لقد مَنَّ الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة بهذا الكتاب العظيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، مَنْ تمسك به هُدِي إلى صراط مستقيم، فهو العصمة من كل فتنة، والهادي إلى السعادة في الدنيا والآخرة (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)، «سورة الإسراء، الآية 9»، وسنتحدث في مقالنا هذا عن صحابي جليل من السابقين الأولين، استمع رسولنا - عليه الصلاة والسلام - لقراءته للقرآن حتى ذرفت عيناه، إنه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه-.
حياته
عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهُذَلي، من قبيلة هُذَيْل، كنَّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي عبد الرحمن.
مات والده وهو صغير فنشأ يتيماً.
أمه: أم عبد الله بنت عَبْدُ ود بن سَوَاء من هُذَيْل أيضاً. وكان من السابقين في الإسلام، فهو سادس ستة دخلوا في الإسلام. وأوَّل من جهر بالقرآن الكريم بمكة المكرمة.
آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين الصحابي - معاذ بن جبل - رضي الله عنهما-.
هاجر الهجرتين جميعاً إلى الحبشة وإلى المدينة، وشهد بدراً، وأُحداً والخندق وبيعة الرضوان، وسائر المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أجهز على أبي جهل، وَشَهِدَ له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة.
بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهد المشاهد العظيمة، منها: أنه شهد اليرموك بالشام، وسيَّره عمرُ بنُ الخطاب - رضي الله عنه - إلى الكوفة، وكتب إلى أهل الكوفة: إني قد بعثتُ عمار بن ياسر أميراً، وعبد الله بن مسعود مُعلِّماً ووزيراً، وهما من النُّجَبَاء من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، من أهل بدر، فاقتدُوا بهما، وأطيعوا واسمعوا قَوْلَهُمَا، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي.
توفي - رضي الله عنه - بالمدينة المنورة سنة اثنتين وثلاثين للهجرة، وَدُفن بالبقيع، وكان عمره بضعاً وستين سنة.
ذكرت كتب السيرة أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - كان يرعى غنماً، فمرّ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه الصديق - رضي الله عنه - فسأله - صلى الله عليه وسلم - هل عندك من لبن؟ فأجابه إجابة صريحة بأنني مؤتمن، ولست صاحب الغنم، وهذا الموقف يدل دلالة واضحة على صفاء نفس ابن مسعود، فهو لم يكن مسلماً وقتئذ، ومع ذلك كان صادقاً في إجابته، وكانت المعجزة النبوية بعدئذ سبباً في إسلام هذا الصحابي الجليل، كما جاء في الحديث الشريف: «عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كُنْتُ أَرْعَى غَنَمًا لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: «يَا غُلامُ، هَلْ مِنْ لَبَنٍ؟» قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، وَلَكِنِّي مُؤْتَمَنٌ، قَالَ: «فَهَلْ مِنْ شَاةٍ لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ؟» فَأَتَيْتُهُ بِشَاةٍ، فَمَسَحَ ضَرْعَهَا، فَنَزَلَ لَبَنٌ، فَحَلَبَهُ فِي إِنَاءٍ، فَشَرِبَ، وَسَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ قَالَ لِلضَّرْعِ: «اقْلِصْ»، فَقَلَصَ، قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُهُ بَعْدَ هَذَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، قَالَ: فَمَسَحَ رَأْسِي، وَقَالَ: «يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَإِنَّكَ غُلَيِّمٌ مُعَلَّمٌ»، (أخرجه أحمد).
فضائله - رضي الله عنه -
عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - صحابي جليل، له فضائل عديدة ومناقب كثيرة منها:
أول من جهر بالقرآن الكريم بمكة
كان ابن مسعود - رضي الله عنه - شجاعاً في قول الحق، لا يخشى في الله لومة لائم، ويكفيه شرفاً أنه كان أول من جهر بالقرآن الكريم بمكة المكرمة بعد رسولنا - صلى الله عليه وسلم - كما ذكر صاحب كتاب أسد الغابة في معرفة الصحابة: «قال: عن محمد بن إسحاق قال: حدثني يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه قال: كان أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن مسعود، اجتمع يوماً أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: والله ما سَمِعت قريش هذا القرآن يُجْهَرُ لَهَا به قط، فمن رجلٌ يُسْمِعُهم؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا، فقالوا: إنَّا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرةٌ تمنعه من القوم إن أرادوه، فقال: دَعُوني، فإن الله سيمنعني، فغدا عبد الله حتى أتى المقام في الضُّحى وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام، فقال رافعاً صوته: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الرَّحمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ)، «سورة الرحمن، الآية 1 - 2»، فاستقبلها فقرأ بها، فتأملوا فجعلوا يقولون: ما يقول ابن أُمّ عبد؟ ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد فقاموا فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أَثَّروا بوجهه فقالوا: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداءُ الله قط أهونَ علىَّ منهم الآن، ولئن شئتم غَادَيْتُهم بمثلها غداً؟ قالوا: حَسْبُك، قد أسمعتهم ما يكرهون»، (أسد الغابة في معرفة الصحابة 3/355).
