الطفل لا يمكنه فهم الإرشادات الأبوية واتباعها إلا بعد بلوغه 3 سنوات
فعلت هيثر هندرسون كل ما بوسعها من أجل تربية طفليها وتعليمهما الأدب والانضباط. جربت جميع الحيل، المألوفة منها والمبتكرة، لكنها فشلت. لديها ولدان، البكر عمره 6 سنوات والأصغر عمره 4 سنوات. حاولت تقديم شروح هادئة حول كل سلوك تشجع ابنيها عليه أو تنهاهما عنه. أوضحت لكل منهما بشكل جلي أن ضرب الأخ لأخيه وتعنيفه هو سلوك خطأ. لكنهما لا يزالان مع ذلك يتشاجران ويضربان بعضهما ويصرخان. فما كان منها إلا أن لجأت إلى اختصاصي نفساني في تدريب الآباء على إدارة الأبناء من أجل تزويدها بالتقنيات الأكثر فعالية التي يجدر استخدامها مع الأطفال الأكثر شغباً والأكثر استعصاءً على السيطرة علها تستعيد زمام أمورها وتسترجع دورها كأم تُحسن التربية.
يقول خبراء تربويون أميركيون إن نهْج بعض الأساليب التربوية مثل تلك التي يُصطلح عليها «تدريب الآباء على إدارة الأبناء» و«العلاج القائم على تعزيز التفاعل بين الأبوين والابن» تلقى دعماً وتأييداً من قبل مئات الدراسات البحثية الفعالة أكثر مع الأطفال الذين يصعب التعامل معهم، بمن فيهم أولئك الذين يعانون من اضطراب فرط النشاط وقلة الانتباه واضطراب العناد الشارد. وعلى الرغم من كون بعض هذه الأساليب تجد طريقها إلى الكتب التربوية الإرشادية المنتشرة، فإن التكتيكات العملية التي يُنصح باتباعها مع الأبناء المتمردين تظل غير معروفة لعامة الناس.
تحديد ثم مديح
قد تبدو هذه المقاربة بسيطة، لكنها قد تكون صعبة عند تطبيقها في الواقع اليومي المعيش. فأدمغة غالبية الناس تميل بشكل عام إلى التحيز والسلبية للأسف، كما يقول ألان كازدين، أستاذ علم النفس والطب النفسي للأطفال في جامعة ييل ومدير مركز ييل للأبوة. فنحن نولي انتباهاً أكبر عندما يسيء أبناؤنا التصرف، ولا نلقي لهم بالاً عندما يتصرفون كملائكة، وهذه طريقة متحيزة وغير بناءة لشخصية الطفل. ويوصي الدكتور كازدين بأن يحرص الأب أو الأم أو كليهما على الثناء على السلوكات الحسنة للابن ما لا يقل عن ثلاث إلى أربع مرات في كل فترة لعب أو ترويح عن النفس. وبالنسبة للطفل الصغير، يجب أن يكون الثناء متبوعاً بإطراء عاطفي ملموس كأخذ الطفل بالأحضان أو تقبيله أو معانقته.
العقوبة والخوف
دانييلا أوين هي عالمة نفسانية سريرية في مركز منطقة خليج سان فرانسيسكو للعلاج الإدراكي في أوكلاند بكاليفورنيا وقائدة الفريق البحثي الذي أنجز هذه الدراسة. تقول دانييلا «تُحاط العقوبة بكثير من الخوف. فالأطفال يميزون بين الحدود والقيود ويستفيدون منها». وقد وجدت الدراسة أن الإطراء الأبوي والاستجابات الإيجابية غير اللفظية مثل حضن الطفل أو تقبيله أو مكافأته بلاصق لشخصية كرتونية يحبها أو بوظة أو غيره لم تفض إلى جعل الطفل أكثر انقياداً وطاعة على المدى القريب. وتقول الدكتورة دانييلا «إذا كان ابنك ينظف غرفته ووضع غرضاً ما في مكانه وقلت له «عمل عظيم! أحسنت!» فذلك لا يعني أنه سيقوم بتوظيب كل الأغراض ووضعها في أماكنها». ولكن على المدى البعيد، يقود الثناء المنتظم إلى جعل الطفل يميل إلى الانقياد الطوعي لتوجيهات أبويه والعمل بها، ربما لأن الثناء المتكرر يقوي العلاقة بين الأبوين والابن أو البنت في منتهى المطاف. ولا يأتي المقال المنشور مؤخراً حول هذا الموضوع بهذه الاستنتاجات من فراغ، بل إنه يستمدها من 41 دراسة حول استراتيجيات التربية والتأديب لجعل الطفل أكثر انقياداً وانضباطاً. وعادة ما يجد الآباء في إرشادات ضبط الأطفال في الكتب التربوية ومدونات الأمهات والمربيات ومدربي الآباء على إدارة الأبناء نصائح وتوجيهات متضاربة. ويقول الدكتور كازدين، خبير في تدريب الآباء على إدارة الأبناء، «كثير من الأشياء التي توصي بها بعض الكتب الشعبية وواسعة الانتشار خاطئة. بل إن عدداً كبيراً من هذه التوصيات يعادل مطالبة الناس بالإكثار من التدخين من أجل تحسين صحتهم!».
