يمر كل إنسان بتجارب فيها الجيد وفيها السيئ، وتحدث له أشياء سعيدة وأخرى تعيسة. وتنقضي هذه التجارب والأشياء، لكنها تُخزن في الذاكرة، فيجد الإنسان نفسه مع مرور الوقت يبش وينشرح قلبه كلما تذكر جميلها، بينما يتجهم وجهه ويقطب حاجبيه كلما استعاد حزينها. وإذا كان حبنا للذكريات السعيدة يدفعنا لاشعورياً إلى استعادتها لما تضفيه على أنفسنا من بهجة، فإن السؤال المطروح هو كيف يتعامل الدماغ بالمقابل مع الذكريات الحزينة؟
وتوصل باحثون إلى أن الإنسان يتعامل مع الذكريات بطريقتين مختلفتين. الأولى تقوم على الإخماد والثانية تقوم على الاستبدال. وكلاهما تهدفان إلى تجنب التفكير في كل ما هو سيئ وغير مريح. ويقول رولاند بينوا، عالم بمجلس البحوث الطبي وبوحدة علوم الإدراك والدماغ بجامعة كامبريدج، «في الحياة اليومية، نفترض أن الأشخاص الأصحاء يستخدمون آليتين اثنتين من أجل منع ذكرى غير مرغوب فيها من أن تُستحضر مجدداً». ويضيف «لم نكن نعرف ما إذا كانت عمليات الإخماد المباشرة والتفكير الاستبدالي يمكن فصلهما، ولا ندري أياً منهما تقود على نحو أسرع إلى نسيان الذكرى السيئة».
ولمعرفة ذلك، طلب رولاند وزميله مايكل أندرسون من 36 راشداً المشاركة في تمرين ذاكرة. فقام نصف المشاركين في هذا التمرين باتباع طريقة الإخماد، بينما عمل نصفهم الآخر على استبدال الذكريات السيئة بأخرى جديدة سعيدة. وكان الباحثون يحاولون فهم كيف يقوم الإنسان بشكل تلقائي بنسيان شيء ما، وكيف يؤثر ذلك على ذاكرته العامة. ما دفعهم إلى إخضاع أدمغة المشاركين إلى فحص بجهاز التصوير بالرنين المغناطيسي حتى يتسنى لهم ملاحظة الطريقة التي يعمل بها الدماغ خلال عمليات الإخماد والاستبدال.
وعلى الرغم من أن العمليتين كلتيهما تتسببان في النسيان، فإن كل عملية تُدار بمنطقة مختلفة في الدماغ. وعندما يُخمد الناس ذكريات ما أو يُحاولون نسيانها، فإن قشرة المخ الجبهية الظهرية تمنع نشاط الُحصين، وهي منطقة تلعب دوراً مهماً في الاحتفاظ بالذكريات. ويقول بينوا شارحاً «تعمل هذه القشرة على التعطيل التدريجي لعملية الاستذكار، ما يُشوش على تمثلات الذاكرة وتجسيداتها، والتي تُعد ضرورية في عملية استحضار الذكرى غير المرغوب فيها لاحقاً».
وحينما يختار الإنسان عملية الاستبدال أو يفضلها كنهج، فإن الدماغ يعمل على نحو مختلف. إذ تُشكل قشرة المخ الجبهية الذيلية والفص الجبهي لمنتصف المنطقة البطنانية شبكةً تعمل مع الحُصين على مُبادلة تفاصيل الأشياء التي يسهل نسيانها بمعلومات جديدة، وذلك على نحو شبيه بعمليات المقايضة.
ويقول بينوا «قد يكون الشخص ناجحاً في نسيان ما شاء من ذكريات سيئة ودفنها في قعر سحيق، لكن يبقى من الصعب التكهن ما إذا كان يستخدم طريقة الإخماد أو الاستبدال. فاتباع هذه الطريقة أو تلك يتوقف على الآليات التي تقوم عليها أنظمة الدماغ المختلفة، سواءً عن طريق الإخماد المباشر وقطع عملية التذكر قبل انتهائها، أو عن طريق التفكير الاستبدالي المبني على توجيه عملية الاستذكار وتغيير وجهتها للتفكير في ذكرى بديلة».
وبالرغم من أن الناس يميلون إلى استغلال ملكة نسيان الذكريات السيئة وغير السعيدة، فإن تنشيط الدماغ بشكل مفرط لنسيان أحداث كثيرة يمكن أن يؤثر سلباً على أداء عملية الاستذكار عموماً. ولكن بينوا يوضح مع ذلك أن تعلم كيفية تعامل الناس مع الذكريات غير المرغوب فيها يُساعدهم على استيعاب كيف يتمكن من يمرون بتجارب مريرة ويعانون من صدمات صعبة من التعايش مع ذكرياتهم المؤلمة.
ويختم بينوا دراسته بالقول «من الطبيعي جداً لأي إنسان أن يسعى إلى إخراج الذكريات السيئة من ذاكرته ويتمنى لو تمكن من محوها. فالدماغ يتصرف بمجرد أن يفكر الشخص بجدية وعزيمة حقيقية نابعة من العقل الباطن في نسيان ذكرى ما، عبر إخمادها وجعلها متلاشية إلى أبعد حد، أو عبر استبدالها بذكرى أخرى أفضل منها، وبالتالي مساعدة الإنسان في حل مشكلته مع ارتدادات وأصداء الذكريات السيئة والحزينة». ويضيف «في حال ظل الإنسان في منطقة وُسطى، وتردد ما بين نسيان شيء ما أو استذكاره، فإن الدماغ يرفض التدخل وينتظر إلى أن يرسو الشخص على بر، ويتخذ قراراً نهائياً حول رغبته الحقيقية في نسيان ذاك الشيء أو استبقائه حياً في الذاكرة».
ساحة النقاش