لقد أظلنا شهر رمضان المبارك، شهر نزلت فيه آيات القرآن الكريم، شهر ارتفعت فيه رايات المسلمين عالية خفاقة، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، فما أعظمه من شهر! وما أعظم فضله!، فهو شهر الانتصارات التي أكرم الله سبحانه وتعالى بها عباده المؤمنين الصادقين في كل معركة خاضتها أمتنا الإسلامية قديماً وحديثاً، منذ عصر النبوة وإلى عصرنا الحاضر، ومن خلال دراستنا لكتب السيرة والتاريخ فإننا نلاحظ أنه ما مِنْ معركة من المعارك، وما من غزوة من الغزوات خاضها المسلمون في هذا الشهر المبارك، إلا ونصرهم الله على أعدائهم، ولعل في هذا بياناً لأمتنا الإسلامية لقيمة هذا الشهر ومنزلته العظيمة عند الله سبحانه وتعالى.

إن من عظمة هذا الشهر الكريم أنه ليس شهر الصيام والتهذيب والتأديب وقراءة القرآن فحسب، بل هو شهر الانتصارات وإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى في الأرض، حيث كانت الأمة الإسلامية عبر تاريخها الطويل، على موعد مع الفتوحات والانتصارات في هذا الشهر الكريم، ففي هذا الشهر المبارك وقعت أهم أحداث التاريخ الإسلامي الظافر وأروع الانتصارات، ومن صفحات الماضي الزاخر بالأمجاد الخالدة، نقدم سجلاً لأبرز الأحداث والانتصارات والمعارك التي وقعت في شهر رمضان المبارك.

فتوحات

من الذكريات الإسلامية الخالدة في هذا الشهر المبارك، ما وقع فيه من النصر المؤزر للمسلمين في كثير من الغزوات والمعارك التي خاضوها على مر التاريخ، مثل فتح عمورية، في السادس من شهر رمضان سنة 223 هـ، بعد أن جهز المعتصم جيشاً لحرب الروم استجابة لصرخة إحدى النساء المسلمات وامعتصماه، حيث حاصر عمورية وأمر بهدمها. كذلك معركة العبور في العاشر من شهر رمضان المبارك سنة 1393 هـ السادس من أكتوبر سنة 1973 م انتصر جنود الحق على المحتلين الإسرائيليين، وارتفعت رايات الحق عالية خفاقة.

 

وفتح أنطاكية، في الرابع عشر من شهر رمضان سنة 666 هـ على يد الظاهر بيبرس، حيث حاصرها الظاهر في مستهل رمضان وفتحها يوم السبت (الرابع عشر) من شهر رمضان وغنم منها أشياء كثيرة، ووجد عدداً كبيراً من أسرى المسلمين، وكان حاكم أنطاكية الصليبي من أشد الحكام أذى للمسلمين حين احتل التتار حلب، وتعتبر أنطاكية من مراكز الصليبيين الرئيسة.

أيضا غزوة بدر الكبرى، في السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة وقعت غزوة بدر الكبرى، التي أطلق عليها القرآن الكريم “يوم الفرقان”، وهي أولى المعارك المهمة في التاريخ الإسلامي، حيث كان عدد المسلمين فيها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وعدد المشركين تسعمائة وخمسين رجلاً، وكان مع المشركين سبعمائة بعير ومائة فرس، بينما لم يكن مع المسلمين سوى سبعين بعيراً وفرسين، ولكن كانت معهم القوة الإلهية، والمعية الربانية التي لا تغلبها أية قوة في الأرض مهما كانت، وفي ذلك يقول الله تعالى: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ)، فكان النصر للمسلمين، ويوم بدر هو اليوم الأغر في جبين التاريخ الإسلامي العريق، حيث كان فرقاناً ميّز الحق وأظهره، وأخزى الباطل وحزبه.

وكانت هذه الغزوة أول انتصار حاسم للإسلام على قوى الشرك والباطل، (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى)، “سورة الأنفال الآية 17”، وبعث الله جل جلاله الملائكة الكرام لتشهد المعركة تثبيتاً للمؤمنين، وسحقاً للكافرين (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ)، “سورة الأنفال، الآية 12”، فكان يوم الفرقان يوماً صنعه الله، ليخزي الكافرين وينصر المؤمنين، صادقاً وعده، ناصراً عبده، يشفي بنصره صدور المؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم.

