ثم عبدوه..
فبُعد المسافة الزمانية والمكانية بين الرسول وأتباعه يؤدي إلى نسيان العهد بينهم وبين الله فيجهلوا ويضلّوا وكثيراً ما يتفرّقوا شيعاً متناحرة ..لذلك قال هارون حين عاتبه موسى عليهما السلام بقول: (أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ).
فقد كان بعث الرسل والأنبياء مستمراً وإن كان في مناطق مختلفة ومتفرقة وإلى أقوامٍ مخصوصين ,لكن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم رسالته عامة لكل بشر ومستمرة إلى قيام الساعة ,فكان القرآن الذي تعهّد الله بحفظه إلى يوم الدين هو الذكر الباقي للإنسانية الذي يحفظ الناس من الوقوع في الجهل والنسيان وبالتالي الشقاء.

إن طول العهد والإنقطاع عن المعرفة الربانية السليمة الخالصة يؤدي إلى النسيان.
6-ينتقل المشهد إلى موسى عليه السلام والسامريّ ,حين يسأله عما فعله ..فيجيبه بأنه عرف وتنبّه إلى أمرٍ جهلوه ففعل ما فعل وانقادوا إليه .. فما كان من موسى إلا أن دمر العجل
فكيف تكون المعرفة طريقاً للضلال؟
لقد تنبه السامري إلى أمر جهله قومه فاستغل معرفته وجهلهم ونسيانهم في إضلالهم وإرضاء نفسه التي سولت له اقتيادهم في طريق الشك والظلام,حين تُستخدم وتستغل المعرفة كوسيلة وأداة مشروعة في  يد فئة محدودة لخدمة أهداف ومكاسب غير مشروعة شخصية أوسياسية أو اقتصادية أواجتماعية ,فإنها تعدّ ضلالاً...
فالسامريّ بمعرفته تمكّن من قيادة قومه نحو الضلال ما يجعله يرضي غروره كشخصية قيادية لها أهمية كبيرة في المجتمع ويملأ الفراغ الذي سببه النسيان ..وهذا ما يحدث عندما تغرق المجتمعات في الجهل والنسيان والركون فيُستغل هذا الجهل  والمعرفة التي يمتلكها شخص أو ثلّة قليلة لمصالحهم الخاصة ,في إيقاع المجتمع في شبكة من الخداع والغبن والظلم اللامحدود.
فالنسيان طريق المعرفة المضللِّة ,والمعرفة المضللة هي طريق النسيان .  
7-يقول : (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما ,وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا)
ذكر في هذه الآية صاحب العمل الصالح المبني على الإيمان ,ثم ذكر القرآن كمفتاحاً لهذا الإيمان في قلوب البشر ,من طريقين أولهما التقوى ,وثانيهما الذكر.
فكيف يكون القرآن مفتاحاً للإيمان في قلوب البشر من خلال التقوى والذكر؟
لقد أنزل الله كتابه بلسانٍ عربيّ فصيح ومبين تدرك معانيه وتستوعبه عقول البشر ,وتهتزّ له قلوبهم  ...ما يجعل القرآن طريقاً للإيمان من بوابة العقل من خلال الفهم والمعرفة والإستنارة فيحدث لهم ذكراً ,ومن بوابة القلب من خلال التخويف والتهديد ما يقودهم  للتقوى بمعنى حفظ أنفسهم والخوف عليها من الضلال الدنيوي والأخروي ،فالمعرفة السليمة هي طريق التذكّر والإيمان .
فهناك من يؤمن بقلبه ,وهناك من يؤمن بعقله ,وهناك من يأتي من الطريقين .
8-ثم يقول : (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربي زدني علما)
لقد كان عليه الصلاة والسلام يحرك لسانه مع جبريل عليه السلام عندما كان يلقي عليه الوحي مخافة أن ينسى ما يلقى عليه من القرآن ,ولكن الله طمئنه بأنه سيتكفّل بجمعه في صدر الرسول صلى الله عليه وسلم ولن ينساه بل سيعلّمه القرآن .
فإذا كان الله تكفل بجمع القرآن في صدر الرسول ,لماذا أمره أن يدعوه بربي زدني علما؟
الإنسان طبعه النسيان ,وافتقاره للعلم وضعف قدرته في الحصول عليه يجعله دائم الحرص عليه وعلى الإستزادة منه عن طريق الإستذكار لهذا العلم والذكر  للمعلم الأكبر الذي يملك أول العلم وآخره، فيكون الإنسان بحاجة إليه كي يتعلم ويتواضع له كي يزيده من فضله وعلمه ,واغترار الإنسان بقليل العلم الذي يجمعه ونسيان صاحب العلم الحقيقي يوقع الإنسان في الجهل الدائم ظناّ منه بأنه امتلك الحقيقة ووصل إلى النهاية , فيستغني عن مواصلة طلب العلم والإستزادة منه بالسعي وبالدعاء.
النسيان صفة متأصّلة في البشر مالم يداوموا على تحصيل المعرفة.
9-يقول تعالى: (وقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى)..انتقل في هذه الآية وما بعدها في سرد مفصّل لقصة آدم عليه السلام قصته مع الملائكة وسجودهم له ,ورفض إبليس فعل ذلك ,ثم سكنى آدم وزوجه الجنة وانقيادهما لوسوسة الشيطان وخروجهما منها ,ونزولهما إلى الجنة بعد أن تاب الله عليهما ,وأمره باتباع الهدى الذي سيؤتي به إلى البشر جميعاً..
ماهو العهد الذي عهد الله به إلى آدم ثم نسيه؟
إن معرفة الله ووحدانيته هي أول طريق العلم الصحيح ,لأنها تجعل الخلق متساوون أمامه ,ما يحرّر العقل والنفس من الخوف والتعلق بما سواه ,ما يتيح الفرصة لعقولنا لتتمتع بالنظر في داخلها وفي الكون ,فتزداد علماً ومعرفةً بخالقها.
