تعريف الخاطرة ومفهومها
(المخلوقة والمصنوعة )
الخاطرة ومضة سريعة، إلهام من نور الله ، أو بوسوسة من نار الشيطان ، نحو عقل متلق لها لا يشترط فيه الموهبة ، نحو قضية ما أو إشكالية ما تنير القلب وتثبت فى العقل فيسطرها جملا وعبارات بغرض الإفادة ، ولا تعتمد على موهبة المتلقي أو الصانع لها ؛ لأنه لا يتدخل فى صنعها (مخلوقة)ولكنها تسطع عليه من إلهام ينير فى العقل، وسرعان ما يصادق عليه القلب ويحتفظ بها فى الذاكرة الحاضرة أو المتخفية فى اللاشعور ، تستدعى متى الحاجة إليها أو عند وقوع حدث مشابه لها فتخرج لتحلل وقوع الحدث أو تطرح عليه بعد تجلياتها سابقة التجهيز من تلك الومضة التى احتفظ بها العقل فى ثنايا ملفاته ودفاتره وأوراقه .
وهى تفسير شخصي لشيء ما ، بما يقع فى القلب من شد وجذب لواقعة ما أو حدث ما ، وينقل القلب هذا الإحساس إلى عقل المخ وينتظر ترجمة منه لها فعلية علمية ، لتفسر له سر تعلقه ونقده أو مدحه أو احتفاظه بهذا الشيء ، سواء كان عن حب أو كره، مما تجعله ينسج هذه الومضة السريعة التى مرت بباله ينسجها جملا وعبارات يهذبها ويجملها ويحسنها بحيث تخرج للآخرين بغرض أن تؤدى غرضا ما، وتستحوذ على الآخرين بنفس القدر الذى تملكه منه هو ، وجعلته يحملها ويحفظها ويدعو لها ، لحمل الآخرين على الاستماع إليها وشدهم وجذبهم ، بغرض مشاركة الآخرين له لتفسيرها ولمدى التصاقها به ، حتى يخرج فى النهاية بهدف أو بشيء يرتاح له ينير الطريق أمامه من بعد تحليل وتأكيد لمعنى أو لشيء ما يريد تثبيته أو الانتباه له وحمله على محمل الجد.
وهذا الشيء علم أو قضية أو رؤية أو تفسير أو تحليل لرؤية ما لا تكون من إبداع ووحي من يفعّل خواطره نحوها ، بل يبنى عليها صاحب الخاطرة رؤيته عنها بما يجول فى خاطره من تحليل وشرح وتفنيد .
التفسير الشخصي لحدث ما يخضع لمعايير ثقافة الشخصية نفسها مبدع الخاطرة وتعليمه ورؤيته وخبرته الحياتية والعملية ، بغرض التنوير أو الشرح والتفنيد من أجل استجلاب العظة والعبرة والتسلية والتفريج عن النفس .
التفسير الشخصي فى العادة يضيف ولا ينتقص من جوهر الحدث ؛ لأنه يعتمد على التعلم والعقيدة والمعتقد والقدرة التحليلية والموهبة والمنهج الوصفي من خلال الخبرة التراكمية .
الخاطرة هى التحلل من القيد والشرط والتحرر عن مصدر الخاطرة وكيفية بنائها ، وعلى أى أسس حيث تعتمد على علم الشخص نفسه دون سند علمي واضح .
فإذا ما أردنا ربط الخاطرة بالأدب واعتبرناها نوعا منه لزم تحقق اللغة والفكر والفكرة والسرد والوصف أكثر من الحوار بدون الحاجة إلى الحبكة والصراع لبّ ما يفرقها عن القصة أو الأقصوصة.
فى العادة تستدعى وتفعل الخاطرة عند الشدة أو الحزن أو الموقف العصيب بغرض التهوين والتيسير والتفريح عن قلب المهموم بغرض فض همه وخروجه منه وكأنها علاج فعال وهو مكمن سحرها وفائدتها القصوى ، كما أنها فى الكثير من الأحيان تتولد من نفس مسببات ما تقوم بعلاجه ، ولكن عند إعادتها للغير تصبح له سلوى وعلاجا ، فهي تتولد من الداء وتكون الدواء ، كأنها المصل حيث يستخرج المصل من نفس الداء ويكون هو الدواء .
والخاطرة من ضمن ما تعنى إعادة إنتاج لحظة بما اكتنزتها مرت من عمر الزمن سكنت فى الذهن ثم استوطنت العقل الباطن ، استدعت من مؤثر خارجي لامس وترها الحساس فانتفضت من نومها وسباتها تتكلم بنفسها بما شهدته وكانت شاهدة عليه ، فطوتها فى رقائق القلب وبين أنسجة العقل بشفرة ما ، وعندما تنفك الشفرة من تلامس المؤثر الخارجي الذى يأتي بها الإحساس ، تفصح عن مكنونها فى لحظة تؤدى دورها بفاعلية ، فتؤثر فى الآخرين تأثيرا عظيما ، وتسعد وتفرح منتجها ومكتنزها ، وإما تحزنه وتبكيه .
