إن أنواع الصيام كثيرة سواء كانت عامة، أو خاصة، وهي صيام: (رمضان، التطوع، الكفارة، الشكر، عن الكلام، وغيرها)، ولعلنا نرشف بعضاً من رحيق حقيقة الصوم ومما يقتضيه الحال، وما يتنزل من الأنوار من عالم الغيب إلى عالم الشهادة تنزلاً رقيقاً في قلوب الأحرار من الأولياء الصالحين من الأمة الإسلامية وما ذلك على الله بعزيز، وإن الأمور المطوية في الصيام لا يشق لها غبار لكثرتها، ولكن نذكر بعض الأمور منها تنويهاً وإشارة بين هلالين:
أولاً: الحكمة من الصيام: إن المفهوم العام والخاص لكلمة الصيام: هو الصون لكافة جوارح الإنسان ظاهرها وباطنها لتلتزم بما أمر الله في الصيام، وإن للصيام حكم كثيرة وفوائد جليلة لا يمكن حصرها، ولكن للإنسان ما بدا له منها من باب العلم المكتسب، والعلم الموهوب على حد سواء، ولنأخذ حكمتين فقط من هذه الحكم، وهما: (روحية تعبدية، وجسمية طبية اجتماعية)، وسيرد الذكر بإسهاب عنها في الفقرة التاسعة من هذا الفصل إن شاء الله.
ومن حكم الصيام: أنه الطريق الأعظم للوصول إلى هذه الغاية، التي فيها غاية سعادة العبد في دينه ودنياه وآخرته، فالصائم يتقرب إلى الله بترك المشتهيات تقديماً لمحبته على محبة النفس، ولهذا اختصه الله من بين الأعمال وأضافه إلى نفسه، وأنه هو الذي يجزي عليه، وهو من أصول التقوى إذ الإسلام لا يتم بدونه، وفيه إضافة إلى زيادة الإيمان حصول الصبر والتمرن على المشقات المقربة إلى رب السماوات، وفيه من ردع للنفس عن الأمور المحرمة من الأفعال المحرمة، والكلام المحرم وهذا هو عماد التقوى.
وكذلك من حكمه: أنه له أثر إيجابي في المجتمعات بتحقيق التكافل الاجتماعي إذ يشعر الصائم بمرارة الجوع والعطش فيستشعر حالة المحرومين والبائسين من الفقراء، ويتذكر حالة إخوانه من بني الإنسان الذين لا يجدون لأنفسهم وعيالهم قوتاً ولا طعاماً، فيرق قلبه لهم ويسعفهم حسب استطاعته، وكذلك شعور الناس بأنهم أمة واحدة، يأكلون في وقت واحد.
فالثري الصائم يجب أن يوطد صلته بمجتمعه، وأن يعيش معه بقلبه وروحه ووجدانه، فيشاركه أفراحه وأحزانه، ويعطف على فقرائه فلا ينسى حقهم في أمواله، لأنه يستشعر مرارة الجوع وألم الحرمان في شهر رمضان كما يشعرون بها طيلة أيام السنة.
إن لإطعام الطعام في شهر رمضان مزيداً من فضيلة، نظراً لشرف الزمان ولحاجة الصائم إلى الطعام، فإعداد الطعام في هذا الشهر للمحتاجين من أفضل الأعمال، لأن الصدقة فيه مضاعفة أكثر من غيره.
ولننظر الثواب عند الله لمن يفطّر صائماً: فعن زيد بن خالد رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا بيوتكم قبوراً صلوا فيها، ومن فطر صائماً كتب له مثل أجر الصائم لا ينقص من أجر الصائم شيء، ومن جهز غازياً في سبيل الله أو خلفه في أهله كتب له مثل أجر الغازي في أنه لا ينقص من أجر الغازي شيء) رواه الإمام أحمد في مسنده، مسند الشاميين، ورقم الحديث (16429)، وعن زيد بن خالد الجهيني رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً) رواه الترمذي في سننه كتاب الصوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورقم الحديث (735).
إن شريعة الإسلام السمحاء، حثت على العمل في ساعات البرّ والتراحم والتكافل الاجتماعي طيلة العام بعامة، وبرمضان بخاصة، لقد ورد في الأثر المحمدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إنه شهر المواساة، وشهر يزداد فيه رزق المؤمن، ومن فطّر فيه مؤمناً كان مغفرة لذنوبه، وعتقاً لرقبته من النار،)، (ومن سقا صائماً سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة).
أضف إلى ذلك حتى يعوّد نفسه على التحمل والصبر والمشقة حيث إنها محك الرجال، فالصبر مفتاح الفرج في كل الأحوال، والصبر هو الدال على موقع الخزينة المكنوزة بعناية من الله في هذا الإنسان، ولا بد من اكتشاف ذلك عاجلاً أو آجلاً، وعلى مراد الله تعالى فهي عامل رئيسي لتصفية البواطن وتزكية النفوس.
وكذلك للكشف عن الآلام المستعصية في الجسم وبخاصة آلام الجهاز الهضمي، ولقد أثبت علم الطب الحديث، وكما ورد على لسان بعض الأطباء الأخصائيين، وبخاصة في بلاد الغرب فقد كانوا يوصون مرضاهم والذين كانوا يشكون من آلام مستعصية ومزمنة في الجهاز الهضمي بالصيام فقط.
يتضح لنا بأن شهر رمضان هو مدرسة تعليمية للمسلمين كيف يجب أن يتعاملوا مع بعضهم بعضاً في مجتمع يسوده الود والأخوة والرحمة، وبهذا يكون هذا الشهر تجارة رابحة للمسلم عند الله تعالى، فهو شهر الله، وهو شهر الخير، وهو شهر الرحمة والود، وهو شهر جامع لكل معاني الخير لبني البشر جميعاً.
إن دل هذا على شيء فإنما يدل على عظمة الدين الإسلامي، وأنه يحاول كل ما يلزم الإنسان لعمارة دنياه وآخرته، فهو دين العبادات والأحكام والمعاملات والعلوم الكونية والربانية سواء بسواء.
ساحة النقاش