فتح مكة

في العشرين من شهر رمضان المبارك في السنة الثامنة للهجرة كان فتح مكة الذي دخل الناس في أعقابه في دين الله أفواجا، والذي كان من أجل نصرة المظلومين من بني خزاعة الذين غدر بهم مشركو قريش، حيث اعتدى بنو بكر حلفاء قريش على خزاعة حليفه المسلمين، وأمدت قريش بني بكر بالسلاح، فاستنجدت خزاعة بالمسلمين، مما دفع الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - لتأديب قريش التي نقضت صلح الحديبية، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار والقبائل الأخرى، حيث أنعم الله على رسوله وعلى المؤمنين بفتح مكة، وقد حرص - عليه الصلاة والسلام - على دخول مكة دون قتال يذكر، فدخلها دخول الشاكرين لله عز وجل، دخلها وهو راكب على ناقته وكادت جبهته - صلى الله عليه وسلم - أن تمس عنق ناقته شكراً وخضوعاً لله سبحانه وتعالى، دخلها وهو يردد قول الله تعالى: (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)، “سورة الإسراء، الآية 81”.

ومن الدروس التي نتعلمها من غزوة الفتح الأعظم (فتح مكة) درس العفو عند المقدرة، حيث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولته المشهورة لسادة مكة بعد أن استسلموا بدون قتال: “يا معشر قريش ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخٌ كريم وابن أخ كريم، فقال: فإني أقول لكم ما قاله يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء”.

كما أن معركة عين جالوت، في الرابع والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 658 هـ وقعت معركة عين جالوت، وتعتبر معركة عين جالوت من الصفحات المشرقة في التاريخ الإسلامي، حيث استطاع الجيش المسلم بقيادة قطز ومساعده بيبرس أن يهزم الجيش المغولي “التتار”، الذي قتل ودمر عبر طريقه الطويل من منغوليا حتى فلسطين، وكان يقود هذا الجيش كتبغا نائب هولاكو، ولما حمي وطيس المعركة صرخ قطز صرخته المشهورة وا إسلاماه، التي حركت المسلمين ودفعتهم دفعاً إلى الشهادة، حيث كان التتار يستهدفون القضاء الشامل على العالم الإسلامي.

بلغراد والأندلس

في السادس والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 927 هـ تم فتح مدينة بلغراد، حيث قام السلطان سليمان القانوني بمحاصرة بلغراد انتقاماً من ملك المجر الذي قتل السفير العثماني، وأرسل السلطان قائده المشهور “بيري” لمحاصرة بلغراد، ثم تبعه هو حيث اشتد الحصار وفتحت المدينة بعد دفاع أهلها عنها، وأخلى الجنود قلعتها في الخامس والعشرين ودخلها العثمانيون بعد ذلك، حيث أدوا أول صلاة جمعة فيها.

، في الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة 92 هـ بقيادة القائد طارق بن زياد كان فتح الأندلس، حيث انتصر المسلمون في هذه المعركة التي استمرت ثمانية أيام، وأصبحت الأندلس بعدها مصدراً للعلم والحضارة، ومنها أشرق نور العلم الإسلامي على أوروبا كلها، بعد أن كانت تَغُطُّ في سبات الجهل العميق.

ومما سبق من هذه الفتوحات والانتصارات نتعلم أموراً كثيرة منها: أنه ما بعد العسر إلا اليسر، وما بعد الضيق إلا الفرج، كما نتعلم أن من أسباب النصر تآلف القلوب ووحدة الصفوف، حيث كان موقف المهاجرين والأنصار رائعاً وموحداً، وهذا من فضل الله عز وجل، ونتعلَّم أيضاً قيمة هذا الشهر العظيم وفضله، حيث إن المسلمين لم يخوضوا حرباً ولا معركة ولا فتحاً في هذا الشهر الكريم إلا وكان النصر حليفهم بإذن الله تبارك وتعالى، كما نتعلم درساً عظيماً، وهو أن رسالة الإسلام باقية إلى يوم القيامة على الرغم من كل المؤامرات، لأنه يوم ينتهي الإسلام من هذه الدنيا، فلن تكون هناك دنيا، لأن الشمس ستنطفئ، والنجوم ستنكدر، والحصاد الأخير سيطوي العالم أجمع.

إنّ شهر رمضان المبارك هو شهر البطولات والانتصارات، فعلى المسلمين أن يدرسوا تاريخهم المجيد، لالتقاط العبر والعظات، وصدق الله العظيم: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)، “سورة الحج، الآية 40”.

الدكتور يوسف جمعة سلامة

المصدر: الاتحاد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 441 مشاهدة
نشرت فى 4 أغسطس 2012 بواسطة alsanmeen

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,305,492