لا شك ان كثيرا من متابعي الوضع السوري، يسألون عن السر في صمود السوريين امام آلة القتل والدمار، بالتزامن مع استمرار اصرارهم على تحقيق هدف ثورتهم من اجل الحرية والكرامة، وتغيير حياتهم بما يضمن تغيير نظامهم،

وبناء نظام جديد، يرسم ملامح دولتهم المقبلة باعتبارها دولة ديمقراطية تعددية، توفر العدالة والمساواة والتقدم لمواطنيها دون استثناء او تمييز من اي نوع كان.

ورغم ان جواب السؤال حول استمرار ثورة السوريين حافل بالمعطيات والحيثيات والتفاصيل، فان الاهم فيها قد يكون حقيقة رغبة السوريين في استعادة السياسة الى حياتهم باعتبارها علما وفن ادارة المجتمع وتصريف الشؤون العامة، وطموحهم في المشاركة بادارة شؤون حياتهم ورسم ملامح وطنهم وفق ما يرغبون ويشتهون من خلال امكاناتهم المتاحة والكامنة، وتفاعلات تنوعهم السكاني الغني اللذين يرسمان افقا مهما للحياة والمستقبل السوري، لايتجاوز تجربة النظام الحالي المدمرة فقط، بل يتجاوز ماخلفه من مآس ودمارات على السوريين وفي حياتهم.
لقد عكست هتافات السوريين الاولى في درعا للحرية والكرامة وانتقالها السريع الى حمص وبقية المدن والقرى، رغبة التغيير لدى الشارع السوري، وهو امر جرى بعيداً عن التأثير المباشر للجماعات السياسية، بل اعضاء تلك الجماعات بما فيها أعضاء جماعات المعارضة، لم ينتظروا سؤال قيادتهم، وانخرطوا في الحراك الشعبي رغم كل ما احاط بحراكهم من اخطار، لم يكن اطلاق الرصاص على المتظاهرين سوى واحد منها، بل كان الاعتقال بما يرافقه من عذاب وتدمير جسدي ونفسي هو الاسوأ فيها.
وبدا من الطبيعي، ان يبحث الحراك الشعبي المستقل عن الجماعات السياسية المعروفة عن ادواته التنظيمية في ادارة الصراع مع النظام في الجانبين التنظيمي والسياسي، ومن ذلك بدأت تظهر التكوينات التنظيمية الاولى للحراك الشعبي ممثلة بالتنسيقيات باعتبارها هيئات منظمة، هدفها تنسيق الجهود المشتركة في ادارة التظاهرات والاعتصامات والمساعدة في انجاحها من الناحية التنظيمية، ثم امتد الاهتمام لاحقاً الى الناحية الاعلامية، وهو اهتمام صار اساسياً في وظيفة التنسيقيات، قبل ان يشمل اهتمامها قضايا التأمين المادي والاغاثة بانواعها وغير ذلك من مهام فرضها الواقع واحتياجاته، وهو امر فرض تطوراً جديداً في موضوع التنسيقيات، وهو البحث في تنسيق جهودها، مما قاد الى تجميعها سعياً وراء توحيدها، فولدت مستويات من وحدة التنسيقيات، كان الابرز فيها وحدات في مستوى المناطق والمحافظات، وكانت كثيرة، ثم وحدات على المستوى الوطني، ومنها تأسيس لجان التنسيق المحلية، والهيئة العامة للثورة السورية، وبهذا اكمل الحراك الشعبي السوري صناعة شكل جديد ومميز من اشكال التعبير عن حراكه الخاص.
غير ان هذا التعبير بأهميته في ظروفه ووظائفه، لم يستطع ان يغطي احتياجات اخرى للحراك الشعبي، خصوصاً في ما يتعلق بالجانب السياسي، والسبب الرئيس في ذلك التشكيك او الرفض المسبق للسياسة وجماعاتها الذي ظهر في اوساط قطاع من نشطاء الحراك الشعبي في صفوف الشباب، وتصوراتهم عن المعركة مع النظام، وانها يمكن ان تنتهي الى النصر من خلال تظاهرات واعتصامات ونشاط شعبي غير سياسي، وهي تصورات ثبت انها غير صحيحة، بل مضرة ايضاً، وهو ما احست به كثرة من كادرات الحراك الشعبي، وحاولت تجاوزه عبر واحدة من وسيلتين او بهما معاً، كانت الاولى اعطاء المسائل السياسية اهمية ومكانة افضل في اهتمام التنسيقيات وامتداداتها، والثانية انخراط العديد من التنسيقيات في علاقات سياسية او الدخول في تحالفات سياسية في مستويات محلية ووطنية عامة، كما في دخول لجان التنسيق المحلية والهيئة العامة للثورة السورية في الائتلاف الوطني.
