حديقة تتوسط متحف برغش الإسباني

تقع مدينة بورغس أو كما سماها العرب “برغش” في قطالونيا بوسط شمال إسبانيا، وهي تضم متاحف عدة تحوي بين مقتنياتها العديد من التحف الإسلامية، التي حرص أثرياء العصور الوسطى والقساوسة في الكنائس على اقتنائها، فضلاً عن الفنون التطبيقية التي أنتجها المدجنون من المسلمين بعد سقوط الممالك الإسلامية في الأندلس. وفي طليعة تلك المتاحف متحف برغش، الذي ظهر في عام 1846 نتيجة للكنوز الفنية التي صودرت عام 1835 من الكنائس والأديرة. وظل المتحف يتنقل بمحتوياته بين عدد من الأديرة والمدارس، إلى أن استقر عام 1878 في مبنى خاص في شارع أركو دي سانتا ماريا، ومع النمو الكبير في مجموعاته الأثرية، تم نقله إلى أحد قصور عصر النهضة في عام 1955.

أحمد الصاوي - يضم متحف برغش الإسباني بقاعاته المختلفة أقساماً تعرض لتاريخ الإقليم منذ العصور الحجرية، إلى جانب مقتنيات من العصور المختلفة، لا سيما من العصور الوسطى إبان ازدهار الفنون الإسلامية، وتلك التي صنعت ببلاد المغرب والأندلس.

علبة أسطوانية

 

من أهم المقتنيات الأندلسية علبة أسطوانية من الخشب مؤلفة من قطعتين، تجمع بينهما مفصلات من البرونز، وعلى الرغم من بساطة مظهرها الخارجي، فإنها من الداخل حافلة بالزخارف النباتية المحفورة بدقة بين مناطق دائرية غائرة موزعة بواقع خمس بكل ناحية، وهو ما أثار الجدل بين علماء الآثار بشأن الغرض الأصلي من عمل هذه التحفة النادرة، فهناك من يعتقد أنها عبارة عن لعبة أندلسية تعرف باسم “المنقلة”، وهي معروفة في الشرق الإسلامي، ولكن فريقاً آخر من الآثاريين يرى أنها كانت تستخدم لحفظ بعض الأغراض النسائية ذات الصلة بالتزين، خاصة أن ثمة نصاً كتابياً عليها يشير بوضوح إلى أنها تخص إحدى كريمات الخليفة الأموي بالأندلس عبد الرحمن الناصر، وهو “هذا ما عمل للسيدة ابنة عبد الرحمن أمير المؤمنين”. وربما تكون تلك التحفة أهم وأقدم ما يقتنيه متحف برغش من تحف الفنون الإسلامية التي صنعت بقرطبة في عصر الخلافة خلال القرن الرابع الهجري.

 

ومن أهم متاحف برغش، التي تضم عدداً كبيراً من نماذج الفنون الإسلامية والأعمال الفنية للمدجنين، متحف أقمشة العصور الوسطى في الدير الملكي المعروف باسم سانتا ماريا، وهو كيان معماري ضخم يضم مباني عدة داخل سور له بابان، أحدهما للجمهور والآخر للراهبات. وقد شيد هذا الدير في عام 1187 تلبية لرغبة دونا ليونور زوجة ألفونسو الثامن ملك قشتالة في منح الراهبات الحظوظ والمسؤوليات الدينية التي كانت لرجال الكنيسة وأنجزت المباني الأولى فيما بين 1180 و1190، وشملت الدير وكنيسة العذراء، وهي تعد بعقودها وأعمال زخارف الجص، قطعة من الفن الإسلامي خلال عصر الموحدين، حتى أنها تحفل بكتابة شهادة التوحيد “لا إله إلا الله” بالخط المغربي الأندلسي بهاماته الرشيقة.

وكانت عادات ملوك قشتالة تعطي هذا الدير أهمية خاصة، وفيه احتفل بتنصيب الملوك وبمقابره دفنت الشخصيات المهمة من الملوك والأمراء والنبلاء، وطبقاً للتقاليد الملكية، كانت ملابس هؤلاء تعرض عند قبورهم. ورغم أن عمليات السلب والنهب التي رافقت أحداث الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينيات القرن العشرين قد ذهبت بالعديد من ملابس الملوك والنساء والأطفال الرضع، فإن ما تبقى منها ليعرض بمتحف منسوجات العصور الوسطى بالدير، يضع هذا المتحف في طليعة المتاحف العالمية المعنية بتاريخ المنسوجات.