علمه - رضي الله عنه -
لقد كان عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - من أكثر الصحابة علماً بكتاب الله الكريم، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «وَالَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ، مَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ سُورَةٌ إِلا أَنَا أَعْلَمُ حَيْثُ نَزَلَتْ، وَمَا مِنْ آيَةٍ إِلا أَنَا أَعْلَمُ فِيمَا أُنْزِلَتْ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا هُوَ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي، تَبْلُغُهُ الإِبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ»، (أخرجه مسلم).
لم يَكُنْ عبدُ اللّهِ بنُ مسعودٍ - رضي الله عنه - مُبَالِغاً فيما قالَه عَنْ نفسِه في الحديث السابق، حيث ذكر الدكتور / عبد الرحمن الباشا في كتابه «صور من حياة الصحابة ص 104 - 105» ما يؤيد ذلك فقال: «فهذا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ - رضىَ اللّهُ عنه - يَلْقَى رَكْباً في سَفَرٍ من أسْفَارِهِ، والليلُ مُخَيِّمٌ يحجُبُ الرَّكْبَ بظلامِهِ، وكان في الرَّكْبِ عبدُ اللّهِ بنُ مسعودٍ، فَأمَرَ عُمَرُ رجلاً أن يُنَادِيَهُمْ: من أينَ القومُ؟ فأجابَه عبدُ اللّهِ: من الفجِّ العَمِيِق، فقال عمرُ: أينَ تُريدونَ؟ فقال عَبْدُ اللّهِ: البيتَ العَتيقَ، فقال عمرُ: إنَّ فيهم عالماً... وأمرَ رَجُلاً فناداهُمْ:
- أَيُّ القرآنِ أعظمُ؟ فأجابه عبدُ اللّهِ: (اللّهُ لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأخُذُهُ سِنَة وَلاَ نَوْمٌ).
قال: نَادِهِمْ أَيُّ الْقُرآنِ أحْكَمُ؟ فقال عبدُ اللّه: (إن اللّهَ يَأمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى).
- فقال عمر: نادِهم أَيُّ القرَانِ أجمَعُ؟ فقال عبدُ اللّهِ: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراً يَرَه).
- فقال عمر: نادِهم أَيُّ القرَآنِ أخوفُ؟ فقال عبدُ اللّهِ: (لَيْسَ بأمَانِيِّكُمْ وَلا أمَانِيِّ أهلِ الكِتَاب مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بهِ وَلا يَجدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً).
- فقال عمرُ: نادِهم أَيُّ القرَانِ أرْجَى؟ فقال عبدُ اللّهِ: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلَى أنفُسِهمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إنَّ اللّه يَغْفِرُ الذُّنوبَ جَمِيعاً، إنَّهُ هُوَ الْغفُورُ الرَّجِمُ).
فقال عمرُ: «نَادِهِمْ، أَفِيكُمْ عبدُ اللّهِ بنُ مسعودٍ؟!، قالوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ».
ومن فضائل ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسولنا - صلى الله عليه وسلم - قد أمره أن يقرأ عليه القرآن الكريم، كما جاء في الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: «قَالَ لِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اقْرَأْ عَلَيَّ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الآيَةِ (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا) قَالَ: «حَسْبُكَ الآنَ»، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ»، (أخرجه البخاري).
أثقل من جبل أحد
عن معاوية بن قرة، عن أبيه، قال: صعد ابن مسعود شجرة، فجعلوا يضحكون من دقة ساقيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: «لهما في الميزان أثقل من أحد»، (أخرجه الحاكم).
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء حزننا وذهاب همنا وغمنا يا رب العالمين.
الدكتور يوسف جمعة سلامة
خطيـب المسـجد الأقصـى المبـارك
ساحة النقاش