يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْـضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، «سورة الرعد، الآية 4». ذكر الشيخ الصابوني في كتابه صفوة التفاسير في تفسير الآية السابقة: (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ) أي في الأرض بقاع مختلفة متلاصقات قريب بعضها من بعض، قال ابن عباس: أرض طيبة، وأرض سَبْخَة، تُنْبتُ هذه، وهذه إلى جنبها لا تُنْبت، (وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ) أي بساتين كثيرة من أشجار العنب (وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ)، أي وفي هذه القطع المتجاورة أنواع الزروع والحبوب والنخيل والرطب، منها ما يَنْبُت منه من أصل واحد شجرتان فأكثر، ومنها ما ينبت منه شجرة واحدة (يُسْقَى بمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ) أي الكل يسقى بماء واحد، والتربة واحدة، ولكنَّ الثمار مختلفات الطعوم، قال الطبري: الأرض الواحدة يكون فيها الخوخ، والكمثرى، والعنب الأبيض والأسود، بعضُها حلو، وبعضُها حامض، وبعضها أفضل من بعض، مع اجتماع جميعها على شربٍ واحد (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، أي علامات باهرة ظاهرة، لمن عقل وتَدَبَّر، وفي ذلك ردٌ على القائلين بالطبيعة)، (صفوة التفاســير للصابوني 2/74).

إن الواجب على الإنسان أن ينظر إلى نعم الله في هذا الكون فيتأملها، ويشكر الله عليها، وأن يعرف أن وراء هذه النعم مُنْعِم وخالق ورزَّاق هو الله عز وجل كما في قوله تعالى: (فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ* أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا*، فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا* وَعِنَبًا وَقَضْبًا* وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً* وَحَدَائِقَ غُلْبًا* وَفَاكِهَةً وَأَبًّا* مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ)، «ســورة عبـس الآية 24-32».

فالمزارع يزرع الأرض ويغرس الأشجار، فنأكل من ثمارها ونستظل بظلها، كما أن الفلاح يحرث الأرض، ويبذر الحب، وهو معتمد على ربه، متوكل عليه، فإذا بالحبة تنمو بقدرة الله سبحانه وتعالى فتصبح شجرة لها جذور، وساق، وسنابل، من الذي جعل الحبة حبات؟ إنه الله رب الأرض والسماوات.

 

لذلك فنحن مطالبون بضرورة المحافظة على الأرض وزراعتها لأنها ثروة عظيمة، فديننا الإسلامي حثنا على عمارة الكون وزراعة الأشجار، ويجب ألا ندع مساحة جرداء بدون زراعة، كما يجب علينا المحافظة على الأشجار والحدائق العامة وعدم الاعتداء عليها بقطعها وقلعها، فهي عنوان حضارة الأمم.

 

فضل الغرس والزرع

لقد حث النبي- صلى الله عليه وسلم على زراعة الأشجار من زيتون وأعناب ونخيل وغيرها، والأحاديث النبوية تجعل غرس الشجر من أعظم الأعمال الصالحة، لما رُوي أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة»، (أخرجه مسلم).

وجاء في حديث آخر: (عن أبي الدرداء - رضي الله عنه- أنَّ رجلاً مَرَّ به، وهو يغرسُ غرساً بدمشق، فقال له: أتفعلُ هذا، وأنت صاحبُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟! قال: «لا تَعْجَلْ عَلَيَّ» انتظر حتى أفهمك السنة في هذا العمل وثوابه»، سمعتُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «مَنْ غَرَسَ غَرْساً، لم يأكلْ منه آدميٌُ، ولا خلق من خلق الله، إلا كانَ له به صدقة»، (أخرجه أحمد).

ومن المعلوم أن غرس النخل من الأعمال الصالحة التي تنفع صاحبها بعد موته، كما جاء في الحديث عن أنس- رضي الله عنه- قال: «قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: سَبْعٌ يجري للعبدِ أجْرُ هُنَّ وهو في قبره وهو بعد موته: مَنْ عَلَّمَ علماً، أو كَرَى نهراً، أو حَفَرَ بئراً، أو غَرَسَ نخلاً، أو بنى مسجداً، أو وَرَّث مُصحفاً، أو ترك ولداً يستغفرُ له بعد موته»، (أخرجه البيهقي).

ومن الجدير بالذكر أن ديننا الإسلامي يحثّ المسلمين على عمارة الأرض وغرس الأشجار

حتى عند قيام الساعة، كما جاء في الحديث الشريف أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال:

«إِنْ قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة»، «نخلة صغيرة أو شتلة» فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها، فليفعل»، (أخرجه أحمد).

