كتب: د. علي بن عمر بادحدح17 ابريل, 2012 - 25 جمادى الأولى 1433هـ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، أما بعد:
أنوار آية نتأمل في معانيها، وننتفع بدلالاتها، والآية هي الحادية والعشرون من سورة الأحزاب .
قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
الوقفة الأولى: سياق الآية
فقد جاءت الآية في سورة الأحزاب في قصة هذه الغزوة، وما كان من شأن المنافقين، ومن حال المؤمنين، منافقون تخلفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتمسوا الأعذار الواهية، وركنوا إلى بيوتهم وجلسوا إلى نسائهم، ومؤمنون كانوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ساروا معه في السراء والضراء، وثبتوا معه في الشدة والرخاء، وهذا هو السياق الذي جاءت فيه هذه الآية، كما جاء فيما بعدها: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب : 22].
قال ابن كثير -رحمه الله-: "هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أُمر الناس بالتأسي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب في صبره ومصابرته، ومرابطته ومجاهدته، وانتظاره الفرج من ربه سبحانه وتعالى.
وهنا ملحظ أول وهو الخطاب في هذه الآية موجه لمن؟
بعض أهل التفسير ذكروا أنه موجه للمنافقين المنخذلين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنكم تركتم التقدم في وقت الشدة، وقد تقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونكصتم، وثبت ولم تتحملوا، وتحمل الشدة والجوع كما هو معلوم.
والخطاب أيضاً -كما ذكر بعض المفسرين- للمؤمنين، وهو أيضاً خطاب عام في الاقتداء برسول الله -عليه الصلاة والسلام- وإن كان السياق في هذه الغزوة فإنه يكون سياقاً تربوياً عظيماً؛ لأنه إن طلبتَ القدوة بالرسول في الأحوال الصعبة الشديدة في مثل مواجهة الأعداء، والثبات في المعارك، والصبر على الشدائد، واحتمال الجوع فإن الاقتداء به فيما دون ذلك يكون من باب أولى، وهذا سياق أولي يدلنا على عموم هذه الآية فيما يتعلق باقتدائنا برسول الله -عليه الصلاة والسلام-.
الوقفة الثانية: في معنى الأسوة
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ} والقراءة التي نقرأها (أُسوة) هي قراءة حفص عن عاصم، وقرأ أكثر القراء بكسر الهمزة (إسوة)، وهنا معنيان:
المعنى الأول: الأسوة ما يتأسى به ويتعزى، فإن مر بك كرب فقد مر برسول الله ما هو أعظم منه، وإن ألمت بك ضائقة فقد مر بالمصطفى -صلى الله عليه وسلم- ما هو أشد، ونحن نعرف كيف كانت سيرته.
والمعنى الثاني: أن الأسوة بمعنى القدوة؛ لأن الائتساء هو بمعنى الاقتداء، وكلا الأمرين مشتمل على الآخر، فالقدوة أن نتبع، وفي الاتِّباع تأس وعزاء، كما ورد في قصة المرأة في معركة أحد لما استقبلت بعد رجوع المسلمين بخبر بوفاة أبيها واستشهاده، فقالت: "ما فعل رسول الله؟"، فاستقبلت بزوجها، فقالت: "ما فعل رسول الله؟"، فاستقبلت بابنها: "فقالت ما فعل رسول الله؟" فقالوا: "هو بخير كما تحبين"، قالت: "حتى أراه"، فلما رأته سليماً، قالت: "كل مصيبة بعدك جلل"، أي: هينة، وهذا تعز برسول الله عن كل مصاب، فلئن فارق أحد حبيبه فقد فارقت هذه الأمة وفارقت البشرية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم وفاته.
إذاً معنى الاقتداء هنا هو الاتِّباع ، وفي الاتِّباع تأسٍ وعزاء بكل ما قد يمر بالإنسان من ظروف، فإنه إن جُهِلَ فقد جُهِلَ على رسول الله، وإن أُسيء إليك فقد أُسيء إلى رسول الله، وإن اُتهمتَ فقد اُتهم سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم-، وهذه عبرة عظيمة لنا جميعاً -معاشر المسلمين- وخصوصاً معاشر العلماء والدعاة والحكام والأمراء، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قيل له: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله؟ فقال: (ويحك من يعدل إن لم أعدل، لقد أوذي موسى -عليه الصلاة والسلام- بأكثر من هذا فصبر) وفي هذا عزاؤنا وعزاء كل قائل بالحق، ويجد عكسه من غيره وهكذا، قالوا عنه -صلى الله عليه وسلم-: إنه ساحر، وقالوا: إنه مجنون، وقالوا: إنه شاعر، ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم صبر وجاهد وبلّغ دين الله -عز وجل- وامتثله والتزمه، وصار عليه ولم يجنح عنه، وامتثل أمر ربه: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر : 99].