لقد عهد الله إلى آدم لعبادته ,ولكنه نسي ذلك ,لطبيعة الإنسان كثير النسيان وحاجته للذكر وإيجاد الدوافع والبواعث المستمرة للفعل ,لذلك قال تعالى بإنه(ولم نجد له عزما) ،فلا وجود لأيّ تحدٍّ في حياة آدم الوادعة والهادئة تشحذ همته وعزمه لإتمام العهد الذي بينه وبين الله على أكمل وجه–عهد العبودية.
فوضعه الله أمام موقفٍ مهيب يكون باعثاً له يشعره بعظم المكانة والمسؤولية التي أنيطت إليه ,فقال: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) والقصة معروفة حيث سجد الجميع عدا إبليس العدو الأول لآدم وذريته ليضعه لأوّل مرة في مواجهته.
ثم أسكن آدم الجنة وجعله أمام تحدٍّ حقيقيّ مع إبليس,إن هذا العدو هدفه إخراجك أنت وزوجك من الجنة فتشقى ,فكن على حذر وحرصٍ من ألاعيبه ,إنه تحدٍّ يخلق روح المبادرة ويقوّي العزيمة، فهذا المكان تتوفّر فيه كل سبل الراحة وما عليك سوى الحذر.
علم الله سبحانه أن آدم لم يكن جادّاً ,وكان يفتقد العزيمة في آداء العهد الذي نسيه ,فامتحنه بإبليس الذي تمكّن من الوسوسة إلى آدم  وإخراجه من الجنة بوعدٍ زائف ٍ زائل إنه وعد الخلود والمُلك اللا منتهي ,والذي يتوق إليه كل البشر فغريزة البقاء وحب التملّك ونضيف إليها غريزة الأكل أيضاً جعلت آدم الذي نسي العهد ينقاد خلف إبليس ,ويأكل من الشجرة وبسبب فعلته تلك أحياه الله في امتحانٍ أصعب وأشدّ ,فبعد أن كان كل شيءٍ ميسّرٌ لآدم في الجنة أصبح على الأرض لابدّ له أن يكدّ ويتعب ويشقى وينازع شهواته وغرائزه ليصل إلى مبتغاه ,هكذا عصا آدم ربه وأغواه الشيطان بسبب نسيانه وجهله .
فاختاره الله من بين مخلوقاته ليحمل الأمانة ,وهداه سبيل الرشاد الذي  يجب أن يسلكه ,ليدرك منذ ذلك اليوم أن طريق الخلود والملك الذي لا يزول يبدأ بدوام ذكر العهد بوحدانية الله والعمل الصالح ,والتي لن يصل إليها إلا بالعلم والمعرفة ...لذلك قال:
(قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى)
والعداوة التي تقع بين البشر وما يكون بينهم من حروب وصراعات وقتل وجرائم نتيجة طبيعة الإنسان الذي ينسى العهد ,فتتنازعه الشهوات ويضلّ ويشقى..أما من يسير في طريق الهداية بحثاً عن المعرفة فنفى عنه حياة الشقاء والضلال والضيق  ,لأنه سيعيش حياة النور والطمأنينة.
10-ينتقل بعد ذلك لذكر حال المتبع للهدى ,وحال المعرض في الدنيا والآخرة ,ثم يذكّر البشر بما حل بالأمم الهالكة لتكون علامات لأصحاب العقول.. فيقول:(ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكا نحشره يوم القيامة أعمى قال ربي لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتي فنسيتها وكذلك اليوم تنسى)
و سيكون ضياع من أعرض عن الذكر ونسي وتناسى في الدنيا صورةً أخرى لضياعه في الآخرة ,والتي سيستمر فيها تجاهله لكل ما حوله من حقائق ولكن هذه المرة رغماً عن إرادته.
ولو نلاحظ أنه ربط نسيان الإنسان لآيات الله في الدنيا من مخلوقات وكلمات منزلة بنسيان نصيبه من الرحمة وحرمانه منها يوم القيامة، فلماذا هذا الربط ؟
إن مجرّد نسيان هذه الآيات يعني أنه ضيّع طريقه إلى الله فنسي الله معها ولم يُعِر معرفته أي اهتمام ,والتهى بما سوّاه من ملهيات وشهوات وتعرّف على طرقها أيضاً ...ولذلك نُسي حظه من الإهتمام والعناية الإلهية يوم القيامة.
ولأنه لم يجعلها طريقاً لمعرفة الله نسيها ونسي الله معها ..فنسيه الله..وتعالى الله أن ينسى ,هنا يأتي دور المجاز والذي يأتي بمعنى حرمان هذا الإنسان الجاهل من حظه من النعيم ،فكما نسيت في الدنيا ,عليك أن تنسى معه أيضاً نعيم الآخرة .
ثم يحذّر نبيه صلى الله عليه والسلم من النظر  لما فيه الغير من فسحة وسعة في الرزق لأن الرزق الواسع يفتن البشر ويضلّهم فيلهيهم وينسيهم المعرفة الحقيقية ,تلميحاً لمن يقرأ هذه الآيات من المؤمنين بأن يحذروا من فتنة الرزق الكثير الذي يحرمهم ويعمي بصائرهم عن المعرفة الربانية ورؤية الحق باتباع الشهوات وأكل أموال الناس بغير حق وعدم آداء حق الله فيها.
وفي النهاية يوصي  الرسول عليه الصلاة والسلام بالصبر وذكر الله ,وآخر آية تقول : (قل كل متربص فتربصوا ..)
الجميع منتظر وأن الله هو الذي سيحكم بين الناس، لأن كل ما ندعيه من المعرفة لا نستطيع الحكم بصحته أو خطئه ,ولكن الإيمان بالله والتعرّف عليه هي بداية المعرفة الحقيقية التي ستفتح لنا أبواب العلم والعمل الصالح ,والله وحده هو الذي يعلم ,فهو القاضي وهو الحكم وهو العدل!!!


