سلام الله عليكم ورحمته.... "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر".

أحسبكم قد حُدّثتم عن الصوم غير قليل، فأرجو ألا يكون قد أملّكم من ذلك شيء، وآمل أن يكون لكم في الصوم نفسه عزيمة، وإرادة لا ينالها في سبيل الخير وهن.

من هدي القرآن نظرته إلى هذه الإنسانية على الأرض، وفكرته في تقديرها، ومن دأب القرآن، أنّه يعتبر آكل الطعام آية البشرية، وعلامة الحاجة فكأنما الصوم تذكير متصل بمادية الكيان، وضراعة الاحتياج رجاء أن يرد ذلك هؤلاء الآدميين إلى حدودهم لا يعدون أطوارهم... كأنما الصوم لون من التدبير، يأخذ الناس بواقعية عملية تقابل نواحي أخرى تهيئهم لما ينهضون إليه من مثالية متسامية.... وتلك الفكرة في حكمة هذه العبادة رأي بين الآراء الأخرى المرددة، وأحب إلينا ألا يقنع التفكير الإنساني من هذه الحكم بغاية يقف عندها، أو يكتفي بها.

 

أيها المؤمنون.... إنّ نظرة القرآن لهذه البشرية منذ أصرّ على إثباتها للرسل، نظرة لها أثر ديني، وفلسفي، واجتماعي بعيد.... حتى إنّه ليتميز بهذا في تاريخ التدين، والتفلسف، والتحرر الإنساني، تميزاً فريداً، ولكني حتى ألتزم الإجمال في هذه النواحي، وأتركها لمكانها من الدرس والبيان. لا أرضى بهذا الإجمال من ناحية أخرى هي ما لهذه الفكرة القرآنية عن البشرية، من الصلة بالأسس الكبرى، والأصول الإسلامية البعيدة، ولهذا أتحدث إليكم عمّا لهذه الفكرة من ارتباط وثيق بأصول الحياة الدينية في نظر القرآن وكيف تقرر؟ وكيف ينظر إليها وتفهم؟

أيتها العقول المفكرة... إذا أصرّ القرآن - في تكرار - على أنّ الرسل عليهم السلام، إنّما هم بشر مثل البشر، وإذا كان يهدي إلى أنّ الصوم ردّ إلى الناس آدميتهم، فإنّ لهذا وشبهه، دلالة بعيدة المدى على أغراض ومرامي سامية، قصد إليها القرآن، بهذا التقرير وذاك الهدى.

وإنّ المفكر المتمعن، ليشعر أنّ هذا الصنيع من القرآن، إنّما هو رفع للناس، إلى فهم هذه الحياة، في أفق من الوضوح المحدد، وعلى أساس من الضبط الجلي الدقيق.... نعم فإنّ المتأمل المتبصر ليدرك أنّه بهذا يضع الحياة الدينية على أساس من قابلية الفهم، وتناول العقل، لا تسوده غيابات الإبهام الروحي، ولا تزعزعه أوهام الغيبيات التي تلف الحقيقة بكثيف من الضباب، لا تنفذ فيه نظرات الذهن مهما تطل التحديق.... وتغمرها بظروف واحتمالات مسروقة في اللامادية، معتمدة على قوى مجهولة، ومؤثرات غير مستبينة.

أيتها العقول المتحررة... ليس منك مَن لا يذكر أنّه باسم العجائب والخارقات، قد انتهكت حرمة النواميس وثبات النظم، واطراد السنين.

وباسم الروحانيات المتطرفة، قد أيدت مزاعم، واستلبت حقوق، واغتصبت مزايا كواذب، وروّجت حماقات...

ومن الإرهاب بالأرواح الشريرة والشياطين العابثة، قد روعت نفوس، وهتكت حجب، وطوردت عقول.

وباسم السحر وتسخير القوى الخفية، قد زعزعت قلوب، وأقلقت خواطر، وهدمت أسر وجماعات.

ومن كل هذه العوامل، التي راجت في البيئات الدينية والأجواء الاعتقادية، بهوى وغرض، لاستغلال واحتيال. قد حوربت حرية الفكر وسلبت سلطة العقل... لا مرية في أن أشعر بالصلة الوثيقة بين تقدير القرآن للبشرية، وبين خطته في مطاردة هاتيك الأوهام جميعاً، واستعلائه على تلك المفاسد بأسرها!!!

نعم... إنّي لأشعر، بأنّ ردة الرسل إلى البشرية، وأخذه المكلفين برياضة من الصوم، تستهلك جزءاً من اثنتي عشر جزءاً من حياة المكلفين يدركون فيها آدميتهم، كل هذا متصل بالأساس، الذي يرى القرآن أن يقام عليه فهم هذه الحياة، وإدراك معنى التدين.

