أن تضع رأسك على وسادة يعني بالنسبة لكثير من الناس انطفاء أنوار الوعي والشعور. لكن هؤلاء يجهلون أو يتجاهلون أن خلايا الدماغ لا تعرف النوم، فهي تبقى مستيقظة متوهجة تنبعث منها الشرارات تلو الأخرى، وتتحول إلى طاقة كافية لإنتاج أحلام بعضها مفرح وبعضها محزن، لكنها تحدث جميعها خلال مرحلة حركة العين السريعة. ويحيط بعالم الأحلام أسرار كثيرة، فقد حيرت العلماء والفلاسفة والباحثين على مر التاريخ، وهي تُعد إلى الآن ألغازاً وظواهر لا يزال يكتنفها الغموض رغم ظهور العديد من البحوث التي حاولت استكشاف ما يحدث للإنسان خلال نومه واقتربت من الاتفاق على بعض الحقائق.
بعض الناس تراودهم الكوابيس والأحلام المزعجة، وآخرون يقضون فترة نومهم في سعادة وهناء. وهناك نائمون تُسعدهم أحلامهم، بينما هناك آخرون تُتعسهم وتقض مضاجعهم. فقد يحدث أن تستيقظ فرحاً مستبشراً بمجرد أن يراودك حلما جميلا، وقد تصحو فزعاً متعوذاً بسبب كابوس أوجاثوم وتقضي نهارك متشائماً حائراً. ونظراً لقدرة العلماء أكثر من ذي قبل على سبر أغوار أدمغتنا، فإنهم نجحوا في إماطة بعض اللثام وتقديم بضع إجابات حول الأحلام. ويمكن إيجاز الأجوبة التي اتفقوا نسبياً عليها في خمس، وهي:
أولاً- الأحلام العنيفة قد تكون إشارة تحذيرية. فالكوابيس المزعجة ليست أسوأ شيء يمكن أن ينغص على النائم ليله، بل هناك اضطراب نوم سلوكي نادر يحدث خلال مرحلة حركة العين السريعة. ويجعل النائم يُصدر أفعالاً كأن يهز جسمه بعنف ويتخبط في مكانه، أو يلكم أو يركل أو يصرخ. وأحلام عنيفة كهذه قد تكون مؤشراً مبكراً يُنذر بقابلية الإصابة لاحقاً بأحد اضطرابات الدماغ كالشلل الرعاشي (باركينسون) أو الخرف، وفقاً لدراسة نُشرت في النسخة الرقمية لمجلة “علم الأعصاب”. وتشير نتائج هذه الدراسة إلى أن المراحل الأولى لظهور الاضطرابات العصبية قد تبدأ عقوداً قبل أن يعلم الشخص أو طبيبه بوجودها.
ثانياً- الأشخاص المسائيون وعشاق الليل تراودهم كوابيس أكثر. فالسهر لساعات متأخرة من الليل كل يوم لديه بعض الفوائد على الناس الذين يجدون أن أداءهم وتركيزهم يكون أعلى وأفضل في هدأة الليل وسكونه. لكن الأحلام العشوائية ليست حتماً من الفوائد التي يبحث عنها عشاق السهر الليلي. وقد نشرت مجلة “النوم والإيقاعات البيولوجية” دراسة في العام الماضي تكشف أن الأشخاص المتعودين على السهر ليلاً تُراودهم الكوابيس أكثر من أقرانهم المستيقظين باكراً.
وقام باحثون في هذه الدراسة باستطلاع آراء 264 شخصاً من طلبة الجامعة، وسألوهم إنْ كانت تُراودهم كوابيس في أثناء نومهم، وكانت الأسئلة تتوزع بين “دائماً، أبداً، وأحياناً”، وتم تقييم الإجابات في سلم من أربع درجات. وكانت النتيجة أنْ حصل الأشخاص الساهرون ليلاً على 2,10 درجة. بينما حصل عشاق الاستيقاظ المبكر على 1,23 درجة. وعلق الباحثون على هذه النتيجة بالقول إن الفرق كان واضحاً ودالاً، لكنهم اعترفوا بعجزهم عن تفسير وجود رابط بين عادات النوم والكوابيس. ومن بين الأفكار التي افترضوها أن مستوى هرمون الكورتيزول الذي يفرزه الجسم عند الإصابة بالإجهاد والتعب يبلغ ذروته في الصباح الباكر جداً قبل استيقاظنا بلحظات قليلة، وهي الفترة التي يكون فيها النائمون معرضين أكثر للمرور بمرحلة حركة العين السريعة، أو الحلم، أو النوم. وإذا كنت لا تزال نائماً في هذه الفترة، فإن ارتفاع إفراز هرمون الكورتيزول قد يجعل حالتك النفسية أكثر هشاشة، فيترجم جسمك ذلك إلى أحلام عنيفة متخبطة وكوابيس مزعجة.
