تتراقص كلمات صديقي فرحاً على شاشة الدردشة، يخبرني بأنه قادم قريبا إلى كندا، يحذرني بأنني المصرية الوحيدة التي يعرفها هناك، أضحك لعدم إدراكه لبعد المسافات "هناك"، وإنه سيسكن مدينة تبعد عني -بُعد مصر عن ليبيا– فأطمئنه بأنه سيجد الكثير من الأصدقاء عندما يصل.
يرسل صديق آخر رسالة الكترونية ليخبرني بقبول طلب هجرته، يسألني النصيحة وبعض المعلومات، يرسل صديق ثالث رسالة قصيرة شاكياً مصر قائلاً: "إن هذه البلد طلعت عين أهله"، فأجيبه بأنها: "طلعت عين أهلنا كلنا"، يسألني أحد المعلقين على مقالتي السابقة: "طالما تحبين بلدك فلماذا تركتيها؟" أو آخر يسألني: "لماذا لا تعودين؟" فأرد ببساطة: "إيه اللي رماك ع المُر...." ثم أمسح ردّي، لأكتب" إنه الجري وراء الأحلام، وضريبة أن تكون طموحاً".
على مائدة عشاء يدور حديث عن الأحلام، فيجيب صديق بأن كل الناس هنا في مصر يؤجلون أحلامهم لسنّ التقاعد؛ لأنهم قبل ذلك يكونون مشغولين بتكوين مستقبلهم الذي يبدأ بعد الستين، فأسأله: ألا يوجد أمل في أن نحصل على أحلامنا في وقت أقرب من سن المعاش؟!
فتحكي لي صديقتي عن شخصية مهاجرة ناجحة عندما سألوها عن سر نجاحها أجابت: "إن كل مهاجر يأتي إلى كندا يحمل معه حقيبة مغلقة، حقيبة معدة مسبقا، ليكون على استعداد للعودة إلى وطنه الأصلي في أي وقت، أما هي فسر نجاحها أنها فتحت هذه الحقيبة، أخرجت محتوياتها وقررت البقاء في كندا للأبد، قررت أن تحيا هنا، فاستطاعت أن تنجح هنا".
تحضر قصتها إلى ذهني كلمات صديقي الطبيب الشاب المهاجر حديثاً أيضاً على لسان واحد من ذوي الخبرة: "إذا كنت عاوز تنجح في كندا لازم تنسى مصر خالص".
ولكن من يستطيع أن ينسى؟ حمزة نمرة في أغنيته الجديدة المميزة جدا "التغريبة" يلعب على وتر هذا الإحساس، فيتحدث عن الغربة وأوجاعها، ثم ينهي كل المقاطع بتلك الجملة المفرحة "لكني مش قلقان.. تذكرتي.. رايح.. جاي"، فالنسيان ليس بهذه السهولة أبداً، فنحن نرحل محملين بحلم العودة بانتصار الأبطال وفرحتهم، لنحقق آمال الأهل والأصدقاء فينا، نرحل في الحقيقة وبداخلنا رغبة وحيدة هي أننا يجب أن نعود أقوى وأنفع لمن حولنا، وإلا لن يكون لحياتنا أو لغربتنا أي قيمة، لذلك نظل نردد لأنفسنا بأن "التذكرة.. رايح.. جاي".
تخبرني صديقة وُلدت في مصر وتربت في دولة عربية والآن هاجرت إلى كندا: أعرف ما تعنيه "الحقيبة المغلقة" و"الأحلام المؤجلة" لقد عاش أبي وأمي طوال عمرهم يؤجلون الأشياء، قائلين: سنفعل كذا وكذا عندما نعود إلى مصر.. ولكننا لم نعُد أبدا إلى مصر، أحاول تخيل حياتنا لو لم نكن أجّلناها، بالتأكيد ستكون مختلفة، الآن أنا أريد أن أعيش هنا، لا أريد تأجيل حياتي".
الغريب أن هذه القصص لا تقتصر على المهجر وحده، فهناك وعلى الشاطئ الآخر، حيث يحلم المهاجرون بالعودة والاستقرار ولمّة الأهل والأصدقاء ، قصص أخرى وحقائب مغلقة تنتظر حلم الهجرة والتحليق بعيدا، أحلام من نوع آخر مؤجلة إلى حين إيجاد عقد عمل في دولة خليجية أو صدور الموافقة على الهجرة، لقد تعودنا الغربة والحقيبة المغلقة والحلم الذي لا يسعه الوطن.
لن أكذب عليكم وأقول إن الفروق بين هنا وهناك ليست كثيرة، ولكن الأمل المخبأ في الحقيبة، هو الذي يصنع الغد، هو ما يجعلنا نركض في طريق المستقبل وإن كان غامضاً وغائماً، ربما نعود وتعود معنا كل الأشياء الجميلة، وربما نرحل وترحل معنا كل الذكريات الحزينة، ربما نستطيع يوما أن نقلل الفجوة بين هنا وهناك، أو نوجد منطقة وسط فيها دفء وحب وراحة البال هنا مع نظام وأخلاق ونظافة وقوانين هناك.
وربما لو توقفنا قليلا قبل سن التقاعد، ونظرنا حولنا في المكان الذي نعيش فيه أيا كان، لرأينا ما يستحق أن نعيشه الآن دون تأجيل، أشياء تحتاج أن نفعلها دون انتظار أو تردد، وقتها سنفرغ كل حقائبنا، ونهمس لأنفسنا "لقد قررنا أن نحيا الآن.. هنا.. وللأبد"، وقتها فقط يمكننا أن ننجح في أي مكان نكون فيه.
ساحة النقاش