نعم... أدرك بوضوح أنّ ما للقرآن من هذه النظرة إلى الإنسانية يتصل بما قصد إليه من العدوان عن المعجزات التي تلهي الأبصار، وتحيّر الحواس، وتدهش المشاعر، إلى اختصاص العقل بالخطاب، وجعل حجته بهذا القرآن، في قوة الكلام، وصحة الدليل، وسلطان الحجة من كتاب أحكمت آياته لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

نعم، أدرك في وضوح أن تقدير القرآن للآدمية يتصل بما قصد إليه من رد الناس، عن الهيام بغيوب الروحية، والبحث عنها حين قال: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)....

وأدرك بوضوح، أنّ هذه الفكرة القرآنية تتصل بما قصد إليه من هدم سيطرة الأرواح الشريرة والشياطين وما إلى ذلك، بإسدال ستار كثيف، يحجب الناس إلى دعاوى رؤيتها، إذ يقول عن الشيطان: (إنّه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنّا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون".

وإذ ينفي أن يكون له سلطان على عباده بقوله: "إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين".

وفي الحق أن أدرك بوضوح أنّ هذه الفكرة عن البشرية تتصل بما يشير إليه القرآن من عد السحر تخييلاً في مثل قوله: "يُخيّل إليه من سحرهم أنّها تسعى"، ومن الصواب أن أدرك في جلاء وقرب أنّ تقدير القرآن لإنسانية الناس تتصل أقوى اتصال بإخضاعه الأشياء لفهم العقل وتدبيره، حينما تراه، لا يسوق آياته؛ إلا للعاقلين، أو للعالمين، أو للمفكرين، أو لمن يفقهون.

كما يكثر من الأمر بالنظر والتدبير والاعتبار والتعقل، ويعد طاقة البشر معيار الأخذ والمنع، وأساس المسؤولية والتبعية، "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت"... بهذا الهدي المتعقل تأثر الباحثون منذ القدم، فاحتكموا إلى العقل، وقرروا إخضاع نص القرآن نفسه للعقل. إذ قالوا: لو تعارضت آية ودليل عقلي، فإنّ الدليل العقلي يكون حاكماً وما كانوا بعد ليمتنعوا عن مثل هذا في إخضاع السنة، فقالوا: كل خبر يناقض صريح العقل، حيث لا تأويل فهو باطل، وما هذا العقل إلا العقل البشري، والقوة الآدمية الإنسانية، فهل عليّ من حرج في أن افهم من هدي هذا القرآن، أنّه إنّما يجعل حياة الناس على هذه الأرض بشرية تحدّها قوائم، وتضبطها ملكاتهم دون توهم، أو تخيل، أو تزيد، أو ادعاء!!!

وهل عليّ من حرج في أن ألمس الصلة بين تدبير القرآن للشعور بهذه البشرية، في عبادة الصوم وبين مرماه البعيد في جعل هذه البشرية أصلاً لما أقيم عليه التفكير الإسلامي في فهم الحياة، والتدبير الإسلامي لإصلاح الحياة، فهماً وإصلاحاً، مضبوطين محددين جليين، لأّنهما آدميان عقليان أولاً وأخيراً؟.. لا حرج إن شاء الله، فهكذا تتصل عبادة الصوم بأصل جوهري هو المدار والأساس لفهم الأهداف القرآنية السامية.

أيها الشاعرون بروعة القرآن... في ضوء هذا البيان ننظر في حديث القرآن عن رمضان إذ يقول: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان" والمفسرون منذ أولهم إلى اليوم يدورون - فيما رأيت - حول الأقوال بعينها مواجهين مشكلة: في أنّ القرآن إنّما نزل مفرقاً في عشرين سنة، أو أكثر عند المناسبات، لا في شهر رمضان فقط، فتارة يقولون في تفسير هذه الآية: أنّ القرآن نزل جملة في رمضان أو في النصف منه، من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، فجعل في بيت العزة، ثمّ أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأرض مفرقاً في السنين...

وعند من يتبسطون في هذه المرويات قد يمضون إلى القول بأنّ الكتب السماوية نزلت كلها في رمضان، ويحددون تواريخ أيامها فيه، فصحف إبراهيم في أول ليلة، والتوراة لست مضين في رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة؛ والقرآن لأربع وعشرين منه، وتلك وأشباهها روايات لا يوقف عندها... ليت الزمان هذه الذاكرة الواعية في أقرب الأحدث!

وقد هاجم هذه الروايات مَن هاجمها. ومهما يكن من شأنها فليس لها كبير عناء في معنى الآية، وما كان القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان بنزوله من سماء إلى سماء!! حتى يفسر بذلك نزوله في رمضان!!

وحينما يقولون في معنى الآية: نزل القرآن في سائر الشهور، ولكن جبريل كان يعارض الرسول - صلى الله عليه وسلم - به ويقابله معه... لكن هل المقابلة هي النزول، أو هي بعد النزول؟.... هل يسهل تفسير النزول بالمقابلة أو المعارضة أو المدرسة؟ لا أظن.

