عمرو أبوالفضل - كان للعلامة البيروني دور بارز ومتميز في ميدان الرحلات، لكثرة رحلاته وتنوعها، واتساع مداها، وشهد له العالم بالنبوغ والفضل في علوم ومعارف كثيرة ونال مكانة مرموقة لمساهماته الفكرية والعلمية التي أفادت البشرية.
ويقول الدكتور حمدي مصطفى الأستاذ بجامعة الأزهر ولد أبوالريحان بن أحمد البيروني في سنة 362هـ-973م، ببلدة بيرون من أعمال خوارزم ببلاد فارس، وهو من أصول فارسية ومكث بها نحواً من عشرين عاماً دارساً ومتعلماً لعلوم العربية وآدابها وللفقه والعلوم الفلسفية، وأراد الاستزادة من العلم، وارتحل إلى بلاد فارس وأفغانستان والعراق والشام طلباً للتضلع في العلوم والفنون والأخذ عن العلماء الثقات، وشغف بحب الرياضيات والفلك والجغرافيا والفلسفة، وعكف على الاشتغال بالتوفيق بين الفلسفة والدين، ولما تضلع وظهر نبوغه في التاريخ والرياضيات والفلك وذاع صيته نال إعجاب أمير خوارزم، فضمه إلى علماء قصره، وضمن له ما يكفيه للعيش عيشة كريمة ليتفرغ للعلم والاستنباط والاستكشاف، ولما تولى مأمون بن محمد رحل من خوارزم وظل يتنقل من بلد إلى بلد، واتصل بالأمير شمس المعالي قابوس أمير جرجان وطبرستان، وكان محباً للعلم والعلماء، وشمله بعطفه ورعايته وأعطاه الأموال الكثيرة، حتى تفرغ للعلم واستطاع أن يكتب كتابه الشهير “الآثار الباقية عن القرون الخالية” وقدم هذا الكتاب هدية إلى الأمير قابوس سنة 390هـ.
عودته
لما عزل قابوس عن الإمارة سنة 400هـ-1009م، عاد البيروني إلى بلده خوارزم مرة أخرى، ولقي فيها كل التقدير من أمير البلاد أبي العباس مأمون بن مأمون، وأتيحت له الفرصة لأن يجتمع بكبار الأدباء والعلماء مثل ابن سينا وكانت بينهما مناظرات وغيره، وعندما استولى السلطان محمود الغزنوي علي جرجان وقتل الأمير أبو العباس مأمون في سنة 407هـ-1016م، أخذ كل الذخائر العلمية التي تضمها مكتبة القصر، واصطحب معه العلماء، وكان من بينهم أبو الريحان البيروني وجعله في صدارة العلماء، والتقى في قصر السلطان بعدد من الفلاسفة والأدباء المشهورين، وصحبه السلطان في أكثر من ثلاث عشرة غزوة، وفي أسفاره الكثيرة إلى الهند على مدى عقدين من الزمن.
وانكب في غزنة على أبحاثه ودراساته، وكتب العديد من المؤلفات في مسائل علمية وتاريخية، وابتكر مساهمات في الهندسة والفلك والجغرافيا، وذكرت المصادر أن له في الفلك والرياضة وحدهما أربعين كتاباً ورسالة، وكانت قمة عصره وعدة التمهيد للدراسات العلمية الحديثة، وعرف باعتزازه باللغة العربية والولاء لها لدرجة أنه وضع كل مؤلفاته بها، بالرغم أنها لم تكن لغته الأم، وكان يقول:” لأن أهجى بالعربية أحب إلى من أن أمدح بغيرها”.
رحلات علمية
وكانت إقامة البيروني في غزنة من العوامل التي ساعدته على القيام بعدة رحلات علمية إلى الهند وتعلم لغتها السنسكريتية، وكان قصده من ذلك القيام بدراسة علمية دقيقة على الطبيعة لأحوال هذه البلاد، من حيث تاريخها وثقافتها وأديانها، ففتحت له هذه الدراسة أبواب الثقافة الهندية من جميع نواحيها العلمية والدينية، وانطلق في أول رحلة له إلى الهند في عام 1017م، ولدى وصوله إليها، سحر بالثقافة الهندية، واستغرق في دراسة تراثها الحضاري وفكرها الفلسفي وعادات شعوبها وتقاليدها ومذاهبها الدينية لسنوات، فكانت بمثابة بعثة علمية كاملة، ثم سطر معارفه عن هذه الحضارة في مؤلفات لا تزال حتى الآن على النطاق العالمي أوفى وأدق وأعظم المصادر في حضارة الهند وأديانها ومذاهبها وفلسفاتها والأمم والشعوب الشرقية وخاصة كتابه “تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة “، و”تاريخ الأمم الشرقية”، و”تاريخ الهند”.
واعتبر الباحثون رحلته نموذجا فذا، إذ تعد وثيقة تاريخية مهمة تجاوزت الدراسة الجغرافية والتاريخية إلى دراسة ثقافات مجتمعات الهند قديماً، ممثلة في لغاتها وعقائدها، وعاداتها، مع عناية خاصة باللغة السنسكريتية، وهي لغة الهند القديمة، إذ يتناولها البيروني بالتحليل، ويقارن بينها وبين اللغة العربية على نحو جديد. وقد أعانه على ذلك إتقانه اللغة السنسكريتية، وثقافته الواسعة، وميله إلى التحقيق والدقة، فضلاً عن إقامته الطويلة بالهند، حيث قاربت الأربعين عاما. وذكر ياقوت الحموي في “معجم الأدباء” أنه رأى في “مرو” فهرسا لمؤلفات البيروني يشغل ستين ورقة كتبت بالخط الصغير ومن هذه الكتب “الاستيعاب في صنعة الإسطرلاب”، و”الجماهر في معرفة الجواهر”، وهو الذي أهداه إلى الملك المعظم أبى الفتح مودود، وكتاب “القانون المسعودي” وهو موسوعة ضخمة في الفلك والجغرافية، أهداه إلى السلطان الغزنوي مسعود بن محمود بن سبكتكين، ولما أراد السلطان مكافأته عليه بعث إليه بثلاثة جمال محملة بنقود الفضة واعتذر البيروني عن عدم قبولها، وقال إنه إنما يخدم العلم للعلم لا للمال.
ومن كتبه كذلك،”الإرشاد” في أحكام النجوم”، و”تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن”، و”التفهيم لأوائل صناعة التنجيم “، و”استخراج الأوتار”، و”كتاب الصيدلة”، و”رسالة في الصلة بين أحجام المعادن والجواهر”، ورسالة” في النسب بين الفلزات والجواهر في الحجم”. وترجم الكثير من مؤلفات البيروني إلى كثير من لغات الحضارة الغربية وعده علماؤها واحدا من أكبر العقول العلمية في تراث الإنسانية بإطلاق وكان مؤلفاته آثار عظيمة في النهضة الغربية وفى العلم الحديث. وتوفي- رحمه الله- بمدينة غزنة في سنة 440 هـ- 1048م.
ساحة النقاش