<!--<!--<!--<!--

 

أول انقلاب عسكري في العالم العربي أمريكي الصنع "انقلاب حسنى الزعيم.. في سوريا."

ثم" انقلاب حسنى الكبير في مصر."

 

" لقد أكدت حادثة حسنى الزعيم لكل من اهتم بدراستها أن عمالة أي حاكم لدولة عظمى – حتى ولو كانت من أقوى دول العالم – لا تكفى لضمان بقائه في الحكم واستمراره في السلطة. وليس هناك أي سحر أو فن في تقرير هذه الحقيقة. "

" مايلز كوبلاند " رئيس جهاز المخابرات الأمريكية في مصر، والمدير السري لعملية انقلاب حسنى الزعيم في سوريا

تمهيد

 لقد نالت الأحداث المتلاحقة في العالم العربي الداعية للتغيير والحراك الديمقراطي اهتمام الكثير من المفكرين والكتاب والمحللين السياسيين والإسلاميين وغيرهم.

فهناك بالطبع من اتفق في تفسيره لهذه الحركات أو الثورات مع الفكرة القائلة إن النار ظلّت كامنة تحت الرماد حتى انطلقت شرارة الغضب التي فجََّرت سيلاً من الأحداث غير المتوقعة. وذهب البعض لتفسيراتٍ أكثر بُعداً، فرأى البعض دوراً لشركات النفط،،وهناك من ألقى بالمسؤولية على الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في المنطقة. واهتم بعضهم بكتابة سيناريوهات المستقبل سواءً على المستوى الداخلي أو على المستوى الخارجي والدروس المستفادة من هذه الثورات، وهناك من قدّم نصائحه للحركات الثورية للحفاظ على مكاسب الثورة وتقويض محاولات الالتفاف عليها.

فنحن إذا نظرنا إلى التفسير الأول نجده بعيداً كل البعد عن الحقيقة الخفية وأن كان مضمونه أو معناه الظاهر يوحى بصحة هذا التفسير مما يجعل الكثير من هذه الشعوب تقتنع وتُصدّق بما يجرى حولها وتدافع عن رأيٍ أو فكرةٍ ظاهرها حقٌ ولكنها بعيدة كل البعد عن الحقيقة لماذا...؟ لأنه لا يمكن أن يكون الغضب من الاستبداد وحده أو تزايد حدّة الفقر هو المُفجّر لهذه الثورات لأن هذه الأسباب متَجذّرة في هذه المجتمعات فلماذا التحرك الآن فقط؟.

 فالقول الذي يضع المسئولية على الإستراتجية الأمريكية الجديدة في المنطقة ودور شركات النفط هو القول الموافق للواقع المعروف والمشهود عن الولايات المتحدة الأمريكية فهي ضليعة في ابتكار وتطبيق نظريات الانقلابات من الداخل والإطاحة برؤساء الدول في الوطن العربي ....

بعض المحللين المعروفين من روسيا وألمانيا يتبنون وجهة النظر بأن هذه الانتفاضات تمت إدارتها والتخطيط لها من قبل الولايات المتحدة حيث ترغب في استبدال بعض حلفائها الذين أصابتهم الشيخوخة في العالم العربي لمنع الفوضى التي قد تظهر حال وفاتهم. مثل حسني مبارك في الثمانينيات من عمره. وبعيداً عن تلك وتلك ....

فإنَّ قصة أي حدث سياسي يصعب فهمها ما لم توضع داخل إطارها فإذا سلخت منه أصبحت روايتها بالسكين وليس بالقلم . بل إن كل مسرحية تحتاج إلى أرضية تجرى فوقها الحركة، وإلى خلفية تعطى تأثيرات الظروف على أجوائها.   

ونظرة إلى تاريخ علاقة العرب بالولايات المتحدة الأمريكية نجدها علاقة  شبه مأساة إغريقية ، فإن هذه العلاقة لو تُركت للمصادمات لانتهت بالدم – قتلاً أو انتحار للبطل – وكلاهما في الشأن السياسي محظور، لأن مهمة السياسة –في العصور الحديثة – وفى كل العصور – أن تمنع المأساة ، وتربط الصلة بين الإرادة والتاريخ !

