من الطريف أن الشاعر العباسي الخبز أرزي كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب وقال شعراً جميلاً في الغزل، ولم يتفرغ لقول الشعر، أو جلس في مقاهي الخمس نجوم، بل كان يقرض الشعر وهو يذكي النار ليخبز الخبز ليبيعه، وهو أبو القاسم نصر بن أحمد بن نصر بن مأمون البصري، المعروف بالخبزأرزي، وكان يخبز خبز الأرز بمربد البصرة في دكان، وكان ينشد أشعاره المقصورة على الغزل والناس يزدحمون عليه ويتطرفون باستماع شعره ويتعجبون من حاله وأمره، وكان أبو الحسين محمد بن محمد المعروف بابن لنكك، البصري الشاعر المشهور- مع علو قدره عندهم- ينتاب دكانه ليسمع شعره، واعتنى به، وجمع له ديواناً، وكان نصر المذكور قد وصل إلى بغداد وأقام بها دهراً طويلاً.
حكى أبو محمد عبد الله بن محمد الأكفاني النصري، قال: خرجت مع عمي أبي عبد الله الأكفاني الشاعر وأبي الحسين ابن لنكك وأبي عبد الله المفجع وأبي الحسن السباك، في بطالة عيد، وأنا يومئذ صبي أصحبهم، فمشوا حتى انتهوا إلى نصر بن أحمد الخبرأرزي، وهو جالس يخبز على طابقه، فجلسوا عنده يهنئونه بالعيد ويتعرفون خبره، وهو يوقد السعف تحت الطابق، فزاد في الوقود فدخنهم، فنهضوا عند تزايد الدخان، فقال نصر بن أحمد لأبي الحسن ابن لنكك: متى أراك يا أبا الحسين؟ فقال له أبو الحسين: إذا اتسخت ثيابي، وكانت ثيابه يومئذ جدداً على أنقى ما يكون من البياض للتجمل بها في العيد، فمشينا في سكة بني سمرة، حتى انتهينا إلى دار أبي أحمد ابن المثنى، فجلس أبو الحسين ابن لبكك، قال: يا أصحابنا إن نصراً لا يخلي هذا المجلس الذي مضى لنا معه من شيء يقوله فيه، ويجب أن نبدأه قبل أن يبدأنا، واستدعى دواة وكتب:
لنصر في فـؤادي فـرط حـبٍ أنيف به على كل الصحابِ
أتينــــــاه فبخرنــا بخــــوراً من السعف المدخر للثيابِ
فقمت مبادراً وظننت نصـراً أراد بذاك طـردي أوذهابـيِ
فقال: متى أراك أبا حسـين؟ فقلت له:إذا اتسخت ثيابيِ
وأنفذ الأبيات إلى نصر، فأملى جوابها، فقرأناه فإذا هو قد أجاب:
منحـت أبـا الحسـين صميـم ودي
فــداعبنــــي بألفـــــاظ عـــذابِ
أتـــى وثيابـــه كقتيــــر شـــــيب
فعـــدن لـــه كريعـــان الشـــبابِ
ظننـــت جلوســه عنـدي لعــرس
فجــدت لــه بتمســـيك الثيــابِ
فقلـت: متــى أراك أبـا حســـين؟
فجاوبنــي: إذا اتســـخت ثيابــيِ
فــإن كـان الترفـــه فيــــه خيـــر
فلــم يكنــى الوصــي أبــا تـــرابِ
ساحة النقاش