أبو الحسن الهروي
عمرو أبو الفضل - كان أبو الحسن الهروي من الرحالة الثقة، ومن أشهر الرحالة المسلمين الذين شغفوا بالارتحال والتجوال من مكان إلى آخر حتى لقب بالسائح، وله الفضل في توثيق المعالم الدينية لمدينة القدس إبان فترة الحروب الصليبية.
ويقول الدكتور مصطفى الدميري - الأستاذ بجامعة الأزهر - ولد علي بن أبي بكر بن علي الهروي، وكنيته تقي الدين أبو الحسن، في النصف الثاني من القرن السادس الهجري، بالموصل، وأصله من هراة، إحدى مدن خراسان، ولم يعرف الكثير عن نشأته وتعليمه، وذكرت المصادر أنه أولع بالرحلة والسير والتاريخ والجغرافية، والتطلع للسياحة في البلدان، فطاف البلاد وأكثر من زيارة أرجاء كثيرة من أنحاء المعمورة.
وحرص الهروي على دخول صقلية، ولما وصلها اجتمع فيها بزعيم مسلمي صقلية القائد أبي القاسم بن حمود، المعروف بابن الحجر، وعند خروجه منها حمله القائد رسائل إلى السلطان “المنصور الموحدي”، يطلب تجهيز حملة ضد صقلية التي سقطت بيد النورمان ويحثه على استردادها، ولكن المركب غرق، وركب الهروي في مركب آخر إلى قبرص، وكاد يؤسر. وسافر إلى الإسكندرية ومكث فترة سمع فيها من الشيخ المحدث أبي طاهر السلفي، ثم رحل إلى مكة وسمع فيها من الشيخ أبي المعالي عبدالمنعم بن أبي البركات الفراوي. كما رحل إلى بغداد، وعكف على وضع مصنف جامع للخطب وما يحتاج إليه الخطيب في المناسبات الدينية والجمع والأعياد، وأهداه إلى الخليفة الناصر لدين الله، فمنحه الخليفة توقيع بالحسبة في سائر بلاد الإسلام، وإحياء ما شاء من الموات، والخطابة بجامع حلب، وكتب توقيعه بيده ليتشرف به، غير أن الهروي لم يباشر شيئاً من ذلك.
المدرسة الهروية
وكان يعرف سحر السيمياء وكثير من الحيل والخوارق، وبها تقدم عند الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين، صاحب حلب، فطاب له المقام بها في رباط له، وصار أثيراً عنده، فبنى له مدرسة في ظاهرها تعرف بالمدرسة الهروية، ودرس بها، وعكف على تدوين رحلاته وتوثيق وصف الأمكنة التي شاهدها في الشرق والغرب، وجمع تلك الأسفار في كتابه “الإشارات إلى معرفة الزيارات”.
وذكر أنه بدأ تجواله من حلب فوصف أولاً مدينة حلب وأعمالها، ثم مدينة حمص وبعلبك والبقاع ومدينة دمشق وجبالها وقراها، وواصل رحلته جنوباً نحو حوران والبلقاء ومآب وطبرية وأقام فترة في القدس قبل أن يتحرك نحو عسقلان، ثم إلى مصر التي تجول في مدنها وتحدث عن المزارات والآثار في القاهرة ومصر القديمة وبلاد الصعيد ودمياط ورشيد والإسكندرية، ومنها ينتقل إلى الغرب الإسلامي فيزور بلاد المغرب وجزيرتي صقلية وقبرص ومدينة القسطنطينية وبلاد الروم، ثم مضى نحو أطراف الشام الشمالية، فزار الخابور وديار بكر وجزيرة ابن عمر والموصل ومنها إلى العراق، وزار سامراء وبغداد والكوفة والبصرة، ثم رحل إلى الحجاز فزار مكة والمدينة ومنها إلى اليمن، وبعد ذلك يذكر لنا بلاد العجم متنقلاً في مدنها إلى أن وصل إلى أصفهان، حيث خاتمة جولته في بلاد العجم.
رحلاته
اهتم علماء الشرق والغرب برحلة الهروي وعدوها مصدراً مهماً لكثير من الأحداث والشواهد والآثار، مما رآه فعلاً أو سمعه أو ما بلغه عن ثقات أهل زمانه. كما تميزت بكونها المصدر الفريد في ما يعرف بـ “جغرافية الأماكن المقدسة” في بلاد المشرق العربي إبان الحروب الصليبية، واحتلال مدينة القدس على أيدي الفرنجة في القرن الثاني عشر الميلادي، فقد حرص الرحالة الهروي على تدوين وتوثيق الأحداث ومشاهداته في القدس كي يصلنا ويصل إلى الأجيال اللاحقة للتعريف بالقيمة الدينية العظيمة للمدينة المقدسة، وما فيها من معالم إسلامية ومسيحية مقدسة، إذ عبر عن خوفه من أن تتلاشى أو تندثر تلك المعالم المقدسة أو تتعرض للتشويه والعبث على أيدي الغزاة.
وأصبحت رحلته مرجعاً لكثير من الرحالة والمؤرخين وأصحاب المعاجم منذ القرن الثالث عشر، منهم الرحالة ابن النديم، والمؤرخ ابن شداد، كما اعتمد ياقوت الحموي على الهروي في مواضع كثيرة من كتابه “معجم البلدان”، وأشاد المستشرق بلوخ بها واثبت أنه يمكن استخراج معلومات مفيدة منها وبخاصة ما يتعلَّق بالمادة التي أوردها عن الصليبيين ووصفه للقسطنطينية ولثوران بركان “اتنا” في صقلية عام 1175م. كما أنها تعد مصدراً مهماً عن الروح الدينية للمتصوفة في ذلك العصر، ولموضع زيارات الأولياء وقبورهم ومآثرهم في المشرق والمغرب. وصنف الهروي كتابا آخر سماه “منازل الأرض ذات الطول والعرض” دون فيه ما وصل إليه في سياحته. ومن أشهر كتبه “التذكرة الهروية في الحيل الحربية”، وهو من كتب السياسة والحرب.
وأمضى الهروي بقية عمره مقيماً في حلب يحظى فيها برعاية الملك الظاهر غازي حتى وافته المنية، وقيل إنه توفي في سنة 611هـ - 1215م، ودفن بقبة جانب مدرسته.
ساحة النقاش