والى جانب الخط الذي مثلته التنسيقيات في حراك السوريين، برز خط اخر في الحراك، هو خط العمل السياسي، وفي هذا السياق برز مساران، كان المسار الاول ما قامت به الجماعات السياسية، ولاسيما قوى المعارضة السورية للتوافق مع الحراك الشعبي عبر تواصل مع الجماعات المدنية والاهلية ومع التنسيقيات، وعبر دفع كادرات منها او تشجيعها للحضور في قلب الحراك الشعبي او على ضفافه، وهذا ما حدث من قوى واحزاب معارضة، حاولت اثبات وجودها في الحياة السياسية في العقد الاول من القرن الواحد والعشرين، والاشارة هنا الى اعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي وكل من حزب الشعب الديمقراطي وحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي الذين تواجدوا في مناطق رئيسة للحراك الشعبي ولاسيما في درعا ومحافظة ريف دمشق.
اما المسار الثاني في توجه الحراك الشعبي نحو السياسة، فقد ظهر في مساعي نشطاء وفاعلين في الحراك الشعبي او على حوافه لاقامة وتنظيم احزاب وجماعات سياسية، وهو امر اخذ يظهر بعد اشهر فقط من اندلاع الثورة، ومازال مستمراً ومتصاعداً، حيث شهدت سوريا واوساط الجاليات السورية في الخارج ولادة عشرات من الاحزاب والجماعات السياسية من الاتجاهات المختلفة الليبرالية واليسارية والاسلامية والقومية، والتي غلب على اهتماماتها موضوع الثورة وآفاقها وسبل حلها ومعالجتها، او كانت الثورة سبب تأسيسها، وفي هذا السياق ولدت احزاب وجماعات تطالب باسقاط النظام واقامة دولة ديمقراطية تعددية مثل المنبر الديمقراطي السوري، كما ولدت جماعات وسطية تدعو الى حل وسطي عبر الحوار مثل التيار الثالث، ولم تكن السلطات السورية بعيدة عما يمور به الحراك الشعبي من توجهات سياسية، فحاولت الامساك بجزء من الحراك السياسي عبر اعطاء تراخيص لعدد من الاحزاب الجديدة طبقاً لقانون الاحزاب الذي صدر في العام 2011، وقد تفاوتت مواقف هذه الاحزاب من الاحداث السورية، فاتخذت بعض هذه الاحزاب مواقف مناهضة للسياسات الرسمية مثل حزبي التضامن والانصار، وبعضها تبنى مواقف السلطات السورية او كان قريباً منها مثل حزب سوريا الام.
لقد بدا للحراك الشعبي ولكثير من السوريين، ان الحراك المدني والسياسي اعجز من مواجهة النظام وممارساته العنيفة في القتل والجرح والتدمير، وبالتالي عدم القدرة على اسقاط النظام والانتقال الى المرحلة الثانية في الثورة السورية، وهو اقامة الدولة الديمقراطية التعددية دولة كل المواطنين السوريين، الامر الذي دفع نحو التوجه الى العسكرة واقامة التنظيمات المسلحة، التي بدأت في هدف بسيط معلن، هو حماية التظاهرات السلمية، ثم ذهبت الى هدف اسقاط النظام واقامة دولة ديمقراطية تعددية، قبل أن ترفع بعض التنظيمات المسلحة شعار الدولة الاسلامية على نحو ما تبدو شعارات جبهة النصرة لبلاد الشام واخواتها من التنظيمات السلفية.
