بسم الله الرحمن الرحيم
سمّى ابن ابن القيم رحمه الله آخر باب في كتابه "روضة المحبين" (ذم الهوى، وما في مخالفته من نيل المُنى)([1]) وصدق. وقد لخصتها في: 38 ثمرة لمخالفة الهوى ([2])
يمكن تلخيص كلامه في هذا الباب في الآتي:
أولاً: الهوى لا يذم مطلقاً، ولا يمدح مطلقاً، كما أن الغضب لا يذم مطلقا، ولا يحمد مطلقا، وإنما يذم المُفْرِطُ من النوعين، وهو ما زاد على جلب المنافع ودفع المضار، ولما كان الغالب من مطيع هواه وشهوته وغضبه أنه لا يقف فيه على حد المنتفع به، أطلق ذم الهوى والشهوة والغضب؛ لعموم غلبة الضرر، فلذلك لم يذكر الله تعالى الهوى في كتابه إلا ذمه، وكذلك في السنة لم يجئ إلا مذموما، إلا ما جاء منه مقيدا كقوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به"([3]).
ثانياً: قال الشعبي: وسمي هوى؛ لأنه يهوي بصاحبه. ومُطْلِقُ الهوى يدعو إلى اللذة الحاضرة من غير فكر في العاقبة، ويحث على نيل الشهوات عاجلا وإن كانت سببا لأعظم الآلام عاجلا وآجلا، فللدنيا عاقبة قبل عاقبة الآخرة، والهوى يعمي صاحبه من ملاحظتها، والمروءةُ والدينُ والعقلُ ينهى عن لذة تعقب ألما، وشهوة تورث ندماً. ومن لا مروءة له، يؤثر ما يهواه وإن ثلم مروءته أو عدمها؛ لضعف ناهي المروءة، فأين هذا من قول الشافعي رحمه الله تعالى: لو علمت أن الماء البارد يثلم مروءتي لما شربته . وليعلم اللبيب أن مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذون بها، وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها؛ لأنها قد صارت عندهم بمنزلة العيش الذي لا بد لهم منه، ولهذا ترى مدمن الخمر والجماع لا يلتذ به عشر معشار التذاذ من يفعله نادرا في الأحيان، غير أن العادة مقتضية ذلك، فيلقي نفسه في المهالك لنيل ما تطالبه به العادة، ولو زال عنه رين الهوى لعلم أنه قد شقي من حيث قدر السعادة، واغتم من حيث ظن الفرح، وألم من حيث أراد اللذة، فهو كالطائر المخدوع بحبة القمح، لا هو نال الحبة، ولا هو تخلص مما وقع فيه .
ثالثاً: فإن قيل: فكيف يتخلص من هذا من قد وقع فيه ؟ قيل: يمكنه التخلص بعون الله وتوفيقه له بأمور ([4]): أحدها: عزيمةُ حرٍّ يغار لنفسه وعليها، وجرعةُ صبر، يصبر نفسه على مرارتها تلك الساعة، وقوةُ نفس، تشجعه على شرب تلك الجرعة، والشجاعة كلها صبر ساعة، وخير عيش أدركه العبد بصبره، وملاحظةُ حسنِ موقع العاقبة والشفاء بتلك الجرعة، وملاحظةُ الألم الزائد على لذة طاعة هواه. الثاني: إبقاؤه على منزلته عند الله تعالى وفي قلوب عباده، وهو خير وأنفع له من لذة موافقة الهوى. الثالث: إيثاره لذة العفة وعزتها وحلاوتها على لذة المعصية .
الرابع: فرحه بغلبة عدوه وقهره له، وردّه خاسئاً بغيظه وغمه وهمه، حيث لم ينل منه أمنيته، والله تعالى يحب من عبده أن يراغم عدوه ويغيظه، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] وقال: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} ،وعلامة المحبة الصادقة مغايظة أعداء المحبوب ومراغمتهم .
