التبرع بمختلف أنواعه أحد أرقى أفعال الخير
المفترض في عمل الخير أن يُلهم الآخرين أكثر ويشجعهم على القيام بمثله. لكن الواقع المعيش يبين أن تأثيره على بعض الناس يبقى محدوداً أو منعدماً. إذ يواصلون إتيان أفعال سيئة ومؤذية حتى مع من يُحسن إليهم. فكون شخص ما يُحسن معاملة آخر لا يعني بالضرورة أن هذا الآخر سيرد على المعاملة بمثلها أو بأحسن منها، بل قد يحصل العكس. وتُفيد دراسة جديدة نُشرت في العدد الأخير من دورية «علم النفس» أن طريقة ردود أفعال الناس تتوقف على خلفيتهم التربوية ونظرتهم إلى مفهوم الأخلاق، فالناس الذين يؤمنون بمقولة «الغاية تبرر الوسيلة» هم أكثر ميلاً إلى الرد على الإحسان بالإساءة، وعلى الإساءة بالإحسان. وبالمقابل، فإن أولئك الذين يؤمنون بأن الصواب والخطأ يتحددان من حيث المبدأ لا من حيث النتيجة يميلون إلى الثبات في نوعية رد فعلهم، حتى عندما يتصرفون أحياناً بشكل غير أخلاقي.
أوجه الالتباس
تفيد دراسات بأن الناس الذين يحافظون على توازن أخلاقي معين، أي الذين يتبرعون بالمال مثلاً لجمعية خيرية قد يبخلون مع النادل في «البقشيش»، عندما يتناولون وجبة عشاء خارج البيت. ولكن دراسات أخرى وجدت عكس هذا. ويقول العالم النفساني بجامعة بومبو فابرا في إسبانيا الدكتور خيرت كورنيليسين إن «التصرف بشكل أخلاقي يقود الناس إلى إتيان مزيد من أفعال الخير لاحقاً». ولإزالة أوجه الالتباس والغموض والتناقض بين الدراسات المتضاربة في نتائجها، قام الدكتور خيرت وزملاؤه بسؤال 84 شخصاً من طلبة الجامعة عما قد يقومون به في وضعية مأزق مفترض تنزلق فيه سلسلة عربات تسوق بسرعة في اتجاه خمسة أشخاص، علماً أنها يمكن أن تقتلهم جميعاً في حال عدم منع الاصطدام، وعلماً أن الطريقة الوحيدة لإنقاذهم هي تغيير مسار سلسلة العربات وقتل شخص واحد فقط وإنقاذ الأربعة الآخرين. فوجد الباحثون أن الأشخاص الذين فضلوا نجاة أربعة أشخاص بدلاً من خمسة لديهم مبادئ أخلاقية تهتم بالنهايات وخواتم الأحداث، وليس بالأفعال المسببة لها (التضحية بقتل شخص واحد). أما أولئك الذين رفضوا تغيير مسار العربات لاعتقادهم بأن القتل العمد هو فعل خاطئ في كل الأحوال، فإن الباحثين وجدوا أنهم من النوع الذي يحتكم في أخلاقه إلى قواعد ثابتة تصعب زحزحتها.
وطلب الباحثون كذلك من نصف المشاركين أن يتذكروا آخر مرة تصرفوا فيها بشكل أخلاقي، بينما طلبوا من النصف الآخر أن يتذكروا آخر مرة تصرفوا فيها على نحو غير أخلاقي، ثم طلبوا منهم أن يتقاسموا نصيباً من المال مع شركائهم. فوجدوا أن الأشخاص المقتنعين بمقولة «الغاية تبرر الوسيلة» كانوا أكثر ميلاً إلى البخل مع الآخرين عندما يتذكرون آخر عمل خير قاموا به، في حين يتصفون بسخاء أكبر عندما يتذكرون آخر عمل غير أخلاقي أتوه. بالمقابل، فإن أولئك الذين يميلون إلى تحكيم نظام الأخلاق القائمة على المبادئ الثابتة، فإن تصرفاتهم كانت مغايرة تماماً لتصرفات المجموعة الأولى، إذ إن ما صدر منهم من أفعال كان نفسه، بصرف النظر عن نوع العمل الذي تذكروه، سواءً كان أخلاقياً أو غير أخلاقي.
الميل للغش
في تجربة أخرى، أظهر الطلبة السلوكات عينها فيما يخص ميلهم إلى الغش في اختبار طُلب منهم وضع علامته بأنفسهم. إذ تبين أن تذكر هؤلاء لآخر فعل سيئ أتوه يجعل الأشخاص الذين يفكرون بطريقة الأخلاق القائمة على المبادئ الثابتة أكثر ميلاً للغش.
وبالنسبة لأولئك الذين يحافظون على نظرة متوازنة لأفعالهم الخيرة والسيئة، فإنهم يميلون إلى الاعتقاد بأن عملاً حسناً يُكفر عن عمل سيئ، وأن عملاً سيئاً يوازن العمل الخير الذي سبقه، أي أنهم يبررون كل ما يصدر عنهم من أفعال خيرة أو سيئة.
إلى ذلك، يقول الدكتور كورنيليسين «حينما يفكر الناس في الأخلاق على شكل قواعد، فإنهم يعتقدون أنه بمجرد أن يتم خرق قاعدة ما، فإن الضرر يحصل، ويُصبح من الصعب جداً إصلاح الأمر أو تداركه، باعتبار أن الضرر أصبح تحصيل حاصل». ويضيف «تبقى الطريقة الأكثر فعالية بالنسبة لهؤلاء في هذه الحال هي أن يُقنعوا أنفسهم بأنه مهما كان الخطأ الذي يرتكبونه، فإنه ليس خطأً بالغ الفداحة والسوء. وبمجرد أن يصلوا إلى هذا المستوى من التفكير، يصبح من السهل عليهم التصرف بطرق غير أخلاقية في المستقبل».
ساحة النقاش