مدائن صالح
أحمد محمد - اندثرت عاد بالريح العاتية، وأورث الله الأرض قوم ثمود أخي جديس بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح، وهم من العرب العاربة، وثمود هم أبناء عم عاد، وكانوا ذوي شأن وتأثير في الحياة وعبدوا الأصنام، وكان لهم ما يقارب الأربعين صنما، وجعلوا لها بيوتاً يدفعون الناس إليها، ليقدموا لها القرابين التي كانت تؤمن لهم زيادة أموالهم وتنمية ثرواتهم، وكان أكبر تلك الأصنام “ود” و”هبل” و”اللات”.
وسكنت “ثمود” الحجر الذي بين الحجاز وتبوك وكانت طباعهم شرسة وكانوا قساة القلوب، خصوصاً بعدما كثرت أموالهم واتسع سلطانهم إذ أصابهم البطر والغرور، فأفسدوا في الأرض، وبطشوا بالناس، وجحدوا نعم الله.
فبعث الله فيهم نبياً منهم هو “صالح” “وإلى ثمود أخاهم صالحاً”، فراح ينهاهم ويعظهم ويجادلهم، ويعدهم ويتوعدهم للرجوع عن ضلالتهم ويدعوهم إلى عبادة الله فقال لهم: “يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره”.
وذُكر “صالح” عليه السلام في القرآن تسع مرات، وتناولت الآيات قصته وما جرى بينه وبين قومه من جدال فقد عرفوه وهو يعيش بين ظهرانيهم، بأنه الحكيم العالم الحصيف، صاحب الرأي الرشيد، الذي يرجعون إليه في الملمات، لكن جماعة منهم وهم الكثرة الغالبة، لم يؤمنوا بل غيروا رأيهم فيه ومقتوه بعد أن كانوا يحبونه، واحتقروه وكذبوه بعدما كانوا يصدقونه ويحترمونه، وقالوا: “يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا”، أي قبل أن تأمرنا بعبادة الله، وترك عبادة الأصنام أما وقد أمرتنا بترك آلهتنا، ودعوتنا إلى عبادة إله واحد فإننا أصبحنا نشك في مكانتك التي كانت لك عندنا واستكبروا واتهموه بالكذب، ورفضوا اتباعه وتصديقه: “فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر أألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر”.
تذكرة
ورغم ذلك، واصل دعوتهم إلى عبادة الله الواحد، وذكرهم بما حدث للأمم التي قبلهم، وما حل بها من العذاب بسبب كفرهم وعنادهم، فقال لهم: “واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين” “الأعراف: 74”، ثم أخذ يذكرهم بنعم الله عليهم، فقال لهم: “أتتركون في ما هاهنا آمنين. في جنات وعيون. وزروع ونخيل طلعها هضيم” “الشعراء:146- 148”.
ثم أراد أن يبين لهم الطريق الصحيح لعبادة الله، وأنهم لو استغفروا الله وتابوا إليه فإن الله سيقبل توبتهم، فقال : “يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب” “هود: 61”، فآمنت به طائفة من الفقراء والمساكين، وكفرت طائفة الأغنياء، واستكبروا وكذبوه.
يقول المفسرون إن صالح عليه السلام قال لهم، إن الله جعلكم خلفاء من بعد قوم عاد، لتعتبروا بما كان من أمرهم، وتعملوا بخلاف عملهم، وأباح لكم هذه الأرض تبنون في سهولها القصور، وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين، حاذقين في صنعتها وإتقانها، فاشكروا نعمة الله الذي خلقكم، وأنشأكم من الأرض وأعطاكموها بما فيها من الزروع والثمار، فهو الخالق الرزاق، الذي يستحق العبادة وأقلعوا عما أنتم فيه، وأقبلوا عليه فإنه يقبل منكم، ويتجاوز عنكم.
ناقة عظيمة
اجتمع القوم في ناديهم، فجاءهم صالح فدعاهم إلى الله، وذكرهم وحذرهم، فقالوا له إن أخرجت لنا من هذه الصخرة ناقة، وذكروا أوصافها، وأن تكون عشراء طويلة لنؤمنن لك، فقال لهم أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم على الوجه الذي طلبتم أتؤمنون بما جئتكم به وتصدقونني فيما أرسلت به قالوا: نعم، فأخذ عهودهم على ذلك، ثم قام فصلى، ودعا ربه أن يجيبهم إلى ما طلبوا.
أمر الله الصخرة أن تنفطر عن ناقة عظيمة عشراء، على الوجه الذي طلبوا فلما عاينوها، رأوا أمراً عظيماً، ومنظراً هائلاً، وقدرة باهرة، ودليلاً قاطعاً، فآمن كثير منهم، واستمر أكثرهم على كفرهم وعنادهم.
اجتمع الملأ واتفقوا على أن يعقروا الناقة ليتوافر ماؤهم، وزين لهم الشيطان أعمالهم وذكر ابن جرير وغيره من المفسرين أنها لما صدرت من وردها رموها بسهم، أصاب عظم ساقها وتوالت الضربات حتى نفقت هي وفصيلها، قال الله تعالى: “فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر فكيف كان عذابي ونذر”.
قال لهم صالح “تمتعوا في داركم ثلاثة أيام”، فلم يصدقوه أيضاً في هذا الوعد، بل لما أمسوا هموا بقتله فأرسل الله عليهم حجارة رضختهم.
قال ابن كثير: فلما أشرقت الشمس -في اليوم الثالث- جاءتهم صيحة من السماء من فوقهم، ورجفة شديدة من أسفل منهم، ففاضت الأرواح وزهقت النفوس وسكنت الحركات وخشعت الأصوات، وحقت الحقائق، فأصبحوا في دارهم جاثمين جثثاً لا أرواح فيها ولا حراك بها يقول تعالى: “فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين امنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود” “هود: 65”.
ساحة النقاش