جاء الإسلام الحنيف ليطلق الطاقات الإبداعية، ويدفع الإنسان لاكتشاف قوى الكون وأسراره، ويحفز النشاطات العقلية والعملية، ويوظف مواهب الإنسان توظيفًا حضاريا لائقاً بالكرامة الإنسانية، ليقوم كل فرد في المجتمع بسد الثغرات في المكان الذي يعمل ويبدع فيه، ومن هنا رحب الإسلام بالإبداع المسؤول ومنحه الحرية اللازمة لكي يسمو ويرتقي بأفراد المجتمع المسلم، وفي المقابل وضع لحرية الإبداع ضوابط حتى لا تكون وسيلة لهدم قيم وثوابت المجتمع، وقد استطاع المسلمون الأوائل أن يحققوا العديد من الإنجازات والمبتكرات في ظل حرية الابداع المسؤولة، ولكن رغم ذلك هناك من يتهم الإسلام بأنه يعادي حرية الإبداع، ويقف حجر عثرة أمام الابداع الفني.

أحمد مراد - يؤكد د. أحمد محمود كريمة، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، أن الإسلام الحنيف لا يعارض الابداع أو الفن كوسيلة إبداعية تخاطب المشاعر والأحاسيس، وتعمل على تحقيق وتنمية الأهداف السامية داخل المجتمعات الإسلامية، وإنما يتحفظ فقط على الأعمال الفنية أو الأدبية أو الفكرية التى تعمل على هدم الثوابت الدينية والقيم الاجتماعية مثل المساس بالذات الإلهية، أو نقد الرسول عليه الصلاة والسلام، أوالسخرية من الأديان السماوية، أو نشر أفكار الانحلال والفساد الاخلاقي والاجتماعي.

حرية منضبطة

 

ويقول د. كريمة: الإسلام يعطى أتباعه مساحة كبيرة من الحرية المنضبطة بتعاليم الدين، والتى من أهم مبادئها إعطاء الفرد حرية الفكر والإبداع والتعبير عن الذات مع الحفاظ على قيم وثوابت المجتمع، وحمايته من الأفكار التى من شأنها الاعتداء على الأعراض وإثارة الغرائز، أو الاعتداء على قدسية الذات الإلهية أو التنقص من شأن الأنبياء، كما أن الإسلام لا يعارض الأدب والشعر والقصة والرواية وغيرها من الفنون التى تخاطب العقل وتعلي قيمة الفكر، وتؤدي للعلو واحترام القيم الإنسانية النبيلة.

 

ويضيف كريمة: أما الفن أو الابداع الهابط الذى يخاطب الغرائز، ويعتمد على الإسفاف والسطحية فهو تضييع لشباب الأمة والانحراف بفكر الشباب، وهذا ما يرفضه الإسلام ويحاربه بشتى الوسائل، حيث إن الإسلام يرى أن الانطلاق الصحيح للابداع الذي ينهض بالمجتمع يتمثل في التربية الإيمانية التي تربط المبدع بأصول وقم دينه، فالإنسان يتحول إلى طاقة هائلة من الإبداع والعطاء، عندما يقوم إبداعه على أساس من الإيمان، والصدق، والوضوح، والوعي الصحيح. كما أن الإسلام يحرس الكيان الإبداعي للمجتمع بالنهي عن كل إبداعٍ يؤدي إلى إسراف وتبذير، وإهلاك للنعم والثَّروات التي يمتلكها الإنسان، فضلا عن أنه يهتم بالبيئة المشجعة على الإبداع، ويرغب في تحصيل ثوابِ الدنيا والآخرة لمن عمِل صالحا، وذلك ليتحمس المبدع للرسالة التي يحملها، ويدخل عالم النجاح الواسع، فتمتلئ الحياة بالإيجابية والخير، ولا يتوقف قطار الإبداع.

شعور بالجمال

ويؤكد د.أحمد سليمان، العميد الاسبق لكلية اصول الدين بجامعة الأزهر، أن الإسلام يشجع كل إبداع ينفع الناس ويمكث في الأرض، كما أنه يشجع كل تقنية تؤدي لازدهار الحياة مع التمسك التام بالخصوصية الحضارية الإسلامية التي تحمي مجتمعاتنا من الانفلات، وضياع هويتنا الحضارية، ومن ثم فإنه من الضروري الرقي بالفنون وتوظيفها في خدمة رسالة الأمة.

ويشير إلى أن روح الفن والإبداع هو الشعور بالجمال، والإسلام يحي هذا الشعور في نفس المسلم، ويعلم المؤمن أن ينظر الى الجمال مبثوثا فى الكون كله، في لوحات ربانية رائعة الحسن أبدعتها يد الخالق المصور” الذى أحسن كل شيء خلقه”، ومن تدبر القرآن الكريم يجده يلفت الأنظار، وينبه العقول والقلوب الى الجمال الخاص بمفردات الكون وأجزائه وفي السماء، فيقول الله تعالى: “ أفلم ينظروا الى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج”، والقرآن نفسه معجزه أدبية فنية جمالية، استمع إليه العرب وهم مشركون، فقالوا: “إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة “ والإسلام رحب بالفن الراقي المقروء والمسموع والمرئي، وأيضا المصنوع ولكن بقيود وشروط تنأى به أن يكون معبرا عن الوثنية التي سادت الحضارات المختلفة قبل الاسلام.

