عمرو أبوالفضل ـ العلامة الجهبذ أبوالمحاسن بن تغري بردي أحد أكبر المؤرخين فى تاريخ الإسلام، وجعلته مصنفاته الموسوعية من أهم أساتذة المدرسة المصرية الإسلامية في التاريخ.
ويقول الدكتور سعد بدير الحلواني- أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة الأزهر- ولد جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي، والمشهور بـ”تغري بردي” وهو لقب أبوه، ويعني “عطاء الله” أو “الله أعطى”، بحي الأمراء بالقرب من القلعة بالقاهرة في سنة 812هـ، وقيل سنة 813 هـ، ونشأ في بيت علم ودين ورياسة، فقد كان أبوه رئيس العسكر للظاهر برقوق، واختاره مع من اختارهم لوصاية المملكة بعد وفاته.
عين رئيسا للجيش المصري “أمير كبير” أثناء حكم السلطان الناصر فرج بن برقوق في سنة 810هـ-1407م، وغدا في سنة 813هـ- 1410-1411م نائبا للسلطنة في دمشق، وتوفي فيها سنة 815هـ-1412م، وترك ابنه يوسف وهو في الثالثة من عمره، وتعهدته أخته بالرعاية والتعليم وكانت زوج قاضي القضاة الحنفي الناصري محمد بن العديم، الذي تولى تربيته ولما توفي تزوجت قاضي القضاة الشافعي والعالم الشهير البلقيني الذي استكمل تعليمه ووجهه منذ نعومة أظفاره إلى طلب العلم بحفظ القرآن الكريم وتعلم علوم اللغة العربية والفقه والأصول والحديث على يدي زوج أخته وعلى مشاهير علماء القاهرة ومنهم ابن حجر العسقلاني، وبدر الدين العيني، وابن عربشاه مؤرخ تيمور لنك، ولكنه شغف بالتاريخ وأحداثه منذ حداثته وخاصة كتب المؤرخ العيني التي كانت تقرأ في البلاط السلطان.
كما كان من أظهر تلاميذ أستاذه المقريزي أعظم مؤرخي العصر ورائد المدرسة التاريخية الحديثة.
نشأته
كانت لحياة ابن تغري بردي المترفة والهادئة ونشأته في بيت العز والإمارة واتصاله بالمصاهرة والصداقة مع أسرة السلطان وأكابر رجالات الدولة أثر كبير في تفرغه للبحث والدرس والمطالعة، مما جعله قادرا على الاستغناء عن العمل للكسب، فتعلم الفروسية وفنونها والموسيقى والشعر، وعلم الهيئة “الفلك” والطب، وأتقن اللغتين الفارسية والتركية وبرع فيهما، وكانت التركية لغة البلاط والسياسة في ذلك العصر، وهو ما ساعده على النفاذ إلى دقائق الدولة والسياسة، مما أثر في أبحاثه وكتاباته التاريخية.
وخرج للحج عدة مرات، واشترك سنة 836هـ-1432م، في حملة السلطان برسباي العسكرية على “الآق قوينلو” في شمالي الجزيرة السورية، وكانت علاقاته وثيقة مع هذا السلطان الذي منحه إقطاعا، ومن تلاه من السلاطين.
وكتب ابن تغري العديد من المصنفات في الرياضة والموسيقى والأمثال والأسماء والصناعات، والموسوعات التاريخية بلغت اثنى عشر مؤلفا في التاريخ منها “المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي” وفيه سجل تراجم أعيان عصره، وابتدأ من أوائل دولة المماليك البحرية بترجمة السلطان عز الدين أيبك إلى عصره، واتبع منهجا يعتمد على الترتيب الأبجدي، ويضم الكتاب نحو 3000 ترجمة لسلاطين وأمراء وعلماء ووجهاء ومشاهير وأدباء وحتى مغنين و”الدليل الشافي على المنهل الصافي” و”حوادث الدهور في الأيام والشهور “وهو تذييل لكتاب المقريزي السلوك لمعرفة دول الملوك، انتهى فيه ابن تغري بحوادث سنة 860هـ - 1456م، و”الأنوار الظاهرة والكواكب الباهرة من النجوم الزاهرة” و”مولد اللطافة فيمن ولي السلطنة والخلافة” عن تاريخ الخلفاء والسلاطين إلى آخر أيام الملك المنصور عثمان بن الظاهر جقمق، و”البحر الزاخر في علم الأوائل والأواخر” وهو في التاريخ العام منذ آدم إلى عصر ابن تغري، وفيه مباحث مهمة حول خطط مصر، و”نزهة الرأي في التاريخ” وهو تاريخ مفصل على السنين والشهور والأيام في نحو عشر مجلدات و”البشارة في تكميل الإشارة”، و”حلية الصفات في اختلاف الأسماء والصناعات”، و”الأنوار الظاهرة في الكواكب الطاهرة”، و”نزهة الألباب في اختلاف الأسماء والألقاب” و”الانتصار للغة التتار”.
مؤلفاته
يعتبر كتابه “النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة” أهم مؤلفاته واشهرها وأضخمها فهو موسوعة باهرة، تتضمن سرداً لتاريخ مصر منذ الفتح الإسلامي إلى عصره، انتهى فيه إلى عام 870هـ- 1467م، ولذا عده الباحثون أتم وأطول تاريخ لمصر الإسلامية، وقد رتبه على السنين والشهور والأيام، وانفرد بمنهجه الذي جعل لكل عهد من عهود السلاطين فصلا خاصا، ثم ذكر السنين وحوادثها تباعا داخل الفصل حتى إذا توفي الحاكم جعل له ترجمة منفصلة، بيد أنه يتوسع فيه منذ بدء استقلال مصر في العصر الفاطمي، ويعرض للبلاط بأسلوب شائق جزل، أما عصره، فقد أفاض فيه إفاضة مسهبة إذ يتخذ فيه صورة السجلات اليومية التي لا تفوتها صغيرة لا كبيرة، كما تميز بكتاباته عن النيل، فهو يحصى تقلباته في الزيادة والنقصان من سنة 20 هـ حتى سنة 782 هـ، أي أنه يقدم أتم جدول عن تقلبات نهر النيل على مدى ثمانية قرون ونصف معتمدا على جملة مؤلفين، ومراجع سابقة عليه، ولذلك سمي مؤرخ النيل.
وبالرغم من أن ابن تغري ذكر في مقدمة كتابه أنه كتبه من دون طلب من ملك أو سلطان، فإنه ذكر في نهايته أنه ألفه من أجل صديقه الأمير محمد بن السلطان جقمق، والذي كان ابن تغري يتوقع أن يصل إلى تخت السلطنة فيختم الكتاب بعهده، إلا أن الأمير محمد وافته المنية قبل ذلك، وتوفي-رحمه الله- في 15 من ذي الحجة سنة 874هـ، بالقاهرة ودفن بالقرب من تربة السلطان الأشرف.
ساحة النقاش