نخرج بعد هذه الجولة بخلاصة ,نربط فيها بين الجهل والنسيان والمعرفة والتذكّر وعلاقتهما بالمثالية:
1-العودة إلى النظر واقتباس العلم المتجدد والمعرفة الدائمة من كتاب الله جل وعلا .
2-العودة للعقل والفطرة السليمة في فهم الواقع وفهم آيات الله في كتابه وفي الكون.
3-مداومة التعلّم الذي يشمل القراءة والكتابة والحفظ والإستذكار والفهم والنظر هو طريق المعرفة والعودة إلى الفطرة والهداية والسعادة الأبدية .
4-الجهل والإعراض عن التعلّم والنظر هو طريق النسيان والضلال والشقاء الأبديّ .
5-المعرفة الدائمة تمنع انتشار الجور والظلم في المجتمع ,حيث يصبح العلم للجميع بدلاً من أن يصبح حِكراً على فئة محدودة قد تقود المجتمع نحو الجهل والشقاء.
6-المعرفة الحقيقية بيد الله تعالى ,وادعاء إمتلاكها وَهمٌ يُسقط الإنسان في مغالطات عقلية تودي به إلى الجهل.
7-البحث عن المثاليِّة يتطلّب مزيداً من العلم والمعرفة والتفكّر والتذكّر ,كما أن الجهل والنسيان يهدمان كل المُثل والمبادئ..على مستوى الفرد ومستوى الجماعة.
8-المثالية درجة يتسابق البشر نحو الوصول إليها بإرساء حالة من الإنسجام مع الذات والله والكون والمجتمع ما يجعل الحياة مليئة بالحركة المستمرة والتنافس الدائم ...حيث لن يحقِّقوا إلا درجة أو بضع درجات منها ,ويستمر التدافع والتنافس  الذي لن ينتهي إلا باللقاء الأخروي بين يدي الله عز وجلّ.
9-المجتمع بحاجة إلى المعرفة على مختلف الأصعدة ليستمر سعيه نحو المثالية حتى يصل إلى درجة متقدمة من التطوّر الحضاري .
10-المثالية لا تتنافى مع الواقعية إنما لكلٍ منهما دورٌ في دفع الإنسان نحو اكتشاف ذاته وواقعه والسمو بهما .

arwa7

علا باوزير

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 523 مشاهدة
نشرت فى 24 إبريل 2012 بواسطة arwa7

ساحة النقاش

علا عمر باوزير

arwa7
من فكرٍ تمتد لنا آفاقه..وأدبٍ يطيب لنا مذاقه..وقّعت اسمي هنا..كانعكاساتٍ قابلةٍ للتعديل ..وضوءٍ يكون هنا دليل..وعزفٍ لحروفنا يروي أرواحنا الخصبة بالحب والعطاء.. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

24,695