كتب: حديبي مدني28 نوفمبر, 2012 - 14 محرم 1434هـ
إن كل تشدد في انتقاء جيل الرواد مستحسن، بل يجب أن يبلغ أبعد مداه، فإنه هو الجيل الذي سيقود الأجيال التي بعده، وعليه يقع ثقل البناء، ومنه يطلب الصبر على طول الرحلة، وإليه تشرئب الأعناق، تنتظر مبادرته إلى ضرب الأمثال، وهو الذي سيقص القصص للذين يقتدون، ويبتدع السنن للذين يقتفون.إن أمر هذا الجيل كأمر المهاجرين وقدماء الأنصار في الثبات يوم كثر النفاق بعد بدر، وفي الشجاعة يوم انهزم الطلقاء في حنين، وفي الوفاء يوم ارتدت العرب بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم .. !
وما الدهرإلا من رُواةِ قصـائدي ** إذا قلتُ شعراً أصبح الدهر منشدا
وسـار به من لا يسـير مشمراً ** وغنَّـى به من لا يغنى مغَرِّدا
الرواحل هم فرسان الدعوة الذين لا يترجلون.. والأوفياء الصادقون الثابتون الذين لا يتلونون ولا يغدرون.. والأبطال والشجعان الذين لا يترددون.. والربانيون : التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله..!
بهم يحفظ الله الدعوة والعمل الإسلامي : هممهم عند الثريا بل أعلى ، بواطنهم كظواهرهم بل أحلى ، تحبهم بقاع الأرض وتفرح بهم ملائكة السماء..!
قال صلى الله عليه وسلم : (الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة) ..!
والراحلة هي الناقة القوية السريعة السير، لا تجدها إلا قليلة في الإبل، كأن نسبتها، لقلتها، لا تتعدى الواحدة في القطيع.
الرواحل: هم الرجال والأبطال والعلماء والدعاة وصناع الحياة ، بل هم لب وروح وجوهر الحركة..والراحلة المفقودة التي تحمل أثقال السائرين إلى الله.. إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها..كم من قتيل لإبليس قد أحييوه ، وكم من ضال تائه قد هدوه!!..شعارهم العملي الدائم:
سأظل للإخوان جسرا يعبر...حتى أوسد في التراب وأقبر..!!
وهم الذين يحولون النصوص إلى واقع عملي حي شاخص متحرك..ويصوغون من المصحف إنسانا نموذجيا يدب على الأرض..
ويجسدون كلمات الشهيد : سيد قطب التي كتبها مرتين-بمداد قلمه ثم بدمائه -:
إن النصوص وحدها لا تصنع شيئا، وإن المصحف وحده لا يعمل حتى يكون رجلا ، وإن المبادئ وحدها لا تعيش إلا أن تكون سلوكا ،لقد كان هدفه-صلى الله عليه وسلم-أن يصنع رجالا ، لا أن يلقي مواعظ..وأن يصوغ ضمائر لا أن يدبج خطبا ، وأن يبني أمة لا أن يقيم فلسفة ، لقد انتصر يوم صاغ من الإسلام شخوصا ، وحول إيمانهم بالإسلام عملا ، وطبع من المصحف عشرات من النسخ ثم مئات وألوفا ، ولكنه لم يطبعها بالمداد على صحائف الورق ، إنما طبعها بالنور على صحائف القلوب ، و صنع منهم قرآنا حيا يدب على الأرض..!!
يقول عنهم الإمام المجدد : إن تاريخ الأمم جميعا إنما هو تاريخ ما ظهر بها من الرجال النابغين الأقوياء النفوس والإرادات . وإن قوة الأمم أو ضعفها إنما يقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوفر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة . وإني أعتقد - والتاريخ يؤيدني - أن الرجل الواحد في وسعه أن يبني أمة إن صحت رجولته.