راية نافاس

إذا كان المتحف يحفل بالأقمشة المنتجة في المغرب والأندلس وحتى في إسبانيا النصرانية على أيدي المدجنين وبشمال أوروبا، إلا أن أهم قطعه الفنية على الإطلاق هو العلم أو الراية التي كان يرفعها جيش الموحدين في معركة العقاب الشهيرة التي كان انتصار ملوك قشتالة فيها إيذاناً بالغروب النهائي لشمس الأندلس، ويعرف بين مقتنيات المتحف براية نافاس، إشارة لاسم المعركة المعروف في اللغة القشتالية باسم معركة دي لاس نافاس تولوسا.

وتبدو هذه الراية على هيئة بند كان ينشر على استطالته، ويحتل ضلعه من الجهة التي يرفع منها شريط كتابي نقرأ فيه بسم الله الرحمن الرحيم، وهو محصور بين شريطين بهما كتابة بالخط المغربي، بينما رقعة الراية بوسطها مربع تحتله دائرة، وقد ازدانت حدود المربع والدائرة برسوم دوائر بيضاء تتبادل مع مناطق بها زخارف هندسية وبوسط الدائرة كتابات كوفية تمتزج بزخارف هندسية معقدة، بينما تحيط بالرقعة الرئيسة أشرطة بالخط المغربي نفذت باللون الأزرق على أرضية صفراء داكنة. والحقيقة أن هذه الراية تعد إلى جانب قيمتها التاريخية، قطعة من الفن الجميل يحق للمتحف أن يعتبرها درة مقتنياته الفنية.

ومن الأقمشة الأندلسية التي تعود لفترة الموحدين، غطاء وسادة أنتج بواسطة صناع من المسلمين، وهو يمتاز بنسيجه الرقيق، ويحتوى زخارف باللون الأصفر الداكن على أرضية حمراء، وقوام الزخرفة هنا دائرة وسطى محاطة بكتابة عربية غير مقروءة، بداخلها رسم لجارية تضرب الدف لسيدها الذي يحتسي كأساً من الشراب، وتحيط بالدائرة أربع مناطق على هيئة نجمة ثمانية الأضلاع، وأخيراً شريطان في كل جانب بهما كتابة بالخط الكوفي ذات طابع زخرفي محض.

لمحة تاريخية

تقع مدينة بورغس أو كما سماها العرب “برغش” في قطالونيا بوسط شمال إسبانيا، ورغم أنها لم تخضع سياسياً للحكم الإسلامي في الأندلس وظلت نقطة متقدمة في مواجهة توغل المسلمين باتجاه الشمال؛ فإنها بمبانيها التاريخية ومقتنيات متاحفها، تجسد معنى التأثر بحضارة الإسلام. وقد أنشئت برغش في عهد ملك قشتالة ألفونسو الثالث عام 910، وأحاطها الملك بسور لحمايتها من جيوش المسلمين، وتعد كنيستها من أهم الكنائس بإسبانيا، وكذلك الدير الملكي الذي ألحقت به المدافن الخاصة بملوك قشتالة، ومن المفارقات أن الفنانين والصناع من المدجنين أي المسلمين الذين أجبروا على إظهار التنصر، قد عملوا في بناء وزخرفة هذا الدير بأعمال الجص الأندلسي الطابع، ومن ثم فقد غزت الفنون الإسلامية هذا الدير الذي لا تنعدم بين جدرانه عبارة التوحيد “لا إله إلا الله”.

سيطرة اللون الأحمر

الملاحظ في مقتنيات المتحف من قطع النسيج التي أنتجت خلال عصر دولة الموحدين، أن اللون الأحمر كان غالباً عليها، ومن أروعها قطعة نسيج يبلغ طولها 225 سم وعرضها 175سم، وتزدان ساحتها برسوم دوائر بها كتابات بالخط الكوفي وبداخلها رسم لوحشين متدابرين يتكرر باختلاف الألوان، بينما يتوج القطعة من أعلى، شريط بالخط الكوفي المنسوج على أرضية زرقاء داكنة، وتعطي الزخرفة مثالاً دقيقاً على اختلاط التقاليد الإسلامية الزخرفية بمتطلبات أصحاب العوش والنبلاء في أوروبا في تلك الفترة المبكرة من القرن الـ 13.

ومن أبدع مقتنيات هذا المتحف، قطعة صغيرة ونفيسة من القماش الذي استخدمت خيوط الذهب في نسج زخارفه (71 سم طولاً و49 سم عرضاً)، وقد استخدمت الحروف العربية بالخط المغربي في زخرفتها مع الزخارف الهندسية.

المصدر: الاتحاد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 70 مشاهدة
نشرت فى 24 يناير 2013 بواسطة alsanmeen

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,305,564