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ} وعادة ما يُذكر في الاقتداء وجهه وصفته، فنقول: لك في كرم فلان أسوة، ولك في صبر فلان أسوة، ولك في حلم فلان قدوة، لكن هنا رُبط الأمر بتقديم الجار والمجرور بذات النبي صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله} في ذاته لماذا؟ لأن كل ما يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم موضع اقتداء واهتداء وائتساء، نحن يمكن أن نقتدي بهذا في مجال خلق معين، ولكنه في غيره لا يُقتدى به؛ لأنه ليس على الوجه المطلوب فيه، يمكن أن تقتدي بهذا في قوله، لكنك لا تقتدي به في فعله، يمكن أن تقتدي به في حالة رضاه لكنك لا تستطيع أن تقتدي به في حال غضبه؛ لأنه إذا غضب خرج عن حد الاعتدال.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فالقدوة به متعلقة في كل أحواله في سرائه وضرائه، في رضاه وفي سخطه، وهو الذي كان يدعو ربه فأجاب دعاءه، فيقول: (اللهم أني أسألك العدل في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى) في كل الأحوال كان على وجه عظيم من الكمال لم يبلغه بشر مثله -صلى الله عليه وسلم-.
ولذا قال أهل العلم: إن أمر الاقتداء بالرسول مضطرد عام، عامٌ في الوجوه فيُقتدى به زوجاً ويُقتدى به قاضياً، ويقتدى به حاكماً، ويقتدى به تاجراً ، يقتدى به في تعامله مع أصحابه، وفي تعامله مع أعدائه، وفي تعامله مع أقاربه ، ويقتدى به في كل الأوقات في حِله وفي سفره، في سعته وفي ضيقه، في رضاه وفي غضبه، لا يخرج في حال من أحواله عن الكمال الذي أراده الله -سبحانه وتعالى-، وهذا من كماله -صلى الله عليه وسلم- الذي جمَّله الله به حيث نصبه قدوة لهذه الأمة، وجعله خاتماً للأنبياء والمرسلين، عليهم صلوات الله أجمعين.
ومن هنا قال القرطبي -رحمه الله- في تفسيره: "فيقتدى به في جميع أحواله وأفعاله، ويتعزى به في جميع أحواله"، ثم ذكر شيئاً مما كان من التعزي به قال: "فقد شجَّ وجهه وكُسرت رباعيته، وقتل عمه حمزة، وجاع بطنه ولم يُر إلا صابراً محتسباً"، ومعروف ما مر بالنبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة في يوم الأحزاب، فقد بلغ بهم الجوع مبلغا عظيما، حتى ربطوا الأحجار على بطونهم، قال جابر: "فكشفتُ عن بطن النبي -صلى الله عليه وسلم- فوجدته قد ربط حجرين" أي من شدة الجوع، وكان النبي يحفر معهم ويضرب معهم، والغبار يكسو وجهه معهم، وذلك من دلائل عظمته
عليه الصلاة والسلام.
لا يكون قدوة من يعيش في برج عاجي، لا يكون قدوة من يستثني نفسه من أحوال الناس.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قدوة في كل الأحوال، هذا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يقول: "كنا إذا حمي الوطيس واحمرّت الحدق أي: في شدة المعارك نتقي برسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، وهذا حديث سهل بن سعد لما قال: "استيقظ أهل المدينة يوماً على صوت صارخ -أي في الليل- فخرجوا "يعني يريدون أن يتحسسوا الأمر"، قال: "فإذا رسول الله راجع قد استجلى الخبر، خرج على فرس عري لأبي طلحة، وهو يقول: (لن تراعوا لن تراعوا) سبق القوم لشجاعته، واستجلى الخبر لجرأته، وطمأن الناس لريادته وقيادته"، هكذا ينبغي أن يكون القدوة لمن أراد أن يكون قدوة للناس، وليس أعظم قدوة ولا أحسن أسوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعاً ويقيناً.
ولذلك -كما قلنا- هذا الأمر كان من وجوه عظمة النبي -عليه الصلاة والسلام- ثم أيضاً ننظر إلى أن الآية سيقت كما قلنا في سياق الأمر بالاقتداء به في كل هذه الظروف، في ظروف الحرب والثبات ونحوه، لكنها عامة في هذا الأمر.