الخامس: التفكر في أنه لم يخلق للهوى، وإنما هيئ لأمر عظيم لا يناله إلا بمعصيته للهوى، كما قيل: قد هيئوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
السادس: أن لا يختار لنفسه أن يكون الحيوان البهيم أحسن حالا منه؛ فإن الحيوان يميز بطبعه بين مواقع ما يضره وما ينفعه، فيؤثر النافع على الضار، والإنسان أعطي العقل لهذا المعنى، فإذا لم يميز به بين ما يضره وما ينفعه، أو عرف ذلك وآثر ما يضره، كان حال الحيوان البهيم أحسن منه.
السابع: أن يسير بقلبه في عواقب الهوى، فيتأمل كم أفاتت طاعة الهوى من فضيلة! وكم أوقعت في رذيلة! وكم من لذة فوّتت لذات! وكم من شهوة كسرت جاهاً ونكّست رأساً! وقبحت ذِكْراً، وأورثت ذماً، وأعقبت ذُلاً، وألزمت عاراً لا يغسله الماء، غير أن عين صاحب الهوى عمياء.
الثامن: أن يأنف لنفسه من ذل طاعة الهوى، فإنه ما أطاع أحد هواه قط، إلا وجد في نفسه ذلا، ولا يغتر بصولة أتباع الهوى وكبرهم، فهم أذل الناس بواطن، قد أجمعوا بين فصيلتي الكبر والذل.
التاسع: أن يوازن بين سلامة الدين والعرض والمال والجاه، ونيل اللذة المطلوبة، فإنه لا يحد بينهما نسبة البتة، فليعلم أنه من أسفه الناس ببيعه هذا بهذا.
العاشر: أن يأنف لنفسه أن يكون تحت قهر عدوه، فإن الشيطان إذا رأى من العبد ضعف عزيمة وهمة وميلا إلى هواه، طمع فيه وصرعه، وألجمه بلجام الهوى، وساقه حيث أراد، ومتى أحس منه بقوة عزم وشرف نفس وعلو همة، لم يطمع فيه إلا اختلاسا وسرقة .
الحادي عشر: أن يعلم أن الهوى ما خالط شيئاً إلا أفسده: فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة والضلالة، وصار صاحبه من جملة أهل الأهواء، وإن وقع في الزهد أخرج صاحبه إلى الرياء ومخالفة السنة، وإن وقع في الحُكْمِ أخرج صاحبه إلى الظلم وصده عن الحق، وإن وقع في القسمة خرجت عن قسمة العدل إلى قسمة الجور، وإن وقع في الولاية والعزل أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين، حيث يولي بهواه ويعزل بهواه، وإن وقع في العبادة خرجت عن أن تكون طاعة وقربة، فما قارن شيئا إلا أفسده .
الثاني عشر: أن يعلم أن الشيطان ليس له مدخل على ابن آدم إلا من باب هواه، فإنه يطيف به من أين يدخل عليه حتى يفسد عليه قلبه وأعماله، فلا يجد مدخلا إلا من باب الهوى، فيسري معه سريان السم في الأعضاء.
الثالث عشر: أن الله سبحانه وتعالى جعل الهوى مضادا لما أنزله على رسوله، وجعل اتباعه مقابلا لمتابعة رسله، وقسم الناس إلى قسمين: 1- أتباع الوحي . 2- وأتباع الهوى . وهذا كثير في القرآن كقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} وقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} ونظائره .
الرابع عشر: أن الله سبحانه وتعالى شبه أتباع الهوى بأخس الحيوانات صورة ومعنى، فشبههم بالكلب تارة، كقوله تعالى: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} . وبالحمر تارة، كقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}. وقلب صورهم إلى صورة القردة والخنازير تارة .
الخامس عشر: أن متبع الهوى ليس أهلاً أن يطاع، ولا يكون إماماً ولا متبوعاً، فإن الله سبحانه وتعالى عزله عن الإمامة ونهى عن طاعته: أما عزله، فإن الله سبحانه وتعالى قال لخليله إبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، أي لا ينال عهدي بالإمامة ظالما، وكل من اتبع هواه فهو ظالم كما قال الله تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}. وأما النهي عن طاعته؛ فلقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}.
السادس عشر: أن الله سبحانه وتعالى جعل متبع الهوى بمنزلة عابد الوثن، فقال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} في موضعين من كتابه، قال الحسن:هو المنافق، لا يهوى شيئا إلا ركبه، وقال أيضا: المنافق عبد هواه، لا يهوى شيئا إلا فعله .