فإذا ما هرب المبدع من الخاطرة المخلوقة لا يعرف أنه يذهب إلى الخاطرة المصنوعة المبدعة التى تدخل فى عالم الأدب ، ومن ثم يتم الحساب والتقييم ؛ لأن الأدب من يدخل بابه لابد له بالاعتماد على أسسه من حيث اللغة والفكر والفكرة ، لأن جوهر الفرق بين الخاطرة المصنوعة والخاطرة المخلوقة أن الأولى يتم إعمال الفكر فيها والإبداع من تفكير وتمحيص وتجميل وتهذيب ، سواء كانت بلغة شعرية أو نثرية فصحى ؛ وإما لغة شعرية أو نثرية عامية ، أو بهما معا ، أما المخلوقة فهي ما يمر على البال بإلهام من قبسه من نور الله وإما قبسه من نار الشيطان ، تسطع بإجبار لين وبقوة ناعمة على العقل فتوقظه لتدلى له بمعلومات وتفسير وتيسير حول قضية ما أو إشكالية ما مرت به من وقت قريب أو بعيد ، فتأتيه لتوضح له ما انتقص بعد ما غاب عنه ولم يستطع عقله إسعافه فى التفكير فيها بما يخرج بحل وتفسير سليم يرتاح له ويطمئن إليه عقل قلبه ويصادق عليه؛ لأنه هو الآخر لم تكن عنده القاعدة والعلم التام نموذج الإجابة الصحيح ليضاهيه بما أنتجه عقل المخ، فلذا تأتى النتيجة من كليهما منقوصة ، وعندما تتوهج الخاطرة وتمر تكمل هذا المنتقص ولو بعد حين من الوقت حتى لو تركها صاحبها ، فيقوم إن انتبه يدسها بين قلبه وفى دفاتر عقله ، حتى يحين الوقت المناسب فيدلى بها للآخرين ويخبرهم بفحوى هذه الإشكالية من قبل .
أما المصنوعة فهي العكس من ذلك تماما لأن صاحبها لا بد أن يكون مبدعا موهوبا يعمل عقله بالتفكير والتمحيص متعمدا فى قضية ما أو إشكالية ما أو حدث أو خلافه بغرض أن يخرج بحل وتفسير ومعنى ، وعندما يصل إلى ذلك يسطرها مستعملا ما يمتلك من أدوات يجيدها من شعر أو نثر على نسق غير محدد الهوية وهو مكمن هروبه إليها ، ثم يخرجها للآخرين على أى شكل هو نفسه لا يطمئن إليه بالكلية حسب عوالم الأدب المستقرة والمعروفة فيلجأ إلى نسجها خاطرة لم تخضع بعد إلى التصنيف والتجنيس ، بغرض العظة أو التسلية أو التسرية أو التعليم ، وهى من أهداف الأدب عموما فبذلك يلتحم مع عوالم الأدب فى شق أصيل منه وهذه الأولى ، أما الثانية أنه يكتبها ويحسن صياغتها وهو فى ذهنه جمهور ما سيروى له بالكلام المسموع ، أو بالكلام المقروء ، على أن يحملها المروى له على أي مستحسن يستحسنها ، أو طيب يستطيبها .
فى حالة الخاطرة المخلوقة التى تأتى قبسه من نور الله يصوغها كما جاءته ، أو حتى تدخل فى تحسين وتجويد لغتها وتهذيب جملها ، وقصر عباراتها ، ليس عليها حساب ولا تقييم ولا نقد سوى المدح والإعلاء من شأنها باعتبارها نورا من المؤكد ينير الطريق لصاحبها وللآخرين ، وكذلك الحال إن كانت قبسة من نار الشيطان بوسوسة فى العقل وصرح بها، لا نمتلك حيالها غير الازدراء والتسخيف والرد الجميل برأي رشيد ونصح عظيم وفى العادة لا يصرح بها صاحبها ولا يستطيع أن يصوغها لخجله منها ولإدراكه عدم جدواها ونفعها ، ولكن ربما يخبر بها قولا للمقربين منه .
أما المصنوعة حديث نفس بتعقل وتفكير بغرض إنتاج وصف ما للإشكالية أو القضية محل التخاطر والتفكير ، وحين إبداعها يتفاخر بها ويفاخر ، وهنا نمسك به ونخضع ما جال بخاطره بإعمال العقل واستغلال الموهبة للتقييم والنقد والتصحيح ، بما سنوضحه لاحقا حين التفاعل .
على كل الأحوال ستخضع الخاطرة المصنوعة للحساب والتقييم ؛ لأننا علميا سنضمها إلى عالم الأدب ، باعتبارها نصا أدبيا مبسطا ميسرا غير معقد، سواء كانت شعرا فصيحا أو عاميا بكل مشاربه وأنواعه حديثه وقديمه ، أو كانت نثرا فصيحا أو عاميا ، أو بهما معا .
أما وقد اتجهنا إلى صنعها من خلال مؤلف موهوب حقّ عليه أن يجودها ويحسنها ويعمل الفكر فيها ، ويستغل موهبته وثقافته وخبراته فى صياغتها وإبداعها ، وهذا لا يعيب على الإطلاق بشرط أن يلتزم بمعايير الأدب وشروطه وأهدافه وأسسه ومكوناته ، حينها نطلق على خاطرته أنها نص أدبي سواء كان بالشعر أو النثر أو حتى كليهما معا ، سواء كان بالفصحى أو العامية ، على أن يشمل الفكر والفكرة واللغة ، هي جوهر نبلها وعظمها وفائدتها .
ساحة النقاش