مؤدى ذلك أن العلاقات العربية الأمريكية صراع لا يصح أن يُترك وشأنه. وإنما يلزم إداراته .. يُدار بالرشد، مع الوعي بأنه سوف يطول ويشتد ويزداد خشونة وقسوة.

فالأوضاع العربية الآن تحمل أصداء ذلك الأسى المضغوط في عبارة مأثورة عن الرئيس المكسيكي الأسبق " فار جاس " ( أوائل الثلاثينيات ) حين سُئٍلَ وبلاده غارقة في المشاكل عن " حقيقة أزمة المكسيك! " . وأطرق الرجل لحظة يفكر ثم قال مكرراً السؤال " أزمة المكسيك " ثم أضاف جوابه: " أزمتها أنها قريبة جداً بحدودها من الولايات المتحدة – بعيدة جداً بروحها عن الله "

وذلك ينطبق على أحوال كل الدول العربية اليوم: " قريبة جداً إلى درجة الالتصاق من الإمبراطورية الأمريكية – بعيدة جداً إلى درجة الانفصام عن أي عقل وفعل والبعد التام عن الله عز وجل !

فإذا كان الحديث عن حرب أمريكية  قد تمتد سنوات وسنوات وهى تنتقل من مكان إلى مكان ، أو إن كان الحديث عن العلاقات الدولية التي نشأت في أحضان هذه الحرب الممتدة مكاناً وزماناً فإن خير وصفاً لذلك كله وفى إيجاز هو ما يطلق عليه " قانون القوة " .. وهو قانون لا تكتمل معادلته بغير قانون آخر هو " قانون الضعف " ، فامتلاك القوة المفرطة – وهى الحالة الأمريكية – يغرى باستخدامها .. وامتلاك الضعف من قبل الآخرين يحدد مواقع الهجوم ومواطن استخدام القوة، وهو الحال أيضاً حين اختارت واشنطن نظاماً هشّاً وبلداً ممزقاً لتضربه في وسط آسيا ، ثم اختارت الوطن العربي ، وهو في أضعف أحواله ، لتهجم على العراق ، المكبل بالأغلال منذ سنوات طويلة ، والمنتزعة منه سيادته في أكثر من نصف الوطن تحت اسم "الحظر الجوى" وبما يخلق مناطق فراغ عسكرية تفتح الأبواب للغزاة عند اللزوم !

وحتى الآن مازالت المحاولة المستميتة لضرب قوى التغيير والتقدم في العالم العربي لم تتوقف، والسبب واضح وهو أن القصد من ذلك ليس معركة من ضمن المعارك، وليس رجلاً من ضمن الرجال. ولكنها فكرة " مستقبل " يخشاه الذين يحاولون إرغام الأمة على الركوع والقعود.. !   

فالقضية أوسع من ذلك بل هي قضية " إعادة تشكيل العالم –قراءة في الوثائق الأمريكية "، فما يجرى أوسع نطاقاً من قفزة إلى قلب آسيا، وقفزة إلى قلب الخليج العربي.. " قوى كبرى صاعدة، مثل: الصين والهند... وقوى كبرى قائمة ، مثل روسيا والاتحاد الأوربي " .

أمريكا تريد أن تقطع الطريق على هذه وتلك، ومن ثمَّ كانت حروبها المبكّرة احتكاراً للقوة وإرساء لمبدأ الهيمنة. كما وصف ذلك بعض الكتاب العرب والأمريكيون بأنه: الانتقال إلى حالة إمبراطورية، تكون فيها الولايات المتحدة شيئاً استثنائياً في التاريخ، ولا رادَّ – استغفر الله العظيم – لقضائها !!!

فكل شيء يساند فكرة "، إعادة تشكيل العالم " والتي لقيت خضوعاً دولياً في البداية ، لكن بوادر المقاومة كانت بادية أيضاً وبما يوحى لنا أننا أمام حالة متغيرة ، وأنه عالم – أو علاقات دولية – في طور التشكيل ، وإن أوحت لنا أمريكا