السابع عشر: أن الهوى هو حظار جهنم المحيط بها حولها، فمن وقع فيه وقع فيها، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات"([5]).
الثامن عشر: أنه يُخاف على من اتبع الهوى أن ينسلخ من الإيمان وهو لا يشعر! وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)([6])، وصح عنه أنه قال: "أخوف ما أخاف عليكم، شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى"([7]).
التاسع عشر: أن مخالفة الهوى تورث العبد قوة في بدنه وقلبه ولسانه، قال بعض السلف: الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده، وفي الحديث الصحيح المرفوع: "ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"([8]). وكلما تمرن على مخالفة هواه، اكتسب قوة إلى قوته .
العشرون: أن أغزر الناس مروءة أشدهم مخالفة لهواه، قال معاوية: المروءة ترك الشهوات، وعصيان الهوى، فاتباع الهوى يزمن المروءة، ومخالفته تنعشها .
الواحد والعشرون: أنه ما من يوم إلا والهوى والعقل يعتلجان في صاحبه، فأيها قوي على صاحبه طرده وتحكم، وكان الحكم له، قال أبو الدرداء: إذا أصبح الرجل، اجتمع هواه وعمله، فإن كان عمله تبعا لهواه، فيومه يوم سوء، وإن كان هواه تبعا لعمله، فيومه يوم صالح .
الثاني والعشرون: أن الله سبحانه وتعالى جعل الخطأ واتباع الهوى قرينين، وجعل الصواب ومخالفة الهوى قرينين، كما قال بعض السلف: إذا أشكل عليك أمران لا تدري أيها أرشد، فخالف أقربهما من هواك، فإن أقرب ما يكون الخطأ في متابعة الهوى .
الثالث والعشرون: أن الهوى داء ودواؤه مخالفته، قال بعض العارفين: إن شئت أخبرتك بدائك، وإن شئت أخبرتك بدوائك، داؤك هواك، ودواؤك ترك هواك ومخالفته . وقال بشر الحافي رحمه الله تعالى: البلاء كله في هواك، والشفاء كله في مخالفتك إياه .
الرابع والعشرون: أن جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار، فليس بدونه، قال رجل للحسن البصري رحمه الله تعالى: يا أبا سعيد أي الجهاد أفضل؟ قال: جهادك هواك . وسمعت شيخنا ـ يعني ابن تيمية ـ يقول: جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين، فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولا حتى يخرج إليهم .
الخامس والعشرون: أن اتباع الهوى يُغلق عن العبد أبواب التوفيق ويفتح عليه أبواب الخذلان، فتراه يلهج بأن الله لو وفق لكان كذا وكذا، وقد سد على نفسه طرق التوفيق باتباعه هواه، قال الفضيل ابن عياض: من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات، انقطعت عنه موارد التوفيق .
السادس والعشرون: أن من نصر هواه فسد عليه عقله ورأيه؛ لأنه قد خان الله في عقله فأفسده عليه، وهذا شأنه سبحانه وتعالى في كل من خانه في أمر من الأمور، فإنه يفسده عليه. وقال المعتصم يوما لبعض أصحابه: يا فلان، إذا نُصِرَ الهوى؛ ذهب الرأي. وسمعت رجلا يقول لشيخنا: إذا خان الرجل في نقد الدراهم سلبه الله معرفة النقد أو قال نسيه، فقال الشيخ: هكذا من خان الله تعالى ورسوله في مسائل العلم.
السابع والعشرون: أن من فسح لنفسه في اتباع الهوى، ضيق عليها في قبره ويوم معاده، ومن ضيق عليها بمخالفة الهوى، وسع عليها في قبره ومعاده، وقد أشار الله تعالى إلى هذا في قوله تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} فلما كان في الصبر الذي هو حبس النفس عن الهوى خشونة وتضييق، جازاهم على ذلك نعومة الحرير وسعة الجنة.
