د. محمد مطر الكعبي
لا تخلو أرض من هذه الحشرة الصغيرة التي قد تضايق الناس أحياناً، وتأخذ من طعامهم وزادهم، بل قد تلسع الناس وتؤذيهم، إن هذه الحشرة لها عالم عظيم فيه عبرة للمعتبرين، وقد نبه الله تعالى إلى عالمها بذكرها في محكم التنزيل، وسميت سورة باسمها (سورة النمل)، وما ذلك إلا لينظر أولو الألباب في هذا العالم فيستفيدوا منه، ونص القرآن الكريم على أن نملة تكلمت وخاطبت قومها بما يحفظ وجودهم ويبعد الخطر عنهم، يقول تعالى: (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ)، وقد أثبتت الدراسات أن للنمل مخاً وخلايا عصبية ونوع معرفة وإدراكاً، والنمل، كما توصل أصحاب الدراسات له لغات صوتية مسموعة، وحركات وإشارات، ورائحة تدل على التصرفات، إن عالم النمل عالم متكامل كشعب متجانس على أنواعه العديدة التي تبلغ الآلاف، ولكنه جميعاً مثال للتعاون والتآلف وحسن الطاعة والبناء والنظام، وفي هذا الشعب رئاسة لها مهمة التدبير وإعطاء التوجيهات، وجنود للحماية والحراسة ورد العدوان، وعمال وعاملات يأتون بالأرزاق والحاجات، وبناة لحفر الطرق والأنفاق لتخزين الغلات، وتتعدد أصناف العاملين والعاملات في مملكة النمل، وكل صنف يقوم بواجبه دون تقصير أو تهاون، وقد وجد الباحثون والدارسون أن النملة حين تجد شيئاً يفيد قومها تحمله إليهم، فإن لم تستطع حمله غلفته برائحة معينة، وأخذت منه شيئاً يسيراً وعادت إلى قومها لتخبرهم بذلك، ثم يأتي معها نفر منهم فيجتمعون عليه، ويحملونه ويجرونه إلى ديارهم ومخازنهم على غاية التعاون والتآزر في ذلك، حيث تبذل كل نملة جهدها دون تقاعس أو تكاسل، وقد أعطى الله هذه الحشرة الصغيرة قدرة فائقة على حمل الأثقال إذ تستطيع
ولقد علم الله تعالى هذه الحشرة أنها إذا جمعت في مخازنها ما يمكن أن ينبت في الماء أو في الرطوبة كحبة القمح والشعير فلقتها قسمين حتى لا تنبت، وإذا كانت تنبت بقسمين قسمتها أربعاً، وإذا أصاب غذاءها وخزائنها رطوبة أو ماء يفسد ما عندها تحينت يوماً مشمساً فأخرجته إلى وجه الأرض، فنشرته تحت الشمس حتى يجفّ ثم تعيده إلى أماكنه مصوناً محفوظاً.
ومن أعجب ما لاحظه الدارسون لعالم النمل روح الإيثار فيه، فإذا التقت نملة جائعة بأخرى شبعانة فإنه هذه الشبعانة تتوجه إلى الجائعة فتعطيها خلاصات غذائية من جسمها، وقد وضع الله تعالى في كل نملة جهاز ضخ تنقل الطعام إلى غيرها من جنسها، ولهذا لا نعجب أن تتوجه ملكة النمل الأمينة الساهرة على قومها إليهم بقولها: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ)، فتعجب سليمان منها، يقول سبحانه: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا)، لما رأى من اهتدائها إلى تدبير مصالحها ومصالح قومها وشدَّة حذرها وحيطتها وحرصها على أهلها ووطنها، أليس في ذلك عبرةً للمعتبرين وآية لكل من يحب قومه ووطنه؟
ساحة النقاش