كتب: أحمد صلاح13 نوفمبر, 2012 - 28 ذو الحجة 1433هـ
مرة أخرى لا يمكن فصل العمل الدعوي عن العمل السياسي، طالما مارس الداعية والسياسي عملية، الغرض منها إصلاح المجتمع وتنوير الناس وتحفيزهم نحو التقدم على بصيرة ووعي وفهم، وأن فصلهما عن بعضهما فصلًا نهائيًّا يعنى إخفاء المرجعية الإسلامية تدريجيًّا مع الوقت، ثم نفاجأ بعد فترة بأننا نتجه إلى منظومة سياسية ذات مرجعية مشوشة أو مرجعية غير مستقرة أو غير واضحة في أذهان أعضاء الحزب السياسي، وامتداد عملية الفصل إلى ما لا نهاية يعني اجتزاء المفاهيم السياسية من الإسلام، وعدم الاكتراث بالجوانب الأخلاقية والإيمانية أثناء ممارسة العمل السياسي، وبعدها يتحول البرنامج السياسي شيئًا فشيئًا إلى برنامج برجماتي (نفعي) لا يختلف عن النظم السياسية الغربية، وساعتها سنفقد تميز المنهج وقدرته على التغيير.
المسألة إذن مسألة تخصص أكثر منها مسألة عزل هذا عن ذاك، أو فصل العمل الدعوي عن العمل السياسي، فالبعض ينادي بذلك لأنه لم ير إلا النظم السياسة الغربية التي اتفقت على عزل الدين عن السياسة والحياة منذ زمن، واستقرت على ذلك استقرارًا جماعيّاً، بما يعني أنها لا تستطيع أن تفهم معنى أن يكون هناك عمل سياسي بمرجعية دينية، هذه الفئة تستلهم هذا النموذج الصحيح (من وجهة نظرها) ثم تنادي به، بعض منهم ينادي به حتى يفقد الداعية تأثيره على الناس لأن ذلك يزعجه انتخابيا بصورة كبيرة، والبعض الآخر يخشى من استغلال الدين لصالح السياسة، وهي مسالة شائكة لا تستطيع أن تعرف على وجه اليقين متى يكون الأمر طبيعيا، ومتى يكون فعلاً استغلالاً سياسيّا.
لكن على كل حال، هناك إشكالية في ممارسة الدعاة للعملية السياسية بصورة تسبب أزمات أحيانًا، وتسبب فقدان الثقة وتفريق الصف أحيانًا أخرى.
لماذا يحتاج الداعية إلى الثقافة السياسية؟:
لا يمكن قبول أن يكتفي الداعية بدعوة الناس إلى الفضيلة والأخلاق والتمسك بالدين ثم يكون معزولاً عزلاً تامًا عن الأحداث السياسية، بحيث لا يبدي رأيه فيها ولا يتضح موقفه منها، فلا المنطق ولا الناس سيقبلون ذلك، ولكن المشكلة تكمن في الآتي:
1) إن تناول بعض الدعاة للأحداث السياسية يكون سطحيا إلى حدٍ كبير؛ حيث يستندون إلى آراء فقهية مجتزأة وغير عميقة تجعل آراءهم لا تصمد أمام نقاش سياسي أو فقهي جاد.
2) إن تناول بعض الدعاة للأحداث السياسة يكون غير متوازن، بحيث يسير في خط تأييد تام أو رفض تام، بما يؤثر على المصداقية.
3) حساسية الناس من تدخل الدعاة في الأمور السياسية بصورة مباشرة، في ظل الهجوم الإعلامي المتواصل على التيار الإسلامي، بما يجعل البعض يتصور أن حديث الداعية في الأحداث السياسة يكون بغرض استغلال الدين في سبيل مكسب سياسي، أو في بعض الأحيان يكون نفاقا دينيا للسلطة الحاكمة.
لهذه الأسباب لا بد أن تكون للداعية ثقافة سياسية معتبرة، تؤهله لأن يلم بنظريات السياسة ومفاهيمها العامة وكيفية ممارسة السياسيين عملهم، وبعدها عندما يبدي آراءه، أو يدعو الناس إلى عمل، يكون مستندا إلى خلفية سياسية علمية ومتوازنة وذات مصداقية أمام الناس.
على سبيل المثال: عدد من الدعاة لم يكن يؤمن بالديمقراطية في الدول الإسلامية أو غيرها، وعلى هذا الأساس ظل يحرم الديمقراطية والدخول في الانتخابات التشريعية فترة طويلة، إلى أن أتيحت له فرصة دراسة الفكرة الديمقراطية وعلاقتها بالدستور الذي ينص على تطبيق الشريعة الإسلامية، فبدأ يقبلها ويقتنع بها ويمارسها.