أوامر فضفاضة
وغالباً ما يدمر الآباء جهودهم التربوية والتأديبية بمطالبة الأبناء بتنفيذ أوامر فضفاضة ومشروطة دون منحهم الوقت الكافي من أجل تعويدهم على الانقياد لها طوعاً، وليس كرهاً. ويقول الدكتور فيردوين المتخصص في العلاج القائم على التفاعل بين الأب والابن «عند قطع الطريق مثلاً، فإن التوجيه السيئ هو «كن حذراً»، في حين أن التوجيه الجيد هو: «أمسك بيدي»». وينصح فيردوين أيضاً الآباء بأن يعدوا في قرارة أنفسهم إلى خمسة قبل توجيه أمر أو توجيه إلى الابن من قبيل «البس معطفك». فمعظم الآباء ينتظرون ثانية أو ثانيتين فقط قبل إصدار أمر آخر. وبسبب عدم تحليهم بالحلم والصبر، يتحول الأمر بسهولة إلى الصراخ وإصدار التهديدات.
ويقول الدكتور فيردوين إن فنون التعامل الإيجابي مع الطفل قابلة للتطبيق في جميع مراحله العمرية، بيد أن علماء النفس يشيرون إلى أن البدء المبكر باستخدام فنون التعامل الإيجابي تبقى مقاربة أفضل. ويضيف فيردوين «الآباء لا تكون لهم سلطة كبيرة على أبنائهم عندما يصبحون يافعين ومراهقين. كما أن الأطفال لا يأبهون كثيراً بما يقومون به كما قد يعتقد الآباء». ويقول الدكتور كازدين إن بعض هؤلاء الآباء يحاولون إخضاع كل ما يصدر عن الطفل الصغير للعقل والمنطق، فيفشلون من ثم في تغيير سلوك الطفل. فالمنطق لا يغير السلوك، تماماً كما لا تغير رسائل «توقف عن التدخين» سلوك المدخنين، وكما تفشل العقوبات القاسية أيضاً في تغيير السلوكات المنهي عنها. ويضيف «من بين الآثار الجانبية للعقوبة هي عدم الانقياد الطوعي ورفض الانصياع ونمو الجانب العدواني في شخصية الطفل». وإذا أخذنا عقوبة الضرب الخفيف للطفل على مؤخرته (التلطيش) مثلاً، فإننا نجد أن هذه العقوبة تنمي في الأطفال الميل للسلوكات العدوانية، وتُضعف لديهم القدرة على إدارة الغضب، وتزيد من حدة الصراعات الزوجية في حياة الأبوين عندما يكبر أطفالهما. ومع ذلك، فإن 26% من الآباء الأميركيين يمارسون عقوبة «الضرب الخفيف على المؤخرة» تكراراً أو أحياناً ضد أبنائهم المتراوحة أعمارهم بين 19 شهراً و35 شهراً، وذلك وفق إحصاءات نشرتها مجلة «طب الأطفال» سنة 2004 بعد تحليل بيانات تقرير استند إلى سجلات الحكومة الفيدرالية ضم معلومات عن 2,068 أباً وأماً لديهم أطفال صغار. وفي مركز ييل للأبوة، وجد علماء نفسانيون أن جعل الأطفال يمارسون نوبات غضبهم وانفعالاتهم الحادة يساعدهم على تقليل عدد مراتها وتخفيف حدتها. ويوصي الدكتور كازدين الأبوين بأن يجعلا أبناءهما يمارسون نوبات الغضب والانفعالات الحادة مرة أو مرتين في اليوم مثلاً، ثم يطالبونهم بالتخلص تدريجياً من بعض السلوكات غير المرغوبة التي تشملها هذه النوبات، من قبيل الصراخ أو الركل. وبعد ذلك، تبدأ هذه النوبات الحقيقية تتبدد وتتلاشى وتتغير لدى معظم الأطفال. ويقول الدكتور كازدين «في خضم فترة تتراوح ما بين أسبوع إلى ثلاثة أسابيع، يكون الطفل قد تخلص من هذه الانفعالات السلبية الحادة نهائياً. وذلك بفضل تغير العنصر المثير لهذه الانفعالات. وينتهي المطاف بالأبوين بالضحك بدلاً من الغضب».
