إنَّ الصوم في الإسلام توسط بين التخفيف والتشديد في مستطاع المكلفين، وما فيه من مشقة الجوع والعطش مشقة محتملة مقبولة راعها الشارع لتهذيب النفس وتزكيتها وتربية الصائمين على الآداب العالية، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: الْوَسَطُ الْعَدْلُ.

والرحمة في صيام رمضان أنه وسط بين جانب الإفراط والتفريط، لأن الصيام قبل الإسلام نوعان: نوع شدد أهله فيه غاية التشدد فجعلوه أمراً مرهقاً، ونوع تساهل أهله فيه مكتفين بالإقلاع عن نوع خاص من الطعام أو الشراب، فكان الصيام في الإسلام وسطاً في ماهيته باعتباره إقلاعاً عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ووسطاً في شروط وجوبه وهو التكليف، ووسطاً في شروط صحته، وهي الإقامة والصحة البدنية.

لهذا فتح الإسلام باب الرخصة لأصحاب الأعذار الشرعية، والرخصة هي ما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه، وحقيقة الرخص ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو درء المفاسد على الخصوص، حيث كان الدليل العام يقتضي منع ذلك؛ لأنه لو بقينا مع أصل الدليل العام لأدى بنا إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة، فكان الواجب رفع ذلك المآل إلى أقصاه، وقد حث صلى الله عليه وسلم صحابته على الأخذ بالرخص في الصوم حفاظاً على النفس فقال: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ.

 

ومرة خرج الرسول صلى الله عليه وسلم عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب، فقيل له بعد ذلك إن بعض الناس قد صام، فقال: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ. أي إن البعض غالى وأراد أن يأتي بشيء زائد على ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم فسماهم الرسول العصاة.

 

قاعدة مهمة

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أيضاً: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره فرأى رجلا قد اجتمع الناس عليه وقد ظلل عليه، فقال: “مَا لَهُ” قَالُوا رَجُلٌ صَائِمٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - “لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ”، فالرجل بالغ في تعذيب نفسه فصام في السفر مع حصول الضرر، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن فعله هذا ليس من البر. والحق وسط، يجوز الصوم في السفر الذي لم يصبه نصب من ذلك فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صام في سفر، أما إذا حصل النصب فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ وَعَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا.

وهذا ما جعل العلماء يضعون قاعدة على غاية من الأهمية غايتها تحقيق التوازن بين مطالب الروح ومطالب الجسم، تقول: “صحة الأبدان مقدمة على صحة الأديان” وسند ذلك قول عبد الله بن عمرو بعد أن رفض رخصة النبي صلى الله عليه وسلم: ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أني كبرت وضعفت، وكان إذا أراد أن يتقوى أفطر أياماً وأحصى وصام مثلهن كراهية أن يترك شيئاً فارق النبي صلى الله عليه وسلم عليه.

ولتجسيد هذا البعد حذر الإسلام من الغلو في الصيام بالوصال، والوصال هو تتابع الصوم ليلاً ونهاراً دون الإفطار في الليل.

عن أبي سعيد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لاَ تُوَاصِلُوا، فَأَيُّكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرِ”. قَالُوا فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ “إِنِّى لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أَبِيتُ لِي مُطْعِمٌ يُطْعِمُنِي وَسَاقٍ يَسْقِينِ”.

وعن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لاَ تُوَاصِلُوا”. قَالُوا إِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ “إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّى وَيَسْقِينِى”. فَلَمْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ - قَالَ - فَوَاصَلَ بِهِمُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَيْنِ أَوْ لَيْلَتَيْنِ، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلاَلَ فَقَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - “لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلاَلُ لَزِدْتُكُمْ”. كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ، وفي رواية: وَاصَلَ أُنَاسٌ، مِنَ النَّاسِ فَبَلَغَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ “لَوْ مُدَّ بِي الشَّهْرُ لَوَاصَلْتُ وِصَالاً يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ، إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ. فالرسول عليه السلام نهاهم عن أن يشددوا على أنفسهم فيشدد الله عليهم، إلا أن الصحابة رضي الله عنهم رغبوا في مواصلة الليل والنهار صائمين لا يفطرون طلباً لزيادة المثوبة، فنهاهم عن ذلك رحمة بهم وشفقة عليهم، عملاً بقاعدة الاعتدال والتوسط المبثوثة في ثنايا رسالته.

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالاً في الاعتدال في التطوع في الصيام يراوح بين حق الروح حيناً وحق الجسد حيناً آخر، يصوم دون الإخلال بمقتضيات الطبيعة الإنسانية من مأكل ومشرب، ويفطر دون التفريط في حقوق الإنسان في سمو الروح ونقائها، قالت عائشة رضي الله عنها في وصف هذا التوازن: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لاَ يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لاَ يَصُومُ. فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلاَّ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ في شَعْبَانَ.

كيفية الصوم

وسئل أبو هريرة رضي الله عنه كيف تصوم؟ قال: أما أنا فأصوم من أول الشهر ثلاث، فإذا حدث لي حادث كان آخر شهري.

وبهذا المفهوم الوسطي للصيام ندرك أن رمضان شهر عبادة وإنجاز وإتقان يجمع فيه الصائم بين عبادة الصيام وعبادة العمل الصالح، يجمع فيه بين الصبر على ألم الجوع والصبر على العناء والتعب والمشقة الملازمة للعمل، والله تعالى يريد أن يرى عباده الصائمين وهم في مواطن العمل يبدعون ويجتهدون في تقديم النفع للآخرين دون تكاسل أو تخاذل أو إخلال بالواجب، فالعمل من هذا المنطلق قيمة حضارية ثابتة في الدين، فمن الواجب على كل مسلم العمل، والعمل في رمضان أوكد وأفضل، لأن الجزاء عليه يضاعف، ولأن المؤمن يثاب عليه أضعافاً مضاعفة، وعلى قدر الجهد يكون الجزاء، وعلى قدر الحذق يكون الفلاح في الدنيا والآخرة.

فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان معتكفاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فسلم عليه ثم جلس، فقال له ابن عباس: يا فلان أراك مكتئبا حزينا قال نعم يا ابن عم رسول الله لفلان علي حق لا وحرمة صاحب هذا القبر ما أقدر عليه. قال ابن عباس: أفلا أكلمه فيك؟ قال إن أحببت. قال: فانتعل ابن عباس ثم خرج من المسجد، فقال له الرجل: أنسيت ما كنت فيه؟ قال لا ولكني سمعت صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم والعهد به قريب، فدمعت عيناه، وهو يقول: من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيراً من اعتكاف عشر سنين، ومن اعتكف يوما ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق أبعد ما بين الخافقين.

د. سالم بن نصيرة

المصدر: الاتحاد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 69 مشاهدة
نشرت فى 4 أغسطس 2012 بواسطة alsanmeen

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,277,116