الرواحل هم الذين عشقوا الدعوة وشغفتهم حبا فهي عندهم: أجمل من بثينى،وأحلى من ليلى،وأروع من مي.. ويترنمون مع المجنون :
مررت على الديار ديار ليلى == أقبل ذا الجدار و ذا الجدار
و ما حب الديار شغفن قلبي == ولكن حب من سكن الديار
والمثال الأقرب للرواحل : ليس هو الطبيب ، ولا المهندس ، ولا المدرس ،فكلهم ينتظر الراتب آخر الشهر ، ونهاية الدوام ، وكلهم مشروعه مرتبط بأمر يتحقق ، ولكنه العاشق والمتيم ! ... والذي ينتظر المعشوقة بفارغ الصبر ، ولا يشعر أو يحصي كم بذل من أجلها من وقته واهتمامه ، والذي إذا سدت في وجهه الأبواب ، دخل من النوافذ ! وإذا استعصت عليه الحيل ، أتى بأخرى !
ولو قيل للمجنون ليلى ووصلها== تريد أم الدنيا وما في طوياها
لقال غبار من تراب نعالها == ألذ لنفسي وأشفى لبلواها
فهم يجسدون الحكمة العطائية : حبا وصفاءا وفناءا وتضحية فداءا وإخلاصا و وفاءا: "ليس المحب الذي يرجو من محبوبه عوضا، أو يطلب منه غرضا، فإن المحب من يبذل لك ، ليس المحب من تبذل له "
وهم الذين لبوا نداء الدعوة حين استغاثت وهتفت قائلة:
يا ابن الدعوة .. يا صاحب الرسالة .. يا وريث أولي العزم من الرسل ..
إنها الأمانة الثقيلة التي ناءت بحملها السماوات والأرض والجبال وحملتها أنت، فعلمت بذلك أنك لابد أن تكون أقوى من السماوات والأرض والجبال!! فهذه الأمانة لن يحملها ضعيف متخاذل ، ولا كسول متراخ ولن يصلح لها إلا الجد والقوة، وهذه هي لغة القرآن .. ألم تسمع : {يا يحيى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً* وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا* وَبَرًّا بِوَلِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً* وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً}
اعرف قدر نفسك .. وموضع قدمك ..
يا مقتفي الأثر الرائع .. أثر محمد وصحبه:
أنت لابس لأمته في معركته مع الباطل
أنت خليفته في دعوته
أنت راقي منبره لتعظ الأمة من ورائه
أنت وارث رسالته
قم فما يُعهد من صاحب رسالة نوم .. قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك .. قم للجهد والنصب والكد والتعب، قم فقد مضى وقت النوم والراحة..
وكان هذا النداء الذي تتردَّد أصداؤه بيننا إلى اليوم إيذانا بشحذ العزائم، وتوديعا لأوقات النوم والراحة، والتلفف بأثواب الهجوع ، وكان إشعارا بالجد الذي يصنع الحدث ويرميه في حجر أعدائه ليتفاعلوا معه، لا أن ينتظر كيد العدو ليتفاعل هو معه.
صاحب الرسالة يا دعاة يسبق الحدث لا ينتظره حتى يقع، ويسابق الزمن خوف الفوت، متوثباً إلى غايته النبيلة وهدفه السامي، وصوته الهادر يبايع نبيه موقِّعا معه عقد البذل والاستشهاد صائحا:
نبي الهدى قد جفونا الكرى == وعِفنا الشهي من المطعم
نهضنا إلى الله نجلو السرى == بروعة قرآنـــــه المنزل
أعداء دينك لا ينامون ، بل يصبرون ويحتملون في سبيل الباطل ما لا تحتمله أنت في سبيل الحق..
- كم مضى من عمرك، وماذا قدَّمت فيه لدينك؟!
راجع النعم التي اختصَّك الله بها وانظر فيم سخَّرتها؟
هل استحوذَت عليها دنياك أم ادَّخرت منها شيئا لدينك الجريح وقومك المغلوبين؟!