عدد آخر من الدعاة لم يكن يقبل فكرة الحريات إطلاقا، وكانت لديه قناعة أن تطبيق الإسلام لا بد أن يأتي بوسيلة الأمر والإجبار في كل شيء، لكن الممارسة السياسية أثبتت لهم أن هناك تيارات أخرى لا تقتنع بكل الآراء، ولديها وجهات نظر لا بد أن تُحترم طالما أن الوطن للجميع، وأن فكرة الحوار وقبول الرأي الآخر حتى وإن كان من تيارات غير إسلامية (سياسيًّا) قد أصبحت مقبولة.
وفي كل الأحوال يمكن أن يوجه الداعية حديثه وأفكاره نحو اتجاه معين حسب قناعته الشخصية، (مع الديمقراطية أو ضد الديمقراطية) (مع فرض الإسلام بالقوة أم لا) وسيتحدث في الأمرين عن قناعة، لكنه إذا تحدث بخلفية سياسية، سيتحدث ببصيرة ووعي، ويكون ساعتها مثل الفقيه الذي يسأل الطبيب قبل أن يبدي رأيه، ثم يستطيع أن يقرر بعدها، هل هذا الصائم يرخص له الفطر أم لا؟.
محددات حديث الدعاة في السياسة:
أصبح حديث الدعاة في المساجد أمرا شائكا يثير حفيظة الناس ويثير بلبلة أحيانا ويثير مشكلات أحيانًا أخرى داخل المسجد، بما يعرض المسجد لأن يكون مكانا للتفرقة لا للتجميع، لذا أقترح أن يكون حديث الداعية في المسجد في الشئون السياسة وفق المحددات الآتية:
1) المصداقية، وهي تأتي بالتوازن في تناول الأمور والموضوعية في الرأي، بما يضمن ثقة الناس في آراء الداعية، وانتفاء شبهة استغلال الدين في مصلحة السياسة، بل تنوير السياسية بتعاليم الدين.
2) الحديث عن القيم العامة التي يحتاجها الناس والتي تتوازى مع الأحداث السياسية، مثل الحديث عن الصبر والتعاون من أجل إصلاح البلاد وتحسين الأحوال، ودفع الناس للعمل، والقواعد الأخلاقية أثناء التنافس في العملية الانتخابية، ونبذ الخلافات في هذه المرحلة الصعبة، ومواجهة الفساد في كل مكان، ودفع الظلم... إلخ.
3) الحديث عن الأحداث السياسية بصورة موضوعية لا يظهر فيها انحياز لتيار معين، وربط الحديث بالقيم الإسلامية وأحداث السيرة (مثال: الحديث عن أهمية الدستور في استقرار البلاد وأهمية التفاعل والمشاركة، وكيفية اتفاق المجتمع على عمل ما، وقواعد الحوار المجتمعي الأخلاقي بشأنه...إلخ).
4) التفرقة بين الآراء الشخصية والفتاوى الفقهية التي تحدد الحلال والحرام.
5) أن يظهر انحيازه للحق في حالة الظلم الواضح البين بصورة مباشرة (موقف سوريا-الانحياز للثورة ضد الثورة المضادة-الانحياز ضد الفاسدين).
لكني أرى أن من حق الداعية بوصفه مواطنا أن يبرز رأيه الحر خارج المسجد في نقاش عادي أو ندوة خارجية.
التأهيل السياسي للداعية:
يحتاج الداعية بشدة إلى أن يطرق عالم السياسة، ويدخله بخطوات متدرجة، وذلك عبر الوسائل الآتية:
1) الاشتراك في دورات سياسية تضع المفاهيم العامة والنظريات الأساسية أمام عينية.
2) القراءة الحرة (يمكن الاستعانة بكتاب (ماذا أقرأ) للدكتور طارق سويدان، جزء: الحقيبة السياسية).
3) متابعة التحليلات السياسية للأحداث عبر برامج التوك شو اليومية من محللين مشهود لهم بالعلم والموضوعية (مثال: محمد جمال عرفة، د. معتز بالله عبد الفتاح، د. باكينام الشرقاوي، د. سيف عبد الفتاح).
إن الدعاة الآن عليهم مهمة شائكة وخطيرة في وقت حرج تمر به الأمة، وعدم الدعوة بالصورة الصحيحة في هذه المرحلة يعنى إلحاق الضرر بالدعوة بتصدير المشكلات السياسية لها، أو أن يختار الداعية أن يبتعد تماما عن الشأن السياسي ويبدأ رحلة الانفصال عن المجتمع، ونحن لا نريد هذا ولا ذاك.
ساحة النقاش