ومما لا شك فيه، انه لم يكن بالامكان التحول الى مسار العمل العسكري بدلا من مسار الحراك الشعبي والسياسي، لولا ظروف وشروط احاطت بهذا التحول، وقامت بدفعه بقوة كبيرة، كان اولها وابرزها ضغط النظام لدفع الحراك الشعبي نحو التسلح والعسكرة، وهو نهج بدأ منذ الايام الاولى للثورة ليس فقط بالحديث عن السلاح والمسلحين والجماعات الارهابية والدعم الخارجي لها، انما ايضاً بتشجيع التسلح والقيام بتسليح مناطق او فئات معينة، مما يحرض آخرين على القيام بذلك وهو اسلوب مازال مستمراً، والامر الثاني ضرب وتدمير بنى النضال السلمي والسياسي، وشن حملات القتل والاعتقال والعمل على هجرة وتهجير كوادر الحراك السلمي والسياسي والذي يقال ان عددهم بلغ نحو مائة الف شخص في العامين الماضيين، وهو ما تزامن مع تصعيد عمليات التدمير الواسع لحواضن التظاهرات في المدن والقرى السورية، وكله دفع لنمو انصار خط العمل العسكري في قلب الحراك الشعبي، والعامل الثالث، كان في بروز ظاهرة الانشقاق عن المؤسستين العسكرية والامنية للنظام، ورغبة المنشقين من الجنود والضباط في لعب دور في الثورة، وهو دور مرتبط بما يعرفونه وبخبراتهم في هذا المجال، وثمة عامل رابع واخير، لايمكن تجاهله، وهو دور القوى الخارجية وبعضها من القوى السياسية السورية في المنفى في استعجال اسقاط النظام عبر القوة، اذ هو تكريس لنهج قديم على ماهو عليه الاخوان السوريون الذين وجدوا في هذا عودة لهم الى ساحة العمل في الداخل مستفيدين من دعم مالي ولوجستي من قوى اقليمية راغبة باسقاط النظام بأي وسيلة كانت.
لقد ولدت من رحم تلك الظروف، اولى تنظيمات المعارضة المسلحة، فكان تنظيم الضباط الاحرار الذي اعلنه حسين الهرموش اثر انشقاقه عن الجيش السوري، وتحول انشقاقه وتجربته الى ايقونة قامت عليها تجربة الجيش السوري الحر بقيادة رياض الاسعد وما بعده، وقريباً منها زمنياً ومكانياً، ولدت تنظيمات مسلحة من متطوعين، تحولت كتائب والوية بعضها اتجه للتوافق ولو اسمياً مع الجيش الحر، فيما ذهب آخرون الى الابعد، فاقاموا تنظيمات وجماعات، اتخذ بعضها خط السلفية الجهادية، وتمثل بعضها تنظيم القاعدة او اعتمد خطاً قريباً منه على نحو ما ظهرت تجربة جماعة النصرة لاهل الشام.
خلاصة القول، ان مسار السوريين في العامين الاخيرين وفي ظل ثورتهم العظيمة، انما كان يعكس في الاهم من وجوهه جوع السوريين الى السياسة، التي لم يحرمهم النظام منها فحسب على مدار عقود متواصلة، وانما دمر كل ما يتصل بها من فكر ومؤسسات وشخصيات، وحولها الى جريمة بدل ان تكون عملية سامية اساسها ترسيخ علم وفن وتجربة ادارة المجتمعات البشرية، كما ان ما جرى يعكس رغبة السوريين بالمشاركة في شؤون حياتهم ورسم مستقبل بلدهم، في ان يكونوا بشراً فاعلين، وليس مجرد متلقين، وهو ما كرسته سياسة نظام البعث منذ وصوله الى السلطة قبل خمسين عاماً.
ان اخطاء ومشاكل كثيرة ظهرت في تجربة السوريين في السير نحو السياسة والمشاركة في العامين الاخيرين، وبعضها اخطاء لا شك كبيرة، لكن تجربة سورية مهمة في الحياة تولد من عمق الجفاف والدمار الذي احاط بالسوريين، ولا يخفف من اهميتها ذلك الثمن الفادح الذي يدفعونه من ارواحهم وممتلكاتهم ومن مستقبلهم.

المصدر: الشبكة العربية العالمية: فايز سارة
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 43 مشاهدة
نشرت فى 21 فبراير 2013 بواسطة alsanmeen

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,276,575