إتقان التحدث بلغة أجنبية منذ الصغر يشحذ وظائف الدماغ
كثيراً ما يشتكي الآباء من عدم ارتياحهم من ازدواجية اللغة التي يعيشها أبناؤهم، بسبب دراسة لغتين أو أكثر في المدرسة أو العيش في بلد أجنبي، أو عندما يكون الأبوان يتحدثان لغتين مختلفتين. لكن عدداً من الباحثين في اللسانيات وعلم الأعصاب يرون أن هؤلاء محظوظون ويجب غبطتهم وليس القلق بشأنهم أو التحسر على تلون لسانهم بلونين أو أكثر. فقد أظهرت دراسة حديثة نُشرت في العدد الأخير من مجلة علم الأعصاب، أن تحدث أكثر من لغة واحدة يمنع شيخوخة الدماغ ويؤخر انكماش المخ ويُنشط الوظائف الإدراكية ويطيل عمرها إلى سنوات مديدة بعد منتصف العمر. فتحدث لغة أجنبية واحدة أو أكثر إذن ليس استلاباً لغوياً أو استعماراً ثقافياً أو ترفاً معرفياً كما يعتقد البعض، بل هو امتياز صحي يضمن لأصحابه لياقة دماغية أفضل وأطول عمراً.
جون سيكور أستاذ لغة فرنسية بجامعة مورهيد في كنتاكي يبلغ عمره 57 سنة. وهو يتحدث لغتين منذ أن كان طفلاً صغيراً في كندا، وهو أيضاً موسيقي ومغن. وعندما يؤدي ضمن مجموعة أو فرقة، يجد أنه يتفوق على زملائه الذين يتحدثون لغتهم الأم فقط على مستوى سماع أصوات متعددة والتنقل بين النغمات والطبقات الصوتية. ويقول “لمست هذا الامتياز في نفسي مقارنة بالآخرين منذ انضمامي إلى الفرقة، دون أن أجد لذلك تفسيراً”. ولكن يبدو أن الدراسة التي نشرتها مجلة علم الأعصاب في عددها الأخير تقدم لجون سيكور التفسير الذي يبحث عنه. فقد جاء في هذه الدراسة أن أدمغة الأشخاص الذين يتقنون الحديث بلغتين أو أكثر يعملون بفعالية أكبر ويقدمون أداءً أفضل مقارنة بأقرانهم ممن يتحدثون لغة واحدة فقط، وأن مستوى نشاطهم الذهني يظل عالياً حتى بعد تجاوزهم منتصف العمر.
نشاط الدماغ
كان علماء الأعصاب يجمعون منذ مدة أدلة قوية تبين أن اكتساب لغة ثانية في مرحلة الطفولة واستخدامها بإتقان وانتظام من شأنه استدامة نشاط الدماغ وتأخير تراجع وظائفه الإدراكية. ولعل أكثر ما رغب فيه علماء أعصاب من جامعة كنتاكي بلكسنجتون هو معرفة سبب حفاظ أدمغة بعض الناس على لياقة أعلى من الآخرين. ويبدو أن الأمر يتعلق بما يحدث خلال عمل الوظائف الإدراكية. فعندما يتجاوز الشخص مرحلة منتصف العمر، تبدأ وتيرة نشاط دماغه في التباطؤ عند الانتقال من أداء مهمة إلى أخرى، وكذا في تقليل أثر عناصر الإلهاء والتشويش غير المرغوب فيها. فوظائف الجسم التنفيذية كالقدرة على التركيز على مهمة ما دون التأثر السريع بالمسليات والأفكار الطارئة تشهد هبوطاً ملحوظاً لدى غالبية الناس بعد تجاوز الأربعين سنة.
ويقول عالم الأعصاب برايان جولد “كانت هناك أدلة سلوكية مسبقة تثبت أن بعض الوظائف الإدراكية كسرعة البديهة ورد الفعل والدقة تتباطأ بوتيرة أقل لدى الأشخاص الذين يتحدثون أكثر من لغة واحدة. لكننا أردنا هذه المرة أن نفهم الأساس العصبي من وراء هذا الأمر”. وبصيغة أخرى، أردنا أن نعرف على نحو أدق أجزاء الدماغ المعنية أكثر بتوفير هذا النوع من الحماية لهذه الوظائف الإدراكية بفضل معالجة اللغات المتحدث بها، وكيف يحدث ذلك. واحتاج جولد في البداية إلى العثور على أشخاص متقدمين في العمر ومسنين يتحدثون لغتين منذ بلوغهم عشر سنوات، ثم إيجاد مواد اختبار تتناسب مع الوضع التعليمي والاجتماعي الاقتصادي لأولئك الذين يتحدثون لغة واحدة فقط. وقد وجد جولد صعوبة في العثور على عدد كاف من متحدثي لغتين في وسط كنتاكي، لكنه تمكن في النهاية من جمع عدد كاف من متقني أكثر من لغة واحدة، ومن بينهم سيكور.