الثامن والعشرون: أن اتباع الهوى يحل العزائم ويوهنها، ومخالفته تشدها وتقويها، والعزائم هي مركب العبد الذي يسيره إلى الله والدار الآخرة، فمتى تعطل المركوب أوشك أن ينقطع المسافر! قيل ليحيى بن معاذ: من أصح الناس عزما؟ قال: الغالب لهواه .
التاسع والعشرون: أن مخالفة الهوى مطردة للداء عن القلب والبدن، ومتابعته مجلبة لداء القلب والبدن، فأمراض القلب كلها من متابعة الهوى، ولو فتشت على أمراض البدن لرأيت غالبها من إيثار الهوى على ما ينبغي تركه .
الثلاثون: أن أصل العداوة والشر والحسد الواقع بين الناس من اتباع الهوى، فمن خالف هواه أراح قلبه وبدنه وجوارحه، فاستراح وأراح. قال أبو بكر الوراق: إذا غلب الهوى أظلم القلب، وإذا أظلم ضاق الصدر، وإذا ضاق الصدر ساء الخلق، وإذا ساء الخلق أبغضه الخلق وأبغضهم، فانظر ماذا يتولد من التباغض من الشر والعداوة وترك الحقوق وغيرها .
الواحد والثلاثون: أن الله سبحانه وتعالى جعل في العبد هوى وعقلا، فأيهما ظهر توارى الآخر، كما قال أبو علي الثقفي: من غلبه هواه توارى عنه عقله، فانظر عاقبة من استتر عنه عقله وظهر عليه خلافه. وقال علي بن سهل رحمه الله: العقل والهوى يتنازعان، فالتوفيق قرين العقل، والخذلان قرين الهوى، والنفس واقفة بينهما، فأيهما غلب كانت النفس معه .
الثاني والثلاثون: أن الله سبحانه وتعالى جعل القلب ملك الجوارح ومعدن معرفته ومحبته وعبوديته، وامتحنه بسلطانين وجيشين وعونين وعدتين، فالحق والزهد والهدى سلطان، وأعوانه الملائكة، وجيشه الصدق والإخلاص ومجانبة الهوى. والباطل سلطان، وأعوانه الشياطين، وجنده وعدته اتباع الهوى، والنفس واقفة بين الجيشين، ولا يقدم جيش الباطل على القلب إلا من ثغرتها وناحيتها، فهي تخامر على القلب وتصير مع عدوه عليه، فتكون الدائرة عليه، فهي التي تعطي عدوها عدة من قبلها، وتفتح له باب المدينة فيدخل ويتملك ويقع الخذلان على القلب .
الثالث والثلاثون: أن أعدى عدو للمرء شيطانه وهواه، وأصدق صديق له عقله والملك الناصح له، فإذا اتبع هواه أعطي بيده لعدوه، واستأسر له وأشمته به وساء صديقه ووليه، وهذا هو بعينه هو جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.
الرابع والثلاثون: أن لكل عبد بداية ونهاية، فمن كانت بدايته اتباع الهوى، كانت نهايته الذل والصغار والحرمان، والبلاء المتبوع بحسب ما اتبع من هواه، بل يصير له ذلك في نهايته عذابا يعذب به في قلبه. فلو تأملت حال كل ذي حال سيئة زرية؛ لرأيت بدايته الذهاب مع هواه وإيثاره على عقله، ومن كانت بدايته مخالفة هواه وطاعة داعي رشده، كانت نهايته العز والشرف والغنى والجاه عند الله وعند الناس . قال أبو علي الدقاق: من ملك شهوته في حال شبيبته، أعزه الله تعالى في حال كهولته. وقيل للمهلب بن أبي صفرة: بم نلت ما نلت؟ قال بطاعة الحزم، وعصيان الهوى. فهذا في بداية الدنيا ونهايتها، وأما الآخرة فقد جعل الله سبحانه الجنة نهاية من خالف هواه، والنار نهاية من اتبع هواه .