ثالثاً- الاحتلام. تَبين من خلال أكثر من دراسة أن الرجال يحتلمون أكثر من النساء، وأن الرجال تعتريهم تخيلات حميمية أيضاً أكثر من النساء، سواء العزاب منهم أو المتزوجين. وتقول العالمة النفسانية جيني باركر من جامعة “ويست أوف إنجلند” إن الأحلام والكوابيس تتوزع إلى ثلاث فئات هي الأحلام المخيفة المرعبة، كأن تحلم أن شخصاً يهددك أو يطاردك من أجل إيذائك، والأحلام التي تصور لك فقدان حبيب أو عزيز أو قريب، والأحلام العشوائية المتخبطة التي تبتعد عن المنطق في كثير من الأحيان.
رابعاً- السيطرة على الأحلام. تقول العالمة النفسانية جيني جاكينباخ من جامعة جرانت ماك إيوان في كندا “إذا كنت تفضل الأحلام الواضحة، فقد يفيدك قضاء بعض الوقت في لعب ألعاب الفيديو، فهي كالأحلام، تجسد واقعاً بديلاً. وإذا كنت تقضي ساعات كل يوم في العيش بواقع افتراضي، يصبح ذلك ممارسة ملازمة لذهن اللاعب تلقي بظلالها على واقعه اليومي المعيش، وقد تمتزج به أحياناً، كما قد يصل إلى مرحلة يصعب عليه فيها التمييز بشكل واضح بين الواقع الحقيقي والواقع الافتراضي”. وتضيف “يدأب هواة ألعاب الفيديو على التحكم في البيئات التي يلعبون فيها، وهذا أمر قد يجد صدى في أحلامهم أو يُترجم فيها”. وتشير جيني في آخر دراسة لها إلى أن الأشخاص الذين يقضون ساعات أطول أمام شاشات ألعاب الفيديو تُراودهم أحلام واضحة أكثر مقارنة بالأشخاص الآخرين من غير هواة هذه الألعاب. وتعزو جيني ذلك إلى كون هواة ألعاب الفيديو يتدربون عبر ممارسة هذه الألعاب إلى رؤية أنفسهم من خارج أجسادهم عبر تقمص شخصية اللاعب البطل الذي يرونه في شاشة لعبة الفيديو، ويسهل عليهم بالتالي رؤية أنفسهم في الأحلام بشكل أوضح، وكأنهم يتفرجون على شريط فيديو سجلوه في وقت ما.
وتقول جيني أيضاً إن هواة ألعاب الفيديو لديهم قدرة أكبر على التأثير في عوالم أحلامهم، فعقلهم الباطن يميل إلى التعامل والتفاعل مع الأحلام كأنها ألعاب فيديو، ويتمكنون بذلك من السيطرة عليها أكثر، وأحياناً تطويعها لتُجسد ذات الأدوار التي يتقمصها أبطال ألعاب الفيديو التي يمارسونها. وتضيف جيني أن مستوى التحكم في الحلم قد يساعد هؤلاء على تحويل كابوس مرعب إلى حُلم وديع. وهذه الخاصية تُفيد أيضاً قدماء المحاربين الذين يصابون بعد أن تضع الحرب أوزارها باضطراب الكرب ما بعد الصدمة، وذلك عبر إحالة كوابيسهم المخيفة المستمدة مما خزنته ذاكرتهم من أهوال الحرب إلى أحلام أخف وأقل توتيراً للأعصاب.
خامساً- لماذا نحلم؟ هذا سؤال شغل عقول العلماء والباحثين لقرون عديدة. فمن العالم النمساوي سيجموند فرويد الذي يرى أننا نحلم لتحقيق أمنيات لم تتحقق لنا في الواقع، مروراً بالعلماء الأميركيين نثانييل كلايتمان ويوجين أزيرنسكي وجون برتويل الذين افترضوا في خمسينيات القرن الماضي أن الأحلام الكئيبة وأضغاث الأحلام التي نراها خلال النوم ما هي إلا أعراض جانبية لحركة العين السريعة، ووصولاً إلى العالمة النفسانية ديردري باريت من جامعة هارفارد التي تقول في نظريتها إن جزءاً كبيراً من الأحلام هو حديث النفس ونوع من التفكير النقدي وتقييم الذات والتعبير عن مكبوتاتها النهارية. وتقول باريت إن ساعات النوم تساعدنا على حل بعض الألغاز والمشاكل التي نواجهها في ساعات النهار.
وهي ترى أن المظاهر البصرية والمجافية للمنطق في أحلامنا تُكون في العقل الباطن مخزوناً مهماً من التفكير من خارج الصندوق الذي نلجأ إليه لاشعورياً لحل بعض هذه المشاكل. وفي الوقت الذي نعلم فيه أن حدوث الأحلام قد يرجع إلى أسباب وغايات أخرى لم يُكتشَف إلا نزر يسير منها، فإننا نحسب-تقول الدكتورة باريت- أن بعض هذه الأحلام قابل مع مرور الوقت للصقل والترويض والتطويع من أجل تنفيذ مهام متعددة، بما في ذلك مساعدة الدماغ على إعادة التشغيل وإنعاش خلاياه، ومساعدتنا على حل ما نواجهه من مشاكل.
هشام أحناش
ساحة النقاش