اطرح عنك تلبيس إبليس وأعذار المفاليس .. واسأل نفسك الآن والله مطلع عليك:
هل تعمل لدينك وتبذل لدعوتك ما دمت فارغا، فإذا عرفتك الأسواق وصفقات التجارات توارت الدعوة عندك إلى الأولوية العاشرة؟!
هل تقدِّم لدعوتك هوامش أوقاتك وفضلة حياتك؟!
هل تسعى لمد الدعوة بروافد جديدة كما تسعى لمد راتبك بموارد جديدة؟!
هل يؤرِّقك نشر الهداية وتوسيع رقعة الصالحين كما يؤرِّقك السعي على الرزق وتأمين حياة أبنائك المقرَّبين؟!
يقول أنموذج الرواحل الملهم الموهوب:حسن البنا : (ليس يعلم أحد إلا الله كم من الليالي كنا نقضيها نستعرض حال الأمة، وما وصلت إليه في مختلف مظاهر حياتها، ونحلل العلل، والأدواء، ونفكر في العلاج وحسم الداء، ويفيض بنا التأثر لما وصلنا إليه إلى حد البكاء... ولهذا وأمثاله نعمل، ولإصلاح هذا الفساد وقفنا أنفسنا فنتعزى، ونحمد الله على أن جعلنا من الداعين إليه العاملين لدينه..).
صفات الرواحل:
الصفة الأولى : إخواننا نمرضُ فنعودكمُ.. وتخطئون فنأتيكم فنعتذرُ..!
والله ما فاز من فاز إلا بحسن الأدب ولا سقط من سقط إلا بسوء الأدب..
قال صاحب المدارج:
- فانظر إلى الأدب مع الوالدين : كيف نجا صاحبه من حبس الغار حين أطبقت عليهم الصخرة؟..والإخلال به مع الأم -تأويلا وإقبالا على الصلاة-كيف امتحن به جريج الراهب بهدم صومعته وضرب الناس له ،ورميه بالفاحشة؟!..
- وتأمل كل شقي ومغتر ومدبر : كيف تجد قلة الأدب هي التي ساقته إلى الحرمان ؟
- وانظر أدب الصديق رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة :أن يتقدم بين يديه ، فقال : ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
كيف أورثه مقامه، من الإمامة والقيادة والريادة؟ فكان ذلك التأخر إلى خلفه ...وقد أومأ إليه أن : اثبت مكانك.. سعيا إلى الأمام ....!!..
- وتمعن في حال الصوام القوام الذي جبينه مقرحة من السجود ذو الخويصرة التميمي كيف أساء الأدب مع سيد الخلق:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً، أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله اعدل، فقال: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل.
فقال عمر يا رسول الله، ائذن لي فيه فأضرب عنقه؟
فقال: دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية...أخرجه البخاري.
فالرواحل يتميزون بالتواضع والذلة على المؤمنين وهضم النفس والتغافر والعفو والتسامح :
جرى بين الحسين بن علي وأخيه محمد بن الحنفية رضي الله عنهم أجمعين كلامٌ فانصرفا متغاضبيْن، فلما وصل محمد إلى منزله أخذ رُقعة وكتب فيها : بسم الله الرحمن الرحيم.. من محمد بن علي بن أبي طالب إلى أخيه الحسين بن علي بن أبي طالب، أما بعد: فإنَّ لك شرفًا لا أبلغه، وفضلاً لا أدركه، فإذا قرأت رقعتي هذه فالبس رداءك ونعليك، وسِرْ إليَّ فترضَّاني، وإياكَ أن أكونَ سابقَك إلى الفضل الذي أنت أولى به مني والسلام..
فلما قرأ الحسين رضي الله عنه الرقعة لبس رداءه ونعليه، ثم جاء إلى أخيه فترضَّاه، رضي الله تعالى عنهما وجمعنا بهم في عليِّين.
من لي بإنسان إذا أغضبته وجهلت كان الحـلم رد جــوابه
وإذا صبوت إلى المدام شربت من أخلاقـه وسكرت من آدابه وتراه يصغي للحديث بطرفــه وسمعـه ولعـله أدرى به ..
ساحة النقاش