في شهر الصيام والقيام، في شهر القرآن وشهر العتق من النار... مازلت أشاهد نفس المشهد التكنولوجي التقني الذي طالما اعتدت عليه وتعودت عليه عيناي خلال السنوات القليلة الماضي، فالهاتف الذكي مختلف الأشكال والأنواع والموديلات، بات اليوم “أداة التسلية” الرئيسية التي ترافق جيوب وأيدي معظم شبابنا وبناتنا، الصغار قبل الكبار منهم، وأصبحت هذه الهواتف وخصوصاً “الذكية” منها، بمثابة منافذ الحياة الجديدة وعوامات نجاتها وموانئها ومطاراتها...
وأصبح جيل واعد جديد من الشباب والبنات غير قادرين على الجلوس مع عائلاتهم، في جلسات رمضانية هادئة دون أن يكون رفيقهم المرافق وصديقهم الصدوق هذا “الذكي” بين أيدهم، فترى ذلك الشاب جالس يقلب هاتفه بين يديه وكأن بينه وبين هذا الجهاز الكثير من الكلام والأفعال التي لم يتمكن من إتمامها خلال ساعات الصيام، وترى تلك الفتاة تباشر بالضغط المتواصل والمستمر دون كللٍ أو ملل، على كبسات هاتفها و أزراره التي اختفى المكتوب والمحفور عليها من أحرف ورموز، من كثرة التعامل معها، والتي حفظت وحفظ معها الآلاف من شبابنا وبناتنا، أماكنها عن ظهر قلب، فلم يعودوا بحاجة إلى النظر إلى لوحات مفاتيح هواتفهم حتى وإن كانت لمسية.
لم تعد شاشات التلفاز وما تحتويه من برامج ومسلسلات رمضانية، ترضي وتشبع تعطش وحاجة هؤلاء الشبان والشابات، كما كانت تفعل بالأجيال التي سبقتهم، ولم تعد الجلسات العائلية الرمضانية الماضية، تناسب هذا الجيل الجديد، فحديث الجد اختلط بالنسبة لأغلبهم مع غبار الماضي، وقصص وحكايات الجدة غلفها شبابنا وبناتنا بأكياس بلاستيكية، يُرى من خلالها شفتا الجدة ولا يسمع أو ينفذ من خلالها صوتها الهامس الخافت.
وبين القديم والجديد ترى المئات من شبابنا ينفض عن كاهليه قصص وحكايات الأجداد، ويتغاضى عن ما تقدمه له الشاشة الصغيرة من مسلسلات وبرامج رمضانية، “هادفة وغير”، ويعيد انتباهه من جديدة ويركزه على ما كان عليه قبل بدء شهر القيام والصيام والبركة، ليعود إلى هاتفه الذكي ويعود إلى برامجه وتطبيقاته التي تأسره وتسحبه معها في عالمه الخاص، عالمه الذي لا يقدر أينً كان أن يخرجه منه أو يسلبه عنه، فتراه غاطساً في مراسلاته ورسالاته مع من يعرف ومع من لا يعرف، في هذا العالم المحمول هذا العالم الذكي، الذي بذكائه هذا بات اليوم يمحو كل قديمٍ جميل، والذي بات بهذا الذكاء، يسيطر على مئات الآلاف من شبابنا وبناتنا، وبات يربطهم فيما بينهم بروابط “خيالية” غير واقعية، “الداخل فيها مفقود.. والخارج منها مولود..”
رمضان اليوم ليس هو رمضان الأمس، وشباب وشابات اليوم ليسوا هم شباب وشابات الأمس، وليس لي ولا يجوز لي أن أكون الحكم بين جيل اليوم وجيل الأمس، ولكني ودون تردد أترحم على رمضان الأمس وأيامه، وأرجو أن يكون القادم إلينا كالذي مضى ولو بأقل القليل، وأرجو أن يقطف الجيل القادم ثمار حبهم للتكنولوجيا والتقنيات والتطور... خيراً وبركة وفائدة، وأن لا يقتطفوا ثماراً لا فائدة منها ولا طعم ولا رائحة، نتيجة حبهم وعشقهم لهذه التكنولوجيا وما تأتينا وتأتيهم به، من كل جديد في كل ساعة.
ساحة النقاش