إن الأمة الإسلامية مطالبة بقراءة سِيَرِ صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قراءة دقيقة، لتتأسى بما كانوا عليه من التقوى والورع والصلاح، ولتسير على نهجهم القويم، فإنه لن يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وهو المنهج الذي سار عليه صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، الذين أثنى الله عليهم في قرآنه، وزكاهم نبينا- صلى الله عليه وسلم- في سنته المطهرة، فقد حملوا لواء الإسلام عالياً خفاقاً، ونشروا هذا الدين في شتى بقاع المعمورة، فجزاهم الله خير الجزاء.
ويذكر الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- شيئاً من فضائل الصحابة الكرام- رضي الله عنهم أجمعين-، فيقول: «من كان منكم متأسياً فليتأس بأصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فإنهم كانوا أَبَرَّ هذه الأمة قلوباً، وأعمَقَها عِلْماً، وأقلَّها تَكَلُّفاً، وأًقْوَمَها هَدْياً، وأحسَنَها حالاً، قومٌ اختارهم اللهُ لصحبة نبيه- صلى الله عليه وسلم- وإقامة دينه، فاعْرِفُوا لهم فضلهم، واتَّبعوا آثارهم، فإنَّهم كانوا على الهُدَى المستقيم»، (أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2/97)، كما وبين- صلى الله عليه وسلم - فضلَ الكثير منهم فقال: «أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ بن عفّان، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَقْرَؤُهُمْ أُبيٌّ بن كَعْبٍ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بن الجَرَّاح»، (أخرجه الترمذي).
وسنتحدث في مقالنا هذا عن صحابي جليل من السابقين الأولين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، اختصه رسولنا- عليه الصلاة والسلام- بصفة الأمانة، إنه الصحابي الجليل أبو عبيدة عامر بن الجرّاح - رضي الله عنه-.
حياته
هو عامر بن عبد الله بن الجرَّاح بن هلال بن أُهَيْب بن ضَبّة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة، اشتهر بكنيته، فيقال: «أبو عبيدة».كان من السابقين الأولين إلى الإسلام، حيث أسلم على يدي أبي بكر الصديق- رضي الله عنه-.وهو أحد الصحابة العشرة المبشرين بالجنة- رضوان الله عليهم أجمعين-. هاجر الهجرتين إلى الحبشة، وشهد بدراً وما بعدها. «وكان أَهْتَم، وسبب ذلك أنه نزع الحَلْقَتَين اللتين دخلتا في وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من المِغْفَر يوم أُحد، فانتزعت ثَنِيتاه فحَسَّنَتَا فاه، فما رُئِيَ أهتم قط أحسن منه»، (أسد الغابة في معرفة الصحابة 3/116). لما هاجر أبو عبيدة بن الجراح إلى المدينة آخى النبي- صلى الله عليه وسلم - بينه وبين أبي طلحة الأنصاري- رضي الله عنهما-.
ولاه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - قيادة جيوش المسلمين في بلاد الشام.
كان على رأس الجيش الإسلامي الذي فتح بيت المقدس، وقد استقبل- رضي الله عنه- أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- عند وصوله إلى بيت المقدس، ليتسلم مفاتيحها من بطريرك الروم صفرونيوس. فضائله- رضي الله عنه- أبو عبيدة عامر بن الجرّاح- رضي الله عنه - صحابي جليل، له فضائل عديدة ومناقب كثيرة منها:
أمين الأمة
ومن المعلوم أن أبا عبيدة- رضي الله عنه- قد استحق هذا اللقب الرفيع من الرسول- صلى الله عليه وسلم- كما جاء في الحديث: عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّ لكلّ أمةٍ أميناً، وإنّ أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح»، (أخرجه مسلم).
وعن حذيفة- رضي الله عنه- قال: «جاء أهل نجران إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله، ابعثْ إلينا رجلاً أميناً، فقال: «لأبعثنَّ إليكم رجلاً أميناً حَقَّ أمينٍ حَقَّ أمينٍ»، قال: فَاسْتَشْرَفَ لها الناسُ- قال-: فبعث أبا عبيدة بن الجراح»، (أخرجه مسلم).
