3-صنم المذهب
صنم قديمٌ حديث عُرف منذ ظهور المجتمعات الإنسانية ومؤسساتها الدينية والسياسية ,حين تفرّق البشر إلى جماعات تعتنق أفكاراً ومفاهيماً ورؤىً محددة حول مناهج وقيم يلتفّون حولها تكون مغايرة لجماعات أخرى أو أحياناً منبثقة عنها ولكنها تعتمد مفاهيماً أكثر تطوّراً أو تختلف عنها في بعض الجزئيات ..
ينضم إلى هذه الجماعات أناسٌ كثر يرون في ذاك المذهب أو المنهج أو تلك المؤسسة أو الحزب ما يوافق ميولهم الفكرية أو ما يخدم مصالحهم الخاصة ,فتجد الواحد منهم يفني عمره فِداءاً لهذا المذهب ,يعطيه من جهده ووقته وفكره الشيء الكثير ,فقد يكون مؤسّساً أو مساعداً أو منفذاً أو تابعاً...ما يجعل البعض يحوّل مذهبه أو حزبه أو مؤسسته إلى صنمٍ يعبده ليل نهار ,يرى فيه السمو والجمال والفكر الكامل المتكامل والخلّاق الذي لا غِنى للمجتمع وللناس عنه ,وينحني لرموز ذلك الحزب مقدّساً ومبجلاً محيطاً إياهم بهالة الطهر والإجلال ,كما أنه يصنّف نفسه ويلصق باسمه مسمّى التنظيم الذي ينتمي إليه ليكشّر عن أنيابه لكل من يصفه بوصفٍ يتعدى التنظيم ..
حين يحترق في بوتقة ذلك النهج إلى درجة تحرمه من رؤية نقائصه وعيوبه ,مايشكّل حجاباً بينه وبين رؤية الحق أو حتى محاولة النبش عن الحقيقة في ذلك التنظيم ..وهو مع ذلك يحاول الوقوف في وجه من يتجرّأ لذكر سلبيات التنظيم ويتصدّى له بكل قوة وعناد ,ويرحّب بكل من يذكر إيجابياته ويغطي عوراته ومساوئه وكأن هذا التنظيم بات الإله الأعظم الذي لا يقربه النقص ولا يأتي بالخطأ .
وهو يبرّر لتنظيمه أيّ فعلٍ ينتقده عليه الآخرون ,حتى يحافظ على وحدة هذا التنظيم وتماسكه ,دون أن يدري أن مبرّراته العقيمة ينخر سوسها في التنظيم نخراً حتى ليجعل منه واجهةً جميلة لهيكلٍ مهترئٍ قد ينهار في أي لحظة ..
عابد التنظيم لا يهتم كثيراً لمبادئ التنظيم ومدى التزام التنظيم بها وتحقيقه لها ,فكل ما يهمه أن يحافظ على الصورة الذهنية الرائعة التي رسمها له ,وطريقة سير العمل داخل التنظيم دون أن يلتفت إلى النتائج التي يجنيها التنظيم والمكاسب الإجتماعية الحقيقية التي يحرزها عاماً بعد عام ..ومهما كان الضعف بادياً على التنظيم وإنجازاته الوااقعية تجده لا يلتفت إلى ذلك ,فهو لا يريد أن يواجه نفسه بالحقيقة التي تزعجه وتهزّ أركان التنظيم في عينيه ..
لذلك فإنه لا يسعى إلى تغيير التنظيم للأفضل إن كان عاملاً أو النصح له إن كان تابعاً ,خاصةً إذا كان يحقّق وضع التنظيم المزري مكاسباً شخصيةً ومادية له ..
والتاريخ مليئٌ بعبّاد التنظيمات والمذاهب ممن خانوا أنفسهم وخانوا مجتمعاتهم ,لأن التنظيمات والمذاهب عادةً يكون لها تأثيراً كبيراً وواسعاً على المكان والزمان والبشر الذين تعمل على خدمتهم أو التعامل معهم ,بل إن بعض التنظيمات تعمل جاهدة على أن تكون صنماً وأن تحوّل الناس إلى عبّاداً لها ,لتعاقب كل من تسوّل له نفسه للكشف عن مثالب التنظيم أو حتى محاولة الإصلاح عقاباً إجتماعياً صارماً كالإقصاء أو الطرد أو السجن أو التحريض وغيرها من العقوبات التي تصل إلى حدّ التعذيب والموت ...والتي تختلف درجتها باختلاف مستوى التنظيم في القوة والمكانة داخل المجتمع .
