عمرو أبو الفضل ـ المؤرخ البلاذري عالم وراوية نسابة وشاعر، كان من أعلام الفكر في الحضارة الإسلامية، ومصنفاته كانت أدق وأشمل المصادر التي تحدثت عن تاريخ الفتوح.
ويقول الدكتور زكي عثمان- أستاذ الدراسات الإسلامية والدعوة بجامعة الأزهر- ولد أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري، والملقب أبو الحسن، وقيل أبو بكر، في أواخر القرن الثاني الهجري، وذكرت المصادر أن أصله من الفرس، وجده جابر كان يكتب للخصيب صاحب خراج مصر أيام الرشيد، وقيل إنه نشأ فيها وتلقى العلم على كبار شيوخها وعلمائها، ورجحت كتب التراجم انه نشأ في بغداد وأخذ عن علمائها وحضر حلقاتهم في الحديث والأدب والسير، ورحل من أجل العلم وطلبه، فزار دمشق وسمع من هشام بن عمار، وأبي حفص عمر بن سعيد الدمشقي، وطاف في بلاد الشام فزار حمص وحلب ومنبج، وأنطاكية، وثغور الروم والجزيرة، وإيران، وكان البلاذري يجمع في أثناء ترحاله الروايات المحفوظة بين سكان تلك المناطق ليوازن بينها وبين ما حفظه عن علماء بغداد، وساهمت هذه الرحلات في إثراء تكوينه العلمي ومنهجه التاريخي.
العودة إلى بغداد
لما تضلع البلاذري في العلم، وحصل معارف عديدة عاد إلى بغداد، واتصل بالمأمون ومدحه ثم اتصل بالمتوكل على الله وأصبح من ندمائه، ويقال إن المتوكل لم يكن يهنأ له طعام إلا بحضوره، وتقرب من المستعين بالله الذي كان يغدق عليه العطايا حتى لا يحتاج إلى شيء من أمر دنياه، ونال ثقة المعتز بالله وأصبح موضع ثقته ومن خلصائه، ولذا عهد إليه بتربية ولده عبد الله. ولما توفي المعتز بالله، اعتزل الناس وجفا القصور، وعانى في عهد المعتمد الحاجة والفقر فقد نفد ماله وركبته الديون، فكان يطلب الرزق من أبواب الوزراء، فيعطى مرة ويمنع مرات، وعبر عن بؤسه وألمه وعجزه ونقمته وأنفته بالهجاء في الكثير من مؤلفاته، وقال عنه ياقوت في معجم الأدباء: “كان عالما فاضلا نسابة متقنا”، وقال ابن عساكر إنه: “كان أديبا راوية، له كتب جياد، وإنه مدح المأمون، وجالس المتوكل”.
وتتلمذ على يديه جمع كبير من علماء القرن الثالث والرابع الهجريين، منهم يحيى بن النديم، ومحمد بن خلف، وجعفر بن قدامة، وعبدالله بن سعد الوراق وغيرهم.
وبرع البلاذري في فنون وعلوم كثيرة، وكان أحد النقلة من الفارسية إلى العربية، وترك مصنفات قيمة في السير والأنساب والتاريخ والأدب كشفت عن اتساع علمه وتنوع ثقافته وإتقانه لمؤلفاته منها “جمل أنساب الأشراف”، و”البلدان الصغير”، و”كتاب البلدان الكبير” ولم يتمه، وكتاب “عهد أردشير”، ولعل الذي أذاع صيته وطير شهرته كتابه “فتوح البلدان” وهو معروف بهذا الاسم، ولم يذكر تاريخا لبدئه في تأليفه، ورجحت المصادر انتهاءه منه في عام 255هـ-868م، حيث يتحدث عن الخليفة العباسي المعتز في حياته.
كما لم يذكر الغرض من تصنيفه هذا الكتاب، لكن يبين من صفحاته أنه مختص في التاريخ، حيث يقدم سجلا شاملا للفتوح الإسلامية بلدا بلدا، وأحداثها والمعاهدات التي عقدت مع سكانه، وفصل في منازل القبائل العربية بعد الفتح وفي المرافق العامة التي أنشئت، وتحدث عن هجرة القبائل ومسالكها ويتناولها في إطارها الثقافي والاقتصادي والإداري والعمراني وما اتصل بها من قضايا فقهية ذات صلة بالفتوح.
واعتمد في تصنيفه على معلومات ومعطيات أخذها عن شيوخ البلدان التي ارتحل إليها، بالإضافة إلى المصادر الرسمية المتمثلة في سجلات الدواوين ومحادثات الخلفاء، والوثائق التي احتفظ بها أهلها. ولم يغفل أهمية المشاهدة الحية فسجل ما حصل عليه من معلومات خلال زياراته إلى المدن التي ارتحل إليها، كما انتفع بمدونات من سبقوه في التأليف التاريخي.
«أنساب الأشراف»
ووضع كتابه الثاني “أنساب الأشراف” وهو موسوعة ضخمة وحقق معظمه في دمشق، ويظهر في هذا الكتاب تلاقي طريقة الخبر بالأنساب بالتاريخ، وتلاقي طريقة الرواية المنفصلة والخبر المفرد مع الرواية التاريخية المتصلة والتاريخ المطرد، فقد كتب التاريخ ولكن على أساس عمود الأنساب لا على الزمن التاريخي.
ثم جعل لكل موضوع عنوانا فرعيا خاصا به كأنه وحدة مستقلة تماما على غرار ما عرف من عناوين كتب الأخباريين، فهو ليس مؤلفا تاريخيا متصل الحلقات، ولكنه مجموعة روايات في إطار الأنساب توسعت حتى احتوت الأخبار والشعر.
ونقل عنه كثير من المؤرخين منهم المقدسي البشاري في “أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم”، وإبراهيم الهمذاني، في “مختصر كتاب البلدان”، والصولي في “الأوراق”، والشريف المرتضى في “الأمالي” والقاضي عبدالجبار بن أحمد في “الشافي”، وابن أبي الحديد في “شرح نهج البلاغة”، والزبيدي في “تاج العروس”، وابن عساكر، وياقوت الحموي، والمسعودي، وأبو فرج الاصفهاني، وابن خلكان، ومحمد بن عبدالمنعم الحميري، وتقي الدين المقريزي، والسيوطي، وغيرهم. وتوفي-رحمه الله- في أواخر أيام المعتمد.
ساحة النقاش