كثيرة هي المطالب التي تتعلق بها النفوس، أو تفكر بها العقول، أو يسعى إليها الطامحون، وتتفرق بالناس الدروب، وتختلف في ذلك الأفكار والآراء، ولعل أمر الدنيا يأخذ نصيب الأسد وقصب السبق في ذلك، كيف تصبح مليونيرًا، كيف تصبح بليونيرًا، دعوات وإعلانات وكتب ومؤلفات.
وهذا إعلان غير مألوف هو أعظم في بريقه وأشد لفتًا للأنظار في عنوانه (كيف تصبح ملكًا)، ولا شك أن هذه الأمنية قد لا تمر بذهنك كثيرًا، لكنها لو سهلت لك أو قربت إليك فلا أظنك ترفضها.
يقول الحق جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20]. ولم يكن كل بني إسرائيل ملوكًا، لكن الآية نصها واضح وصريح في هذا.
روى الطبري في تفسيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه جاءه رجل فقال له: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فسأله عبد الله بن عمرو t: أليست لك امرأة (أي زوجة) تأوي إليها؟ قال: بلى. قال: أليس لك مسكن تسكنه؟ قال: بلى. قال: فأنت من الأغنياء. فأضاف الرجل قائلاً: فإن لي خادمًا. فقال له عبد الله بن عمرو: فإنك إذن من الملوك!!
وكان ابن عباس يقول:
الخادم والمرأة والبيت من حازها كان ملكًا.
ورسولنا في الحديث المتفق عليه يقول: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم".
وهذا مقياس دقيق؛ فإن كنت تشك أنك ملك أو أنك ثري فانظر إلى غيرك، هل تملك قوت يومك؟! فثمة من لا يملكه، هل لك لباس يكسو عورتك؟! فهناك من لا يجد ما يستر به عورته، هل لك مسكن تأوي إليه؟ هناك من يسكن في الطرقات، وهكذا في سائر ما نتمتع به من نعم الدنيا الكثيرة.
وفي حديث ابن ماجه بسند حسن، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أيضًا، عن النبي : "كلوا واشربوا وتصدقوا في غير سرف ولا مخيلة، إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده".
فإذا لم يكن ثمة إسراف ولا خيلاء وتكبر، فتلك نعمة من الله فوسِّع بها على نفسك، واحمد الله وانظر إلى عظيم نعمته عليك، ليس في مال وطعام وشراب فحسب بل حتى في صحة بدنك، وصلاح ولدك، واستقرار أمرك، وهدوء بالك، وراحة نفسك، وطمأنينة قلبك، فإن نعم الله لا تعد ولا تحصى!!
فما الذي تحتاج إليه من المال؟ أتريده لتأكل؟ فإنك لن تأكل أكثر مما يملأ بطنك، وربما يأكل الفقير الذي لا يملك إلا القليل أكثر من الغني ذي المال الوفير؛ لأن ذاك يحسب السعرات الحرارية، ونسبة الكولسترول، وربما كان عنده أمراض وتوصيات طبية ينفق فيها أضعاف ما ينفقه على تلك اللقمة التي يأكلها.
وهدي المصطفى قد تناول كل الأمور الصغيرة والكبيرة في حياتنا، فها هو يقول : "من ترك اللباس تواضعًا لله وهو يقدر عليه -والمقصود اللباس الجديد والفاخر- دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق، حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها"[1].
فهذه معانٍ من القناعة، ومعانٍ من نظرات الإيمان التي تؤثر الآخرة على الدنيا، ومعانٍ من استحضار عظمة نعمة الله والنظر إليها بما تستحقه من الحمد والشكر العملي لله I.
وفي مقابل هذه التوجيهات النبوية، فما هو حالنا؟!!
في دراسة حديثة أن نساءنا في بلدنا هذه ينفقن 5 مليارات من الريالات في مستحضرات التجميل والعناية بالبشرة فقط، ولدينا كما تقول الدراسة 64 مصنعًا متخصصًا في هذه الصناعة، وتقول الدراسة: إن الفتيات الشابات ينفقن في هذا المجال 70% مما تحت أيديهن من الأموال بمعدل يصل من 14 إلى 18 ألف ريال لكل فتاة.
وما تنفقه نساؤنا لشراء الملابس في فترة رمضان استعدادًا للعيد بلغ -كما تقول دراسات اقتصادية- 1.800.000.000 ريال!!
فلو أننا استطعنا أن نخفض من هذه الكلفة بنسبة 1%، فكم سيكون التوفير؟ وكيف لو كان التوفير بنسبة 10% أو حتى 50%، فماذا سيضير نساءنا إن خفضن بمثل هذه النسب؟
وفي الطعام والشراب تشير دراسة إلى أن أسرنا تنفق فيهما 40% من دخلها!!
وذكرت العينة في الدراسة أن 7.6% يذهبون إلى المطاعم يوميًّا، وأن نحو 40% يذهبون أكثر من مرة أسبوعيًّا، وأن نحو أكثر من 50% يذهبون أكثر من مرة شهريًّا.
وفي مجال السياحة فإن أحدث دراسة لهذا العام تقول: إن الإنفاق المتوقع سيكون 13.2 مليار ريال للسياحة الداخلية فقط، وأنها زائدة عن العام الذي مضى بنسبة 4%!
أما السياحة الخارجية فتقدر بـ 45 مليار ريال!!
ولا أتحدث هنا عن الأثرياء، وإلا لذكرت إحصاءات وأرقامًا للدور والقصور والسيارات واليخوت!!
أفليس الأَوْلى قليلاً من الترشيد في الإنفاق، والله تعالى يقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].
أفليس الترشيد قليلاً يجعلنا قادرين على أن نوفر مالاً ينفعنا، لا أقول لنتصدق به، وإنما لندخره لأنفسنا وعيالنا؟!
فلو أنك اتخذت قرارًا بأن كل إنفاق على الكماليات ستخصص منه 5% مثلاً لوجه الله، أو لادخار يستثمر وينتفع به في المستقبل، فستجد أن المعادلة تتزن، وأن الأمر يكون على وجه غير هذا الوجه الذي نرى ونسمع.
ولنتذكر قول الحق جل وعلا: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27].
ولست أدعو إلى ترك النعمة، فإن ذلك مما لم يدع إليه رسولنا ، بل قد ورد في حديث صحيح عند البيهقي في الشعب من حديث أبي سعيد الخدري t عن رسول الله : "إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده". وقال النبي لوالد أبي الأحوص: "فإذا آتاك الله مالاً، فليُرَ أثر نعمة الله عليك وكرامته"[2].
ولكني أدعو إلى قليل من ترشيد الإنفاق في الأمور الكمالية؛ لئلا نكون من المترفين والمبذرين.
فنحن بإيماننا بربنا ورضانا بما قسم لنا وقناعتنا بما رزقنا وبالنعمة الحقيقية التي بين أيدينا أغنياء، بل نحن ملوك على الحقيقة، وإذا رشّدنا في إنفاقنا فإننا سنكون قادرين على أن نكتسب مزيدًا من الحسنات في الإنفاق في وجوه الخير، أو مزيدًا من النعمة التي ندخرها ونستثمرها، وتكون لنا من أسباب الإعانة على شئون دنيانا.
أسأل الله أن يرزقنا القناعة في قلوبنا، والرضا بما قسم الله لنا في نفوسنا، وأن يجعلنا أوثق بما عنده مما في أيدينا
نشرت فى 3 يناير 2011
بواسطة alfaresmido
الفارس أحمد عطا
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
115,359
ساحة النقاش