حلول إبداعية
ويشير الباحثون إلى أن ليس كل فن من هذه الفنون فعالاً لكل طفل. فبعض الآباء يضطرون إلى ابتكار حلول أكثر إبداعاً ومناورة حتى تكون ناجعة وناجحة عند تطبيقها مع الطفل.
وقد وجدت كارين بيزابين أن تذكيرها طفليها باللجوء إلى تبادل رمي الوسائد على بعضهما عند اشتداد الشجار بينهما يؤدي إلى وضعهما حداً لهذا الشجار بطريقة مرحة وإعادة مياه ودهما لبعض إلى مجاريها. وتقول كارين البالغة من العمر 34 سنة والأم لبنت عمرها 10 سنوات وابن عمره 6 سنوات « تتغير مواقفهما الفظة والمعادية لبعضهما على نحو فوري، وتتحول إلى مواقف سخيفة وساخرة. وقد أنال أنا نصيبي من رميات الوسائد».
وتقول الكاتبة داينا البالغة 51 سنة من هاواي إنها وجدت أن قضاء ساعة واحدة يومياً في التركيز مع ابنها ماكسيميليان البالغ 6 سنوات جعلها تكتشف أنه يميل إلى تفضيل اللعب لوحده ويستمتع بذلك ولا يضطر إلى مقاطعة الكبار الراشدين في البيت أو إزعاجهم. وهي لا تجد صعوبة في تنشئته وتصفه بأنه طفل «كبير». ومن المهم جداً أن يأخذ الآباء في الحسبان المرحلة العمرية للطفل. فبنجامين سيجل، أستاذ طب الأطفال في كلية الطب بجامعة بوسطن، يقول إن الطفل لا يمكنه البدء فعلاً في فهم القواعد والتعليمات والإرشادات الأبوية واتباعها إلا بعد بلوغه 3 سنوات. ويشغل الدكتور سيجل منصب رئيس لجنة أكاديمية طب الأطفال. وتعمل هذه اللجنة حالياً على التعاون مع عدد من الجهات ذات الصلة من أجل تحديث التوصيات والإرشادات الأبوية التي ينصح بها الخبراء لجعل الأطفال أكثر انضباطاً، مع الإسهام في النمو الإيجابي لشخصياتهم. وتهدف اللجنة من وراء ذلك إلى تحديث هذه الإرشادات تحضيراً لإصدار قائمة جديدة محدثة غير تلك التي لم تتغير منذ سنة 1998، رغم ظهور مقاربات تربوية ثورية خلال العقد الماضي.
هشام أحناش
عن «وول ستريت جورنال»
إدارة الأطفال
حسب برنامج تدريب الآباء على إدارة الأطفال، فإن ما يتعين على الآباء القيام به حينما يسيء الابن التصرف هو استخدام أدوات عقاب خفيفة كاللوم اللفظي الشفهي وتجنب الصراخ أو تقصير المدة المخصصة له للعب في أسوأ الحالات. وتلعب أدوات العقاب الخفيفة دوراً مقابلاً وموازناً للدور الذي يلعبه الثناء في نفسية الطفل. غير أن أدوات اللوم والتأنيب الأخرى والاستجابات السلبية غير اللفظية مثل رمق الطفل بنظرات عابسة وصارمة، أو حرمانه من امتيازاته اليومية المألوفة تؤدي إلى جعل الطفل أكثر انقياداً وطاعة، وذلك وفق مقال حديث نُشر في العدد الأخير من مجلة علم النفس الطفولي والأسري السريري.
ساحة النقاش