وطوراً يرون أنّ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، معناه أنّه أنزل بشأنه قرآن، أي جاءت عنه في القرآن آية الصيام كما يقال: نزل في شخص، أو في حادث قرآن؛ أي وردت بشأن ذلك آية من القرآن... لكن هذا ليس مما يمتاز به رمضان؛ كما أنّ آية الصيام لا يظهر وصفها خاصة مما ورد بعد، من هدى وبينات من الهدى والفرقان، وذلك على ما يستبين هو وصف الفرقان كله.

وقد يفسر نزول القرآن في رمضان بأنّه ابتدأ فيه نزوله، على أنّ لفظ القرآن يطلق على الكتاب كله، كما يطلق على بعضه الذي كان به ابتداء النزول؛ ويقبل هذا الرأي متقدمون من المفسرين ومتأخرون ويشبهه بعض المتقدمين بمبادئ الدول والملل، لشرفها وانضباطها.

ولكن هل يثبت أن بدء الوحي، ونزول أول آية كان في رمضان؟ وهل هذا البدء معين محدد، فيشبه بمبادئ الدول والملل في انضباطها؟ وأين كان هذا التاريخ بذلك البدء؛ ثم قبل هذا وذاك لم عبر بالنزول عن بدء النزول، وبأي شيء صرفوه إلى ذلك؟ وهم يرون أنّ فائدة وصف الشهر "بإنزال القرآن فيه" هي، التنبيه على علة تخصيصه بالصوم فيه... لكن هذا التخصيص قد كان بعبارة أبهمها تفسيرهم لها، واختلافهم الشديد حولها.

وهكذا لا نجد من هذه الأقوال التي دار حولها المفسرون جميعاً في فهم آية رمضان هذه، رأياً ترتاح إليه.

أيها الشاعرون بروعة القرآن: لقد قصروا النزول على المعنى المادي من الانتقال، والهبوط، والانحدار، ونحوه. وليس هذا كله معنى الكلمة، وليس هذا كل ما استعملها القرآن في حسيات ليس فيها انتقال، ولا هبوط فهو يقول: "وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد" وليس هابطاً من السماء، وهو يقول: "يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً" وليس يعني انحدار هذا من الأعلى إلى الأرض... لأنه يلاحظ أنّه حين يقصد هذا الانتقال المادي يذكر مبدأه ويصرح به فيقول: نزل من السماء ماء؛ نزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً... نزل علينا مائدة من السماء، ولم يذكر هذا المبدأ في آية رمضان ونزول القرآن فيه!!

ومن المفروغ منه أنّ الألفاظ لا تقتصر على معناها الحسي أبداً بل تنتقل عنه انتقالات كثيرة إلى إطلاقات معنوية... هم أنفسهم قالوا: الإنزال تقريب الشيء، والهداية إليه، وإنزال الله نعمة ونقمة على الخلق إعطاؤهم إياها، ففيم إذاً هذا الوقوف عند معنى النزول المادي من سماء إلى سماء، أو الوصول إلى الأرض والإبلاغ إلى شخص!

القرآن نعمة وهداية، تعطى للناس، وتقرب إليهم، وتيسر لهم ظروف ومناسبات مع رياضة خاصة، أو عبادة خاصة، فإنزال القرآن في رمضان يمكن أن يكون بتقريبه إلى الناس، وأنسهم به في شهر رمضان عندما يرتضون بالصوم، ويدركون من الصوم، ما رأينا من غاية، تتسق مع الفكرة الجامعة في فهم الدين، وفهم الحياة... ففي كل رمضان إذ الناس يشعرون من الصوم بما يشعرون به، يقرب القرآن إلى نفوسهم، ويستبينون منه الهدى والبينات من الهدى، في تفسير الحياة وتدبير الحياة... القرآن في ذلك فرقان واضح، يتميز به تاريخ الإنسانية عصر عن أي عصر قبله وهذا معنى الفرق والتميز في كلمة الفرقان الذي في منه بينات.

على هذا الوجه يفهم أنّ نزول القرآن في رمضان هو تقريبه والإيناس به فيزيد الاستشفاف لهداه، وبيناته.

وإذا كان القرآن قد وصف نفسه كثيراً بأنّه هدى، فإنّه هنا قد وصف نفسه بأنّه هدى وبينات من الهدى والفرقان، وهو وصف لم يرد في القرآن كله إلا هذه المرة، فالصائمون المرتاضون يدركون من القرآن هدى وأكثر، يدركون بينات من الهدى والفرقان. هذا إن تلوه ليبينوه. ويستخرجوا ببيانه وفرقانه، ومن هنا يتدارس القرآن في رمضان، ويكون ذلك شعاراً وتقليداً إسلامياً لأنّه نعمة وهداية، تقرب من نفوسهم في شهر رمضان وهم صيام - هديتهم إلى ما في القرآن من هدى وبينات من الهدى والفرقان.

المصدر: رابطة شباب مستقبل سوريا
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 166 مشاهدة
نشرت فى 6 أغسطس 2012 بواسطة alsanmeen

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,307,647