ثم نأتي إلى ذات التعلق بالنبي -عليه الصلاة والسلام- ؛ لأن آيات أخرى أيضاً تدلنا على هذا كما في قول الحق جل وعلا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}[آل عمران : 31].
وهذا من وجوه الاتِّباع والاقتداء؛ لأن الاتِّباع هو اقتداء أيضاً، وكذلكم قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر : 7] فإذن استجابتنا لأمره، وانتهاؤنا عن نهيه هو ضرب من هذه القدوة.
وهنا نذكر وجوهاً ثلاثة للتعلق:
الوجه الأول: التعلق القلبي بالتعظيم والمحبة.
الوجه الثاني: التعلق العقلي بالعلم والمعرفة.
الوجه الثالث: التعلق بالجوارح بالاقتداء والمتابعة.
وكل واحد من هذه المعاني مطلوب من كل مسلم تجاه رسوله -صلى الله عليه وسلم- لا يغني بعضها عن بعض، لا نتصور اتِّباعاً للرسول عليه الصلاة والسلام دون أن تكون القلوب خافقةً بمحبته والتعلق به، وتمني رؤيته والشوق إلى أن يكرمنا الله -عز وجل- بشفاعته، ولا يمكن ادعاء محبة قلبية تخلو من المتابعة العملية؛ فإن ذلك ادعاء غير مقبول، كما هو القول في الأبيات السائرة:
تعصي الإله وأن تزعم حبه *** هذا لعمري في القياس شنيع
لو كان حبك صادقا لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطيع
هذا أمر واضح وبيّن، وكلا الأمرين لا يتحقق كيف نقتدي؟ وكيف نحب؟ إذا لم نعرف هذه السيرة ولم نطلع عليها، ولم نلتفت إلى معرفة صحيحها مما قد يكون مختلقاً فيها، فلذلك كل هذه الأمور مطلوبة منا حتى يكون الاقتداء سليما.
من صور الاقتداء:
نعلم صوراً عظيمة يتجلى فيها سير كثير من الأصحاب في مقدمتهم ابن عمر -رضي الله عنه- فقد كان أكثر الصحابة حرصاً على التأسي برسول الله -عليه الصلاة والسلام- حتى في أمور قد لا تكون من وجوه التعبد كما كان ينيخ ناقته في سفره حيث أناخ النبي -صلى الله عليه وسلم- ناقته.
وفي حديث عبدالله بن المغفل أنه قال لبعض بنيه حديث النبي -عليه الصلاة والسلام-: "نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الخذف" وهو القذف بالحصى الصغيرة، فقال هذا: إنه لا يدمي ولا ينكأ جرحاً يعني: لا يؤثر، فقال: "ويحك، أقول نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتقول كذا وكذا، والله لا أكلمك أبدا"، المسألة لا تحتمل، الاقتداء أمر مطلوب لا مجال للتهاون فيه كما كان من فعل الصحابة رضوان الله عليهم.
وكان ابن عباس إذا سُئل أجاب وكان يقرن إجابته كثيراً بهذه الآية فيقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} كما روي في الصحيح عن رجل طاف بالبيت ثم أتى أهله قبل أن يسعى فقال: "طاف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم صلى خلف المقام ثم طاف وسعى بين الصفا والمروة ثم قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}"، كان يستدل بعموم الآية على متابعة فعله في كل شيء، وأن ذلك يكون حجة.
أختم هنا بموقف واحد متعلق بهذه الحادثة التي وردت الآية بسياقها، فأمر المحبة والاتِّباع أمر مرغوب عند كل أحد، لكن هل يقوم به كل أحد؟ وهل يقوى عليه كل أحد؟ كان أحد التابعين مع حذيفة بن اليمان فقال له: "كيف كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟"، فقال حذيفة: "كنا نجْهد" أي: نتعب، فقال ذاك الرجل على سبيل المحبة والعاطفة: أما لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض (بل سنحمله على أعناقنا) وهذا من فيض المحبة الصادقة، فماذا رد عليه حذيفة؟ قال: "لو كنت معنا يوم الأحزاب" الذي وردت فيه الآية اجتمع عليهم شدة برد وشدة جوع وشدة خوف حتى كان أحدهم لا يستطيع أن يذهب فيقضي حاجته قال: "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من يذهب ويأتيني بخبر القوم)"، من القائل؟ الرسول -صلى الله عليه وسلم-، من في القوم؟ كما ورد في حديث حذيفة قال: وفي القوم أبو بكر وعمر فلم يقم أحدٌ، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (من يأتيني بخبر القوم وأضمن له العودة)، فلم يقم أحدٌ وفي القوم أبوبكر وعمر، قال فقال رسول الله: (قم يا حذيفة)، قال: "فلم أجد بداً حين سمّاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، قال: (فاذهب فأتني بخبر القوم ولا تُحْدِث شيئاً حتى ترجع)،قال "فرجعتُ ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، ففتح لي رجليه فدخلتُ بين رجليه أستدفئ بثوبه، ليس الأمر سهلاً ليست المحبة ادعاء، ليس الاتِّباع أمراً ندّعيه، ولذلك: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} قال بعض أهل التفسير وروي ذلك عن سعيد بن جبير: "لمن كان يرغب في ثواب الآخرة، فإن الاقتداء بالرسول نعيم الدنيا، ونجاة الآخرة وثوابها بإذن الله -عز وجل-".
{لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} وأشار بعض أهل التفسير أيضاً :إلى أن هذا فيه تذكرٌ للحساب، وأن الإنسان سيكون في اليوم الآخر يوم الجزاء، فسيسأل كما يسأل المرء في قبره عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعن تصديقه وإيمانه به، يسأل يوم القيامة عن اقتدائه به وعن مخالفته له.
ولذلك قال: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} قال بعض أهل التفسير: "في إطلاق اسم المحل على الحال" يعني المقصود به الحساب الذي يكون في اليوم الآخر.
وهنا أيضاً فيه معنى الخشية وتذكر البعث والحساب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر به فكان يقول عليه الصلاة والسلام: (بعثتُ أنا والساعة كهاتين) كهاتين: أي لشدة القرب، ثم يقول عليه الصلاة والسلام: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم قرنه، وأحنى جبهته، ينتظر الأمر بالنفخ في الصور)، وهو تصوير بليغ عن قرب يوم القيامة وضرورة الاستعداد له، ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث آخر "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله -سبحانه وتعالى-، هكذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يذكّر وينبّه ويقول: (اذكروا هادم اللذات) إذاً المقصود أن المتأسي برسول الله ينبغي أن يستحضر الآخرة في قلبه، وأن يتذكر اليوم الآخر في كل أحواله؛ لأن هذا كان حال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
صلى يوم فأسرع في صلاته، ثم انفتل مسرعاً إلى بيته ثم رجع، فنظر الناس إليه فقال: (ذكرتُ شيئاً من تبر، فخشيت أن يحبسني فأنفقته في سبيل الله) يتذكر في كل لحظة ما وراء هذه الحياة الدنيا من الآخرة.
هكذا تربط الآية ذلك بوجه واضح من وجوه التذكر والاعتبار، ومن وجوه الاقتداء والائتساء.
{وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} فيه اقتداء بالرسول فإنه كان يذكر الله في كل أحيانه، وكما قال بعضهم :إن الائتساء متعلق برسول الله -عليه الصلاة والسلام- في كل الأحوال والأقوال والأفعال، وفي هذه الآية -كما ذكر بعض أهل التفسير- دليل على فضل الاقتداء، وفيه أيضاً: {وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} فإن ذكر الله باعثٌ على اتِّباع رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الذي عرّفنا وعلّمنا بذات الله وبأسمائه وصفاته، الذي بلغنا كتاب الله هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، طريقنا إلى مرضات الله تمر عبر هدي وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولذلك الأمر المهم الذي نحتاج إليه في ذكر الله -سبحانه وتعالى- تذكر أن الطريق الموصل إلى الله هو متابعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولذلك تأتي هذه الآية في سياق من الآيات، ولكنها وحدها تنتصب أيضاً آية مرشدة هادية قائدة لنا في كل أحوالنا.
ومن فضل الله -عز وجل- على هذه الأمة، وعلى ما اقتضته حكمة الله للبشرية في ختام النبوات بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- أن نبينا ولد -كما يقولون- على ضوء الشمس.
فسيرته وصفحات حياته معروفة وجوانب حياته اكتملت فقد كان حاكماً، ولم يكن عيسى -عليه السلام- يوماً في حياته حاكماً، وقد كان رسولنا-صلى الله عليه وسلم- زوجاً، وكان أباً، وكان في كل جوانب الحياة تقلبت سيرته فيها قدوة وأسوة ، حتى ترى الخليقة كلها، ويرى المسلمون على وجه الخصوص في كل جانب من الجوانب ما يحتاجون إليه في حياتهم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا برسولنا صلى الله عليه وسلم متأسين ومقتدين، وأن يجعلنا له محبين، وأن يجعلنا لسنته وهديه متبعين، وأن يجعلنا لآثار أصحابه والسلف الصالح مقتفين.
إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ساحة النقاش