ممارسة يومية
قام جولد بسؤال 15 شخصاً أحادي اللغة ممن يصل معدل أعمارهم 63 سنة، وطلب منهم تحديد ما إذا كان أحد الأشكال دائرة أو مربعاً، وأتاح لهم الإجابة عبر الضغط على زر الخيار الذي يرونه صحيحاً. ثم طلب منهم تحديد ما إذا كان لون هذا الشكل أحمر أو أزرق. وفي نهاية المطاف، طلب منهم الانتقال من مهمة إلى أخرى. وقد لاحظ جولد وزملاؤه الباحثون أن المشاركين الذين يتحدثون لغتين بدرت منهم ردود فعل أسرع وأدق، وأنهم ينتقلون من أداء مهمة إلى أخرى على نحو أسلس وأسرع مقارنة بمن يتحدثون لغة واحدة.
واستعان جولد بمتطوعين جدد في الدراسة، بمن فيهم عشرون شخصاً ثنائي اللغة وعشرون شخصاً أحادي اللغة، إلى جانب مجموعتين إحداهما تضم عشرين متحدثاً بلغتين والأخرى تشمل مسنين يتحدثون لغة واحدة، ثم طلب منهم جولد تنفيذ المهام نفسها، في حين كان يقوم بالموازاة بإخضاع أدمغتهم لعمليات مسح باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي.
وبعد تحليل نتائج بيانات المسح، وجد العلماء أنه خلال الانتقال من مرحلة إلى أخرى من الاختبار، كان كل شخص يستخدم أجزاء من قشرة المخ الأمامية (الناصية) والقشرة الحزامية الأمامية، وهي أجزاء تنفيذية من الدماغ، حيث تجري عمليات التبرير المنطقي ومقارنة الخيارات. وتُظهر بيانات المسح أن الأشخاص الأكبر سناً ممن يتحدثون لغة واحدة يحتاجون إلى مجهود دماغي أكبر في هذه المناطق مقارنة بالأشخاص الأصغر سناً، ومقارنة بأقرانهم ممن يتحدثون لغتين اثنتين.
ومن المعروف أن المخ ينكمش تدريجياً خلال التقدم في العمر، غير أن حجم الدماغ لم يكن مختلفاً جداً ما بين مجموعتي الراشدين المسنين. ولذلك فإن امتياز المتحدثين بلغتين لا يبدو بنيوياً. ويفترض الباحثون أن “الأمر قد يكون متعلقاً بكون متطلب ثنائية اللغة والقدرة على الانتقال يومياً ما بين منظومتين لغويتين يزيد فعالية أداء وظائف الدماغ، وأن هذه الخاصية تزيد بفضل الممارسة اليومية من فاعلية هذه المناطق الدماغية، وتعود بالنفع حتى على أجزاء الدماغ غير ذات الصلة بالوظائف اللسانية والتصورية”. ما قد يفسر تفوق سيكور على زملائه في الفرقة الموسيقية وتميزه عنهم من حيث التجاوب والأداء.
هدف صحي
يقول جولد إنه نشأ في كندا ويتحدث لغتين اثنتين منذ صغره، وإنه اختار التخصص في دراسة شيخوخة الدماغ. وهو يرى أن هناك مؤشرات توضح أن إتقان التحدث بلغتين أو أكثر من شأنه منع الإصابة بشيخوخة الدماغ أو تأخير انكماشه، ما قد يجعل اكتساب أكثر من لغة هدفاً صحياً أكثر منه ترفاً معرفياً.
وفيما يخص مدى كون الوقت قد يكون متأخراً على تعلم لغة جديدة بالنسبة للراشدين المتقدمين في العمر من أجل تحقيق إفادة لوظائفهم الإدراكية، يقول جولد “هذا الأمر ليس معروفاً على وجه الدقة إلى الآن. فلا توجد حجج وأدلة كثيرة تدعم هذه الفرضية أو تدحضها، لكنني أفترض أنه عندما يحتاج الشخص إلى اكتساب لغة ما وهو لا يزال صغير السن، فهو يمارسها بشكل يومي. فلا يكفي استخدام اللغة الجديدة المكتسبة على سبيل الهواية، بل ينبغي استخدامها كنشاط ذهني يومي منتظم قراءة أو محادثة لتحقيق الاستفادة القصوى لوظائف الدماغ”.
ويقول باحثون إنه لن يعود مستغرباً في المستقبل انتظام أطفال صغار في حصص دراسية لاكتساب لغة المندرين الصينية باعتبار ذلك مغنماً ثميناً بالنسبة لأدمغتهم. صحيح أن بعض الأبناء البالغين ست سنوات قد يتذمرون من تسجيلهم لاكتساب لغة أجنبية كالفرنسية أو الإسبانية وقد يكرهونها، لكن الشيء المؤكد هو أنهم سيقولون لآباءهم ومعلميهم عندما يكبرون “شكراً” بكل اللغات التي اكتسبوها.
هشام أحناش
ساحة النقاش