نشأت الفجوة الرقمية بين البلدان المتقدمة والنامية بسبب التقدم التكنولوجي المتسارع وتراكم المعارف في الدول المتقدمة التي تملك البرامج والتقنيات الحديثة لتوليد المعرفة ونشرها وتبادلها واستثمارها، في حين تأخرت معظم الدول النامية، خاصة فيما يتعلق بنشر التقنيات الرقمية وتجديد أساليب ومنهجيات التعليم والتعلم واكتساب المعرفة وتوليدها، إذن الفجوة الرقمية هي المسافة التي تفصل بين مَن يملك ومَن لا يملك كماً ونوعاً من المعرفة التي يستطيع تسخيرها وتنميتها لمصلحته.
يعدُّ النفاذ إلى الشابكة (الإنترنت) حسب اللغة الأم من طرق قياس الفجوة الرقمية. إن نظرة سريعة إلى الدراسات الإحصائية تبين أن عدد مستخدمي الشابكة هذا العام يقترب من ثلاث مليارات، منهم نحو 65 مليون عربي، من أصل سكان البلاد العربية الذي يتجاوز 350 مليون نسمة، وبذلك يكون عدد المستخدمين العرب أقل من عدد المستخدمين الألمان رغم الفارق الكبير في عدد السكان. أما عدد المواقع العربية في الشابكة، فيشكل أقل من 1 % منها، وهذه النسبة أقل من عدد المواقع الهولندية على سبيل المثال، والذين لا يزيد عددهم في العالم عن 20 مليون نسمة، وكذلك أقل من عدد المواقع الإيطالية، والتركية، والبولندية وغيرها الأمر الذي يعكس ضعف حضور اللغة العربية في الساحة الرقمية وبالتالي لجوء مستخدمي الشابكة (الإنترنت) العرب إلى مواقع غير عربية تستخدم الإنجليزية والفرنسية، وغيرها، الأمر الذي يعيق انتشار اللغة العربية وتطورها، سيما أن القراء العرب قلّة بالنسبة لعدد الناطقين باللغة العربية بغض النظر عن التقنية الرقمية التي سهلت الحصول على المعلومات، وإذا ما رجعنا إلى تقرير التنمية البشرية العربية لعام 2002 نجد أن عدد الكتب التي تترجم إلى العربية يبلغ نحو 330، وهذا يشكّل حوالي 20% من عدد الكتب التي تترجم سنوياً إلى اليونانية، علماً أن الناطقين باللغة اليونانية يشكّلون أقل من 4% من الناطقين بالعربية.
لقد جاءت الفجوة الرقمية لتزيد الأمور سوءاً، إذ أن المعرفة العالمية تنمو بسرعة مذهلة والمصطلحات الإنكليزية الجديدة تظهر يومياً بأعداد متزايدة، لا تستطيع اللغة العربية مجاراتها لأسباب اقتصادية وثقافية وسياسية، إضافة إلى ضعف إرادة التغيير، فعدد القراء العرب المنخفض لا يبرر الترجمة إلى العربية أو التأليف بالعربية خاصة في المجالات العلمية والتكنولوجية، ومجامع اللغة العربية التي تكاد تكون غائبة عن العالم الرقمي لا تتوافق على ما تصدره من مفردات ومصطلحات جديدة، وإذا ما أصدرت مثل هذه المفردات والمصطلحات فإنها تأتي متأخرة جداً، يعتاد خلالها القاريء العربي على المصطلحات الأجنبية، وهكذا يجري تهميشها تدريجياً كلغة عمل وتواصل على جميع الأصعدة، بدءاً من النشر العلمي للعلوم الأساسية والطبية والإدارية وتكنولوجيا المعلومات، مروراً بالتعليم العالي والتجارة والصناعة، وغيرها، وصولاً إلى التعليم الأساسي، والذي قد يعني ضعف انتشارها في المجالات العلمية والتعليمية والتجارية والثقافية وغيرها، واقتصارها على الدين والفلسفة وبعض المجالات المحدودة، ولا يغيب عن الذهن تأثير ذلك على الهوية القومية والوطنية بشكل عام.
تتركز الجهود المبذولة لمواجهة هذه التحديات على عقد الندوات والمؤتمرات، والأبحاث والدراسات، وإصدار توصيات تبدأ ولا تنتهي، وكأن الكم الهائل منها بمفرده، يسهم في معالجة هذه الفجوة الرقمية التي اتسعت إلى أن أصبحت هوة سحيقة.
لا يمكننا أن نغفل عدداً من المبادرات والمشاريع الجادة، لكنها تبقى محدودة الأثر وبعيدة عن وقف اتساع الهوة، التي لا يمكن جسرها دون أن نبدأ بإعادة بناء النظام التعليمي العربي، وحمايته من الفساد ونقص الشفافية، ورصد الموارد المناسبة له، وتعزيز دوره المجتمعي.
إن غياب الإرادة الحقيقية، والعمل المدروس الممنهج، لمواجهة اتساع هذه الهوة وتداعياتها، بالإضافة إلى النتائج الكارثية للاقتتال المجنون في بلادنا العربية يذكرني بما قاله زميلي من الجزائر في أحد المؤتمرات، وقد استقرأ ذلك منذ سنوات طويلة: "أخشى القول أن الفجوة الرقمية قد استحال رتقها."
ساحة النقاش