أحمد مراد
يعد إبن حزم الأندلسي من أكبر علماء الإسلام تصنيفاً وتأليفاً بعد الطبري، وهو إمام حافظ، وفقيه ظاهري، وأحد المجددين في علوم الفقه، كما كان متكلماً، وأديباً، وشاعراً، ووصفه البعض بالفيلسوف.
يقول د. عبدالمقصود باشا - أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الأزهر: ولد إبن حزم في الثلاثين من رمضان عام 384 هـ، الموافق 7 نوفمبر عام 994م في قرطبة، وعاش حياته الأولى في صحبة أخيه أبى بكر الذي كان يكبره بخمس سنوات في قصر أبيه أحمد بن سعيد أحد وزراء المنصور بن أبي عامر، وابنه المظفر من بعده، ويمتد نسب أسرة ابن حزم إلى يزيد بن أبى سفيان، وقد بدأت هذه الأسرة تحتل مكانها الرفيع كواحدة من كبرى العائلات بالأندلس في عهد حكم المستنصر، ونجحت في امتلاك قرية بأسرها هي “منت ليشم”، وكان لوالد إبن حزم مجلس يحضره العلماء والشعراء، وقد كان لهذا أثره على ولده في تمكنه من اللغة والشعر واهتمامه بهما، كما كان والده من المشاركين في حركة الإفتاء بالأندلس من خلال مجالسه العلمية والمناظرات التي كانت تدور في قصره حتى قال عنه ابن العماد “كان مفتياً لغوياً متبحراً في علم اللسان”، وهذه العبارة توضح الأثر الذي تركه أحمد بن سعيد على ولده ابن حزم الذي اعتمد في فتواه وتفسيره لنصوص القرآن والسنة على ظاهر اللغة، ومن ثم كان والده أحد الأسباب التي دفعته إلى المنهج الظاهري في الفتيا والتفسير بالرغم من أنه كان مالكي المذهب.
ويضيف د. باشا: تولى إبن حزم الوزارة في عهد المرتضي في بلنسية، ولما هزم في أحد حروبه وقع ابن حزم في الأسر وكان ذلك في عام 409 هجرية، ثم أطلق سراحه من الأسر، فعاد إلى قرطبة وبعدها تولي الوزارة لصديقه عبدالرحمن المستظهر في رمضان سنة 412 هجرية، ولم يبق في هذا المنصب أكثر من شهر ونصف، فقد قتل المستظهر في شهر ذي الحجة من السنة نفسها، وسجن ابن حزم، ثم أطلق سراحه، كما تولى الوزارة أيام هشام المعتمد فيما بين عامي “418 - 422” هجرية.
ويشير د. باشا إلى أن إبن حزم كان شافعي الفقه، وانتقل منه إلى الظاهرية، حيث أصلَّ ما يعرف بالمذهب الظاهري وهو مذهب يرفض القياس الفقهي الذي يعتمده الفقه الإسلامي التقليدي، وينادي بوجوب وجود دليل شرعي واضح من القرآن أو من السنة لتثبيت حكم ما، وهو ما جعل الكثير من الباحثين يشيرون إلى انه كان صاحب مشروع كامل لإعادة تأسيس الفكر الإسلامي من فقه وأصول فقه، وفي مذهبه وافق ابن حزم العقيدة السلفية في بعض الأمور من توحيد الأسماء والصفات وخالفهم في أخرى، وكل ذلك كان باجتهاده الخاص، وله ردود كثيرة على الشيعة واليهود والنصارى وعلى الصوفية والخوارج.
وكان الإمام ابن حزم ينادي بالتمسك بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة ورفض ما عدا ذلك في دين الله، وكان لا يقبل القياس والاستحسان والمصالح المرسلة، وكان يعتبرها محض الظن وكان ابن القيم شديد التتبع لآثار وكتب ابن حزم، وكان يصفه بمنجنيق العرب أو بمنجنيق الغرب، وكانت الناس تضرب المثل في لسان ابن حزم، فقيل عنه: “سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقان” وكان ابن حزم يبسط لسانه في علماء الأمة، وخاصة خلال مناظراته مع المالكية في الأندلس، وهذه الحدة أورثت نفوراً في قلوب كثير من العلماء عن ابن حزم وعلمه ومؤلفاته، وكثر أعداؤه في الأندلس.
ويقول د. باشا: ألف ابن حزم في الأدب كتاب طوق الحمامة، وألف في الفقه وفي أصوله، وشرح منطق أرسطو وأعاد صياغة الكثير من المفاهيم الفلسفية، وربما يعتبر أول من قال بالمذهب الاسمي في الفلسفة الذي يلغي مقولة الكليات الأرسطية، وذكر ابنه أبو رافع الفضل أن مبلغ تآليف والده فِي الفقه والحديث والتاريخ والأدب بلغ نحو أربعمئة مجلد تشتمل عَلَى قريب من ثمانين ألف ورق، ومن أشهر كتبه الرسالة الباهرة، والأخلاق والسير، والتصفح في الفقه، ومراتب الإجماع، والنبذ في أصول الفقه الظاهري، والإملاء في شرح الموطأ، وأجوبة على المسائل المستغربة من صحيح البخاري، واختلاف الفقهاء مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وداود، ومراتب الديانة، ومهم السنن، ورسالة في الوعد والوعيد وبيان الحق في ذلك من السنن والقرآن.
ويرتبط بمصنفات ابن حزم حادثة خطيرة تكررت بالأندلس كلما ضاق أهلها بأحد ممن يخالفهم من العلماء، وهي إحراق كتبه علانية بإشبيلية أيام المعتضد، ولكن كان له جماعة من تلاميذه النجباء الذين قدروا فكره وحافظوا على كتبه التي كانوا يمتلكونها بنسخها ونشرها بين الناس، وعندما غضب المعتضد عليه آثر أبن حزم السلامة وغادر إشبيلية إلى قريته “منت ليشم” التي كان يمتلكها ويتردد عليها، وظل بها يمارس التصنيف والتدريس حتى وافته المنية عشية يوم الأحد 28 شعبان 456 هـ .
ساحة النقاش