ويقول د. سليمان: لابد أن ندرك جيدا أن حرية الابداع في الإسلام ليست نقيضا للالتزام، فالحرية معدن الوجود وجمال الكون، وهي صفة الفطرة السوية، ولكن الحرية التي نقصدها هنا هي التي تمنح الأدب والفن جمال الصدق والعزة في حسن البيان، إن هذه الدعوة إلى الحرية أعلى وأطهر وأنقى من دعوات الحضارات الأخرى، وقد خرجت دعوتهم من أحضان الراقصات، وزوايا المخدرات وقصص الجنس الفاضح المدمر، وحري بنا أن نعلم أيضا أن جوانب الانحراف ليست إلاَّ صورا ضئيلة في حياة المجتمع، وأعتقد أن رسم هذه الصور على النحو المكشوف الصارخ فيه تجاوز للحق والصدق، وهو يعطي صورة توحي بغير الواقع نفسه، ولذلك فهي تنزع عن الكاتب أولى صفات الحرية، وهي الأمانة والموضوعية والإخلاص.

ويشير د. سليمان إلى أن حرية الابداع ليست مجرد شعارات ترفع، أو كلمات جوفاء يتشدق بها الناس، إنما لابد أن تكون واقعاً حياً ملموساً، وسلوكاً عملياً يراه الناس ويمارسونه، وأن الحريات ليست مجرد نصوص في دساتير ومواثيق، إنما لابد أن تكون تطبيقًا مؤثراً، ودافعاً قويا للإبداع الذي يرتقي بالمجتمع وأفراده.

طاقات جبارة

ويقول د. محمد داود أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة قناة السويس: لقد خلق الله تعالى الإنسان ليكون خليفة له في الأرض، ولهذا أمده بإمكانات لم يؤتها أحدا من خلقه، فقد أتاه العلم “وعلم آدم الاسماء كلها”، ثم أسجد له الملائكة رمزا للتكريم، ثم منً الله على الإنسان بنعم لا تحصى أهمها العقل، والإرادة، والقدرة العضلية، والقدرة على الابتكار والابداع، وذلك كله لأن الإنسان ليس مجرد كائن في كون الله، بل هو كائن له طبيعة خاصة وقدرات خاصة تناسب رسالته، ثم جاء الإسلام ليشجع الإنسان على الابتكار الابداع الذي يتخذ مظاهر كثيرة منها الابداع الفكري، والعلمي، والفني، ولا أحد يستطيع أن ينكر أن الإسلام قد أعطى للأمة العربية انطلاقات كبيرة وأمدها بطاقات جبارة، ولأول مرة في تاريخ العرب يكون لهم دولة واحدة ونظام سياسي واضح المعالم وحضارة متميزة عن كل ما سبقها ولحقها من الحضارات، فقد أطلق الإسلام كل قوى الابداع التي كانت معطلة تحت ستار من الخرفات والجهل والبدائية، وجاء منهجا لحياة الانسان الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والحضارية، فدبت الروح في الملكات الابداعية عند المسلمين، وانطلقوا في الارض يزرعون ويصنعون ويبدعون في كل مجالات الابداع.

ويضيف د. داود: لقد اطلق الإسلام الملكات من عقالها، وفتح الابواب كلها أمام الإبداع والمبدعين في كل نواحي الحياة الإنسانية، فنشطت العقول، وانطلقت القدرات الابداعية لتبدع وتضيف وتصوغ فكراً جديداً وقيماً جديدة وحضارة جديدة، والذين يتوهمون أن الإسلام يقيد حرية الابداع أو يحجمها لا يعرفون عن الإسلام شيئا، فإذا كانت حرية الانسان في اختيار دينه مكفولة بنص القرآن الكريم “ لكم دينكم ولي دين “ فكيف يطلق الإسلام أهم الحريات ــ حرية العقيدة ــ ويقيد حرية الابداع، فقط وضع الإسلام ضوابط لتنظيمها وحمايتها من الاهواء التي قد تضر بالإنسان، ومن الثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب الشعر الجيد ويستزيد منه، وكان يحب شعر الخنساء، كما كان دائم الدعوة الى الابتكار والابداع، فيما يتعلق بشؤون الحياة الدنيا.

الارتقاء بحياة الإنسان

يشير د. داود إلى أن الإسلام منهج إلهي يدعو إلى الارتقاء بالإنسان وبالحياة من حوله، والابداع الانساني هو الوسيلة إلى هذا الارتقاء، لذلك فالإسلام يدعونا بل يفرض علينا أن نتدبر ونتأمل في الكون وفي آيات الله فيه لنستطيع أن نتجاوز الواقع ونتطوره، فنعرف الله حق المعرفة، ونعبده حق العبادة، مؤكدا أن حرية الابداع في الإسلام مكفولة بلا شرط أو قيد مادام هذا الابداع في صالح الإنسان وخطوة من خطوات رقيه وتطوره، ولهذا أبدع المسلمون الأوائل علوما وفنونا وفلسفات، ولم يبدعوا أسلحة تدمير، ولم تقدم الحضارة الإسلامية ما قدمته الحضارات الاخرى من ألوان المتع الرخيصة التي تهبط بحياة الانسان من مسكرات ومخدرات وجنس وغيرها، ما يعطل مسيرة الانسان نحو التطور والارتقاء، بل قدمت ابداعا خلاقا نافعا من علوم مزدهرة وفكر راق وفن بديع.

المصدر: الاتحاد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 85 مشاهدة
نشرت فى 24 نوفمبر 2012 بواسطة alsanmeen

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,276,478