المعلِّم
وذكرت كتب الحديث أن رسولنا- صلى الله عليه وسلم- اختار أبا عبيدة- رضي الله عنه- معلماً لأهل اليمن ونجران، كما جاء في الحديث الشريف عن أنس- رضي الله عنه- أن أهل اليمن قدموا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالوا: «ابعثْ معنا رجلاً يُعَلِّمنا السنة والإسلام»، قال: «فأخذ بيد أبي عبيدة، فقال: هذا أمين هذه الأمة»، (أخرجه مسلم).
وعن أبي ثعلبة- رضي الله عنه- قال: لقيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقلتُ: يا رسول الله، ادفعني إلى رجل حسن التعليم، فدفعني إلى أبي عبيدة بن الجراح- رضي الله عنه-، ثم قال:
«دفعتُكَ إلى رَجُلٍ يُحسن تعليمك وأدبك»، (أخرجه ابن عساكر). حبيب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكان- رضي الله عنه- من أحبِّ الناس إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما جاء في الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: «قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَيُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَت:ْ أَبُو بَكْرٍ، قُلْتُ: ثمَّ مَنْ؟ قَالَتْ: عُمَرُ، قُلْتُ: ثمَّ مَنْ؟ قَالَتْ: ثمَّ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، قُلْتُ: ثمَّ مَنْ؟ قَالَ: فَسَكَتَتْ»، (أخرجه الترمذي).
أحد المبشرين بالجنَّة
لقد ذكرت كتب الحديث والسيرة عدداً كبيراً من أسماء الصحابة المبشرين بالجنة، وأفضلهم العشرة المبشرون بالجنة والذين جاء ذكرهم في الحديث الشريف، الذي روي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ، وَالزُّبَيْرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعْدٌ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعِيدٌ فِي الْجَنَّةِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي الْجَنَّةِ»، (أخرجه الترمذي)، وقد جمعها بعضهم في قوله:
للمصطفى خَيْرُ صَحْبٍ نُصَّ أنَّهُمُ
في جَنَّةِ الخُلْدِ نَصًّا زادهـم شـرَفَا
هم طلحةُ وابنُ عوفٍ والزبيرُ ومَعْ
أبي عبيـــدةَ والسـعدانِ والخُلَفَـا
وفاته - رضي الله عنه- توفي أبو عبيدة - رضي الله عنه- أمين هذه الأمة في مرض الطاعون بعمْواس بفلسطين بالشام في العام الثامن عشر للهجرة، وعمره وقتئذ ثمانية وخمسون عاماً، هذا الصحابي الجليل الذي قال عنه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: «لو كنت متمنياً، ما تمنيتُ إلا بيتاً مملوءاً برجالٍ أمثال أبي عبيدة عامر بن الجراح، كما وقال عنه - رضي الله عنه - وهو يجود بأنفاسه الأخيرة: «لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيّاً لاستَخلَفتُه فإن سألني ربي عنه، قلت: استَخْلَفتُ أمين الله، وأمين رسوله»، وقد وقف معاذ بن جبل- رضي الله عنه- خطيباً بالناس يومئذ فكان مِمَّا قال: «إنكم فُجعتم برجل، مَا أزعم والله أني رأيتُ من عباد الله قطُّ أبرَّ صَدْراً ولا أنصَح للعامَّةِ منه، فترحَّموا عليه»، (الإصابة 2/245).
هذا نموذج من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين نحبُّهم ونجلُّهم، ونحترمهم ونقدُّرهم، وقد أشاد الله بهم في قرآنه، وأثنى عليهم في كتابه، ومدحهم في تنزيله، ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإساءة إليهم، وحذّر من التعرُّض لهم بسوء، وفي الختام نردِّد قول الله تعالى (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)، «سورة الحشر، الآية 10»، اللهم ارض عن أصحاب نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أجمعين، واحشرنا وإيّاهم في زمرة سيِّد المرسلين، واسقنا وإياهم من حوض نبِّيك الكريم شربة ماء لا نظمأ بعدها أبدًا، يا ربَّ العالمين.
الدكتور يوسف جمعة سلامة
خطيـب المسـجد الأقصـى المبـارك
ساحة النقاش