الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسار على دربهم إلى يوم الدين أما بعد:
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِنْ خَطَايَاهُ «أخرجه البخاري».
هذا الحديث حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض.
وافق يوم الاثنين الماضي اليوم العالمي للمعاقين، الذي يأتي في الثالث من شهر ديسمبر من كل عام، ونحن في هذه المناسبة نبين وجهة نظر الإسلام كي يكون المسلم على بينه من أمور دينه.
أولى ديننا الإسلامي الحنيف اهتماماً كبيراً بالضعفاء والمعاقين، حيث بيّن حقوقهم، وأولاهم عناية خاصة، وفتح لهم باب الخير على مصراعيه، كما ضمن لهم حياة طيبة كريمة، فأعطاهم حق التعليم والرعاية الصحية والاجتماعية وحق العمل، حيث تُخَصِّصُ بعض الدول نسبة معينة في وظائفها لشريحة المعاقين، وذلك بهدف دمجهم في المجتمع كبقية المواطنين.
إن أبناءنا المعاقين يشكلون شريحة مهمة في مجتمعاتنا، فهم إخوة لنا، وما حَلَّ بهم من بلاء لا يُقَلِّل من شأنهم ولا يُنْقِصُ من قدرهم، ومن الجدير بالذكر أن الابتلاء أمر حتمي في حياة المسلم، فقد أرشدنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – إلى أن المؤمن دائماً أمره خير، إذا أصابته سراء كان خيراً له، وإن أصابته ضراء أيضاً كان خيراً له، لأن في كليهما الخير والثواب، فهو الرابح في النهاية، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: (عجباً لأمر المؤمن، إنَّ أمرَهُ كلّه له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرَّاء صَبر فكان خيراً له) (أخرجه مسلم)، وكما قال الشاعر:
قد يُنْعمُ اللهُ بالبلوى وإن عَظُمتْ ويبتلى اللهُ بعض القوم بالنِّعم
الصبر على البلاء
ومن المعلوم أن الصبر على البلاء عنوان الإيمان الصادق وبرهانه، فالإيمان نصفه شكر على النعماء، ونصفه صبر على البأساء والضراء، لذلك، فإن جزاء الصبر عطاء من الله بغير حساب في الآخرة، وهو في الدنيا ضياء في الأحداث، وثبات يُكَفّر الله به الذنوب، ويفتح باب الفرج القريب، ونحن في هذه المناسبة نوجه نداء إلى أبناء أمتنا العربية والإسلامية بضرورة مساعدة ومساندة هذه الشريحة، ليحيوا حياة كريمة، كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قال: (وهل تنصرون، وترزقون إلا بضعفائكم؟)(أخرجه البخاري).
دعاء النبي، صلى الله عليه وسلم، لهم وتتجلى رحمته، صلى الله عليه وسلم بالمعاقين، عندما شرع الدعاء لهم، تثبيتاً لهم، وتشجيعاً لهم على تحمل البلاء، كما جاء في الحديث عن عطاء بن أبي رباح قال: قالي لي ابن عباس: (أَلا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي، قَالَ: "إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ"، فَقَالَتْ: أَصْبِرُ ،فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا)(أخرجه البخاري).
معاقون أعلام وأقمار
إن المعاقين لا ينقصهم الذكاء ولا الاجتهاد، فهم كغيرهم أسهموا في نشر العلم والنور، والدفاع عن الرسالة الإسلامية عبر التاريخ، ونحن هنا نذكر أمثلة لأولئك الأعلام الأفذاذ ومنهم:
عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: هو عبد الله بن عباس بن عبدالمطلب القرشي الهاشمي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كان رضي الله عنه أحد فقهاء الصحابة، حيث كان المسلمون يرجعون إليه في كثير من الأمور الفقهية، كما وبرع في التفسير، ومن المعلوم أن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قد اشتهر بروايته للحديث، حيث كان أحد الصحابة الكرام المكثرين من رواية الحديث النبوي، فقد بلغت مروياته ما يقرب من (1660) حديثاً.
عتاب الله
ومأثور عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه: عبد الله بن أم مكتوم من الصحابة الكرام – رضي الله عنهم أجمعين وكان أعمى ذهب إلى النّبي- صلى الله عليه وسلم، ليجلس معه، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم لانشغاله بدعوة صناديد قريش وسادتها، لعلَّ الله يشرح صدورهم، فجاء عتاب الله لنبيِّه عليه الصلاة والسلام في آيات تُتْلى إلى يوم القيامة "عَبَسَ وَتَوَلَّى*أَن جَاءهُ الأَعْمَى" (سورة عبس، الآيتان (1-2)، وكان صلى الله عليه وسلم يستقبله قائلاً: "أهلا بمن عاتبني فيه ربِّي"، وقد ولاه صلى الله عليه وسلم على المدينة في بعض الغزوات، فهو يتولى الخلافة نيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك دليل واضح على ضرورة تفعيل دور المعاقين ومدى الثقة بهم.
الفقيه المعروف
عطاء بن أبي رباح رحمه الله: هو عطاء بن أبي رباح الفقيه المعروف الذي كان يُنَادَى عنه في موسم الحج "لا يُفْتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح" حيث حدّث أحد خلفاء بني أمية أبناءه عنه قائلاً: يا أبنائي تعلموا العلم فو الله ما ذللتُ عند أحد إلا هذا، عطاء بن أبي رباح، يصفه الذين ترجموا له- رحمه الله-، بأنه كان أسود، أفطس، أعرج، أشل، ومع ذلك كان من الفقهاء المعدودين.
ابن الأثير
ابن الأثير رحمه الله: ابن الأثير صاحب كتاب الأصول كان مصاباً بمرض في ركبته ولم يستطع الأطبّاء معالجته، فقال لهم: دعوني إنني لما أصبت بهذه العاهة ألفّت جامع الأصول، ومن الجدير بالذكر أن هذا الكتاب يتكون من أحد عشر مجلداً، وكذلك النهاية في غريب الحديث ويتكوّن من أربعة مجلدات، لقد كتب رحمه الله هذه المراجع العلميّة وهو مقعد لا يستطيع القيام.
عمرو بن الجموح رضي الله عنه : هو عمرو بن الجموح أحد الصّحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين كان من أشراف العرب، وَمِمَّن يُشار إليه بالبنان، وكان رضي الله عنه يعاني عرجاً شديداً، شهد رضي الله عنه بيعة العقبة الثانية، كما وشهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم، معركة بدر، فلما جاءت غزوة أحد عزم، رضي الله عنه، على المشاركة في المعركة، لكنَّ أبناءه أجمعوا على منعه، لأنه شيخ كبير طاعن في السن، وهو إلى ذلك أعرج شديد العرج، فغضب الشيخ أشد الغضب، وانطلق إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم يشكوهم فقال: يا رسول الله، إنَّ أبنائي هؤلاء يريدون أن يحبسوني عن هذا الخير، وهم يتذرعون بأنِّي أعرج، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنّة، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام لأبنائه: "دعوه، لعل الله عزَّ وجلَّ يرزقه الشهادة.
الدكتور يوسف جمعة سلامة
خطيـب المسـجد الأقصـى المبـارك
ساحة النقاش