هل أنت ممن يعيشون حياتهم لحظة بلحظة، فيستمتعون بكل ما يقومون به؟ هل يفضي بك التأمل إلى الشعور أكثر بنفسك وبمن حولك أم إلى الشرود والغفلة وأحلام اليقظة؟ هل تشعر أنك تجني الفائدة التي تنشدها عندما تمارس التأمل؟ هل تعتقد أنك واع تماماً بنفسك ومدرك للعالم الذي تعيش فيه وللناس المحيطين بك؟ إذا كان جوابك بالإيجاب، فمعنى ذلك أنك ترفل في نعيم عيش اللحظة. أما إن كان جوابك بالنفي، فإن ذلك مؤشر على حاجتك إلى ممارسة تمارين تأمل تطرد عنك الشرود وتجلب لك لذة الخشوع وتغوص بك في أعماق الوعي والإدراك.

عيش اللحظة هو استحضار كامل وعيك وإدراكك في كل ما تحسه وتستشعره كل ثانية ودقيقة وساعة، دون تأويل أو إطلاق أحكام. فقضاء وقت طويل في التخطيط وحل المشاكل وأحلام اليقظة والتفكير السلبي أو العشوائي يستنزف طاقة ذهنك ويعرض العقل لما يشبه النضوب. ما قد يؤدي إلى تعريضه لتوتر أكثر وقلق أكبر وإصابته بأعراض الكآبة. ولذلك فإن ممارسة تمارين التأمل المُفضية إلى الخشوع وعيش اللحظة مندرجة ضمن الأشياء التي يوصي بها المعالجون لمصابي الكآبة الناجمة عن التوتر والضغط والإفراط في التشاؤم واسوداد النظرة إلى الحياة. ويؤكد هؤلاء المعالجون أن كل من يتمكن من استجماع قواه الذهنية وتركيز انتباهه فيما يفعله يساعد نفسه في النأْي عن أتباع مذهب التفكير السلبي، ويُدمج نفسه في مجتمعه والعالم الذي يعيش فيه بإقبال وإقدام.

الخشوع وفوائده

 

قد يخال القارئ أن الخشوع يكون فقط في الصلوات والعبادات والممارسات الروحانية. لكن الخشوع يعني بكل بساطة ارتفاع مستوى التركيز فيما تقوم به، ورفع مستوى تفاعلك معه قلباً وجوارح، بغية زيادة منسوب الاستمتاع بما تفعله. فكلما شرد الذهن خلال فعل شيء ما، قل أداء العقل وتراخت أعضاء الجسم عن بذل التجاوب المطلوب تماشياً مع الحالة الذهنية. ويقول خبراء علم نفس من عيادات «مايوكلينيك» الأميركية إن مهارة أداء مهام متعددة في وقت واحد قد أُسيء فهمها كثيراً. فهي لا تكون ميزة إلا إذا استُوعبت بشكل جيد. وتكون فعالة فقط إذا كان نوع المهام المتعددة المطلوب القيام بها من النوع الظرفي أو الاستثنائي أو المؤقت أو الدوري. أما إنْ كانت هذه المهام المتعددة ذات طابع يومي متكرر، فإنها تُصبح قاتلة للإبداع، وتؤدي إلى تراجع جودة المخرجات والمنتجات. فكلما تعرض الذهن للتشتيت، تراجع أداؤه. وكلما زاد تركيزه وخشوعه، ارتفع مستوى أدائه وتفتق إبداعه ووجدت لمسات الشخص الابتكارية طريقها إلى المنتج. ويقول خبراء «مايوكلينيك» إن للخشوع فوائد عديدة. وأبرز هذه الفوائد هي تقليل التوتر والقلق والكآبة، واستبعاد طغيان التفكير السلبي، والتخلص من بواعث الشرود وتشتيت الذهن، وتحسين المزاج.

 

تمارين الخشوع

هناك طرق عديدة لممارسة الخشوع وزيادة مستوياته. ومن بينها ما يلي:

- تركيز الانتباه. فعندما تلتقي شخصاً ما، على سبيل المثال، استمع إليه بعناية وأصغ إلى كلماته، وفكر في معانيها وفراداتها. احرص على صقل مهارة فهم الآخرين، وتَعَودْ على تأجيل إصدار أحكام قيمة تُجاههم، ولا تُنتج رأياً نقدياً حوله إلا بعد اكتمال الصورة ويقينك في ذهنك، ويقينك بأنك ألممت بكافة جوانبها وزواياها.

- جعْل المألوف جديداً. حتى عندما تنظر إلى الأشياء البسيطة كفرشاة الأسنان أو التفاحة أو الهاتف المتحرك أو أي شيء مألوف في بيتك أو مكتبك، حاول أن تُجدد نظرتك إليها كل مرة، احرص على أن تنظر إليها بعين فاحصة جديدة. تعرفْ إلى تفصيل جديد، إلى جزئية أخرى، إلى زاوية لم تنتبه إليها سابقاً. وتيقنْ أنه كلما أصبح المرء أكثر إلماماً وإحاطة بعالمه، زاد شغفه به، وزاد امتنانه وحبه لكل الأشياء والنعم التي تحيط به صباح مساء.