الخامس والثلاثون: أن الهوى رِقٌّ في القلب، وغل في العنق، وقيد في الرجل، ومتابعه أسير لكل سيء الملكة، فمن خالفه عتَقَ من رقه وصار حراً، وخلع الغل من عنقه والقيد من رجله وصار بمنزلة رجل سالم لرجل، بعد أن كان رجلا فيه شركاء متشاكسون
السادس والثلاثون: أن مخالفة الهوى تقيم العبد في مقام من لو أقسم على الله لأبره، فيقضي له من الحوائج أضعاف أضعافِ ما فاته من هواه، فهو كمن رغب عن بعرة فأعطي عوضها دُرة، ومتبع الهوى يفوته من مصالحه العاجلة والآجلة والعيش الهنيء مالا نسبة لما ظفر به من هواه البتة. فتأمل انبساط يد يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام ولسانه وقدمه ونفسه، بعد خروجه من السجن لما قبض نفسه عن الحرام. وقال عبد الرحمن بن مهدي: رأيت سفيان الثوري رحمه الله تعالى في المنام، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: لم يكن إلا أن وضعت في لحدي، حتى وقفتبين يدي الله تبارك وتعالى، فحاسبني حسابا يسيراً، ثم أُمِرَ بي إلى الجنة، فبينا أنا أدور بين أشجارها وأنهارها لا أسمع حسا ولا حركة، إذ سمعت قائلا يقول: سفيان بن سعيد؟ فقلت: سفيان بن سعيد! فقال: تحفظ أنك آثرت الله عز وجل على هواك يوما؟ قلت: إي والله، فأخذني النثار من كل جانب.
السابع والثلاثون: أن مخالفة الهوى توجب شرف الدنيا وشرف الآخرة وعز الظاهر وعز الباطن، ومتابعته تضع العبد في الدنيا والآخرة وتذله في الظاهر وفي الباطن.
الثامن والثلاثون: أنك إذا تأملت السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وجدتهم إنما نالوا ذلك الظل بمخالفة الهوى: فإن الإمام المسلط القادر، لا يتمكن من العدل إلا بمخالفة هواه، والشابَ المؤثر لعبادة الله على داعي شبابه، لولا مخالفة هواه لم يقدر على ذلك، والرجلَالذي قلبه معلق بالمساجد، إنما حمله على ذلك مخالفة الهوى الداعي له إلى أماكن اللذات، والمتصدقَ المخفي لصدقته عن شماله لولا قهره لهواه لم يقدر على ذلك،والذي دعته المرأة الجميلة الشريفة فخاف الله عز وجل وخالف هواه، والذي ذكر الله عز وجل خاليا ففاضت عيناه من خشيته إنما أوصله إلى ذلك مخالفة هواه، فلم يكن لحر الموقف وعرقه وشدته سبيل عليهم يوم القيامة، وأصحاب الهوى قد بلغ منهم الحر والعرق كل مبلغ، وهم ينتظرون بعد هذا دخول سجن الهوى.
فالله سبحانه وتعالى المسؤول أن يعيذنا من أهواء نفوسنا الأمارة بالسوء، وأن يجعل هوانا تبعا لما يحبه ويرضاه، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، ...
--------------------------------- ([1]) وهو الباب التاسع والعشرون من أبواب الكتاب، وهو من أنفس أبواب الكتاب. ([2]) هي في الأصل: خمسون ثمرة، لكنني دمجت بين المعاني المتشابهة المتتالية في كلامه رحمه الله، وحذفت ما ظاهره التكرار، أو يعسر فهمه على عموم الناس، ليسهل تداوله، ومن أحب مراجعة الأصل، فهو بين يديه. ([3])السنة لابن أبي عاصم ح(15) باب ما يجب أن يكون هوى المرء تبعا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. والحديث ضعيف السند، بل قال قال ابن رجب ـ متعقبا على تصحيح النووي للحديث ـ :"وتصحيح هذا الحديث بعيد جداً" وسيأتي قول المؤلف في تقويته، وفيما قاله نظر، ومعناه صحيح. ([4]) ([5]) مسلم ح(2822) . ([6]) سبق تخريجه . ([7]) اعتلال القلوب للخرائطي ح(88)، وهو عند أحمد وغيره بلفظ (إن مما أخشى عليكم، شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى) وفي سنده ضعف. ([8]) البخاري ح(6114)، مسلم ح(2609) .
|
ساحة النقاش