إن الأمم الراقية هي الأمم التي تستغل أرضها بالزراعة والتشجير، فلا تدع شبراً واحداً غير مستغل، فالزراعة دعامة الاقتصاد الوطني، فمنها نأكل الخبز والطعام، ونلبس الملابس، ونشرب العصائر، ونستخرج الزيوت، ونقضي الأوقات السعيدة في الحدائق والغابات .... الخ من الفوائد الكثيرة.

شكر الله على نعمه

لقد امتنّ الله سبحانه وتعالى على قريش بقوله: (لإِيلافِ قُرَيْشٍ* إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ)، «سورة قريش الآية 1 - 4»، فنعمة

الطعام، ونعمة الأمن من أجلِّ نعم الله على البشريّة؛ بينما نجد أنَّ الجوع والخوف هو شرُّ ما تُبْتَلى به البشرية، كما في قوله سبحانه وتعالى: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً

يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ

يَصْنَعُونَ)، «سورة النحل الآية 112».

فقد جاء في مختصر تفسير ابن كثير للصابوني في تفسير قوله سبحانه وتعالى: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) أي ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم اللّه به عليكم، من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك، ما إذا قابلتم به نعمه من شكره وعبادته‏.‏ روى ابن جرير، عن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- قال‏:‏ بينما أبو بكر وعمر جالسان إذ جاءهما النبي- صلى اللّه عليه وسلم- فقال‏:‏ ‏(‏ما أجلسكما ههنا‏؟‏‏)‏، قالا‏:‏ والذي بعثك بالحق ما أخرجنا من بيوتنا إلا الجوع، قال‏:‏ ‏«والذي بعثني بالحق ما أخرجني غيره‏»‏، فانطلقوا حتى أتوا بيت رجل من الأنصار، فاستقبلتهم المرأة، فقال لها النبي - صلى اللّه عليه وسلم‏-:‏ ‏«‏أين فلان‏؟‏‏»،‏ فقالت‏:‏ ذهب يستعذب لنا ماء، فجاء صاحبهم يحمل قربته، فقال‏:‏ مرحباً ما زار العباد شيء أفضل من نبي زارني اليوم، فعلق قربته بكرب نخلة، وانطلق فجاءهم بعذق، فقال النبي - صلى اللّه عليه وسلم-‏:‏ ‏«‏ألا كنت اجتنيت‏»‏، فقال‏:‏ أحببت أن تكونوا الذين تختارون على أعينكم، ثم أخذ الشفرة، فقال له النبي - صلى اللّه عليه وسلم‏-:‏ ‏«‏إياك والحلوب‏»،‏ فذبح لهم يومئذ، فأكلوا، فقال النبي - صلى اللّه عليه وسلم-‏:‏ «‏لتسألن عن هذا يوم القيامة أخرجكم الجوع، فلم ترجعوا حتى أصبتم هذا، فهذا من النعيم‏». وروى الإمام أحمد عن جابر بن عبد اللّه قال‏:‏ أكل رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم- وأبو بكر وعمر رطباً وشربوا ماء، فقال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم-‏:‏ «هذا من النعيم الذي تُسألون عنه‏»، (مختصر تفسير ابن كثير للصابوني 3/672)‏.

لذلك يجب على المسلمين أن يشكروا الله سبحانه وتعالي على ما أولاهم من فضله وخيره، تقديراً لهذه الخيرات المحيطة بنا، واعترافاً بمِنَنِه، وطلباً للمزيد من برّه وخيره، فقد وعد سبحانه وتعالى الشاكرين على شكرهم، حيث قال سبحانه وتعالي: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)، «سورة إبراهيم الآية 7»، وقوله تعالي (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ)، «سورة الواقعة الآية 68 - 70» ورحم الله القائل:

إذا كنـتَ فـي نعمـةٍ فارْعَهَـا

فإنَّ المعاصـي تُزِيـلُ النِّعَـمْ

وداومْ عليهـــا بشــكرِ الإلــهِ

فإنَّ الإلــهَ ســــريعُ النّقــمْ

فعلينا أن نستثمر طاقاتنا ومنها الأرض، لأن الأرض من أهم عناصر الرقي والتقدم والحضارة، وليكن شعارنا: نزرع ولا نقطع، نزرع ولا نقلع.

الدكتور يوسف جمعة سلامة

خطيـب المسـجد الأقصـى المبـارك

المصدر: الاتحاد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 65 مشاهدة
نشرت فى 16 فبراير 2013 بواسطة alsanmeen

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,276,587