ومثال على ذلك الكنيسة في العصور الوسطى عبدها الكثيرون ممن تخلّوا عن عقولهم وسلّموا نياطها لرهبان الكنيسة ,بل إن رهبان الكنيسة ذاتها كانوا عبّاداً لها ولأنظمتها الجائرة ,وقد عرفت الكنيسة من ناحية أخرى كيف تخضع البشر لسلطانها بملامسة عاطفتهم الدينية المتعلّقة بالله سبحانه تارةً أو بإرهابهم تارةً أخرى أو بضعفهم وعوزهم وحاجتهم المادية تارةً ثالثة .
لذلك قامت الثورات الأوروبية ليتخلّص الإنسان من جبروت الكنيسة ,ويكشف عن هويته التي ذابت في ردهاتها ,حتى عاش الجميع في ذلّ وخضوعٍ وجهلٍ وتخلّف..
يقول صلى الله عليه وسلم :(مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا! فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً)
وحتى ينقذوا السفينة حطّموا ذلك الصنم وتخلّصوا من أولئك الذين يعبثون فيها ,وأقاموا تنظيماتٍ جديدة و حرة تعبّر عنهم ..
فاحذر أن تحوِّل المذهب أو المؤسسة أو التنظيم سمّهِ ما شئت إلى صنمٍ يعبد أو أن تكون أنت عابداً له ,وإلاّ فالأجدر بك أن تعلن فساده ومحاولة إصلاحه أو التخلّي عنه ,وسيقول أحدهم :لا نستطيع العيش بلا تنظيمات ,وإلاّ باتت مجتمعاتنا تعيش على الفوضى وتقتات على التفلّت والضياع ؟
كم نحن بحاجة لمذهبٍ أو تنظيم يجمع شتاتنا ويضمّ جهودنا ويعيننا على تحقيق مبادئنا ,شرط ألاّ يجعل منّا عبيداً له حتى نُلغي ذواتنا داخل دوّامته فلا يكاد يظهر لنا رأياً ولا يُسمع لنا صوتاً ,نُغيّب في دهاليزه حتى لا نشعر بقيمة إنجازاتنا في الإسهام في تنميته والرقي به ..تنظيمٌ يكشف الحجب ليرى الحقيقة ويسعى إليها ويساند الآخرين للكشف عنها وإلى تحسين صورته من الداخل والخارج كلما اكتشف قصوراً فيه ..
حاول جرّب يوماً أن تقف خارج ذلك الهيكل وأن تتأمّله مليّاً لوجدت فيه من العيوب الكثير ,وأنت ياصاحب الهيكل جرّب أن تستمع لذلك الذي يقف في الخارج فلعله رأى من الإيجابيات والسلبيّات مالم تراه ..وحاولا أنتما الإثنان أن تكونا يداً واحدة في رفع البناء وتنسيقه وتنظيمه .
كن يقظاً على الدوام وتعرّف على انتماءاتك ..فما كان منها يخالف قناعاتك فتخلّى عنه ,وماكان يعبّر عنك فسارع بالإنضمام إليه ,وما كنت منضمّاً إليه ويعبّر عنك ورأيت فيه مالا يسرّ فاهتم بأن تغيّره للأفضل أو تسهم في ذلك ولو بجهدٍ بسيط .
المهم ألاّ تعبد هذا الصنم الخفيّ دون أن تشعر أو أن يرضخك لعبادته ,كن حلقةً قويّة في داخل التنظيم تحافظ على تماسكه من ناحية بمساهمتك الفاعلة ,وتقويته من ناحيةٍ أخرى بكشف العيوب والمشكلات وإصلاحها وردمها ..لا إغفالها والصمت عليها وتجاهلها ..حتى تستفحل ما يجعل البناء يسقط على الجميع .
ساحة النقاش