- التركيز على التنفس. اجلس في مكان هادئ، واجعل ظهرك مستقيماً، لكن حاول أن تبقى مسترخياً. استشعرْ نَفَس شهيقك وهو يدخل ليملأ شغاف رئتيك، ونَفَس زفيرك وهو يخرج من قصبتك الهوائية. دعْ وعيك منصباً فقط على تنفسك، ولا تفكر في أي شيء غيره. لاحظْ كيف تتمدد عضلات بطنك ثم تتقلص في كل نفَس تُدخله وآخر تخرجه. وإذا شعرت في أية لُحَيْظة بأن عقلك شرد، فأعد توجيهه للتركيز فقط على نَفَسك. لا تُصدر حكماً على نفْسك. وتذكرْ أنك لا تتنفس بهذا الشكل لتصبح متأملاً جيداً أو خبيراً في التأمل، بل إن كل ما تصبو إليه هو زيادة وعيك بما تقوم به وتعزيز إدراكك لما يحيط بك عندما تتنفس.

- إيقاظ الحواس. خُذْ حبة زبيب (عنب مجفف) واجلس في مكان هادئ واجعل ظهرك منتصباً مع الحفاظ على استرخائك. قُم بشم حبة الزبيب وأنت مغمض العينين. تلمسها واشعرْ بها، ثم عجل بأكلها. تذوق طعمها أولاً، ثم امضغها ببطء. لاحظ كيف يتغير طعم حبة الزبيب ومذاقها، لاحظ تغير نبضك خلال بلع حبة الزبيب ممضوغةً، وانظر إلى استجابة جسمك لهذا النبض خلال عملية البلع، وراقب تلك الأفكار والمشاعر التي تنشأ لديك بالموازاة. فتركيز اهتمامك على حواسك وانتباهك جيداً إلى حبة الزبيب قد يكشف لك عن طريقة استجابة بدنك لما تأكله، ويجعلك تكتشف بُعداً جديداً لنوع علاقتك بالأكل والطعام.

تدريبات يومية

تتفاوت حالات فقدان التركيز من شخص لآخر، وتختلف أشكال الشرود وتتباين من عقل لآخر. فهناك من يشرُد ذهنه في أثناء قيامه بشيء ما، وهناك من يشرد خلال محادثته شخصاً ما، وهناك من يشرد كلما عكف على الصلاة أو الذكر، وهكذا. فإذا كنت تريد زيادة تركيزك في الكلمات التي تصدر عن كل شخص تتحادث إليه أو تتحاور معه، فيمكنك ممارسة تمرين تأمل يفضي إلى تجميع التركيز وتكثيفه طوال اليوم. يمكنك أن تجرب ذلك منذ استيقاظك صباحاً مع زوجتك أو زوجك، كما يمكنك تجريبه مع زميلك في العمل أو عند بداية اجتماع ما، أو عند تناول وجبة غداء أو عشاء مع الأصدقاء أو العائلة، أو عند مشاهدتك فيلماً هادفاً في قاعة السينما. لكن احرص على تجنب هذا التمرين خلال قيادتك السيارة. حاول أن تمارس تمرين تجميع التركيز تصل مدته إلى ما بين 15 إلى 20 دقيقة كل يوم، وبمعدل أربع إلى ثماني مرات يومياً.

وفيما يخص تمارين الخشوع والتركيز وعيش اللحظة الأخرى، مثل التركيز في التنفس، فقد تحتاج إلى تخصيص وقت يمكنك خلاله الجلوس في مكان هادئ بعيداً عن أي ضوضاء أو تشويش أو مُلهيات. ويمكنك أيضاً اختيار ممارسة هذا النوع من التمارين في الصباح الباكر، قبل بدء مهامك اليومية.

ويقول خبراء «مايوكلينيك» إن ممارسة التأمل وتمارين تعزيز التركيز وزيادة الخشوع كل يوم لمدة ستة أشهر كافية لجعل الشخص يصل إلى مبتغاه، فيغدو الخشوع والتركيز بالنسبة له بعدها أمراً عفوياً وتلقائياً لا يحتاج القيام به لجهد بدني كبير، وذلك لأن أعصاب العقل الباطن تُصبح مبرمجةً للاستجابة بخشوع وتركيز لكل ما يقوم به الجسم من أفعال، وكل ما يفكر به العقل من أشياء. ويصير الإنسان بذلك أكثر قرباً من نفسه، وأكثر تجاوباً مع مجتمعه وإسهاماً فيه واندماجاً مع أفراده. وأهم من كل هذا كله أنه يغدو أكثر تصالحاً مع ذاته وتفاعلاً مع الكون، وأكثر امتناناً للنعم المحيطة به، وأقدر على الاستمتاع بكل لحظة يعيشها.

هشام أحناش

المصدر: الاتحاد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 52 مشاهدة
نشرت فى 27 يناير 2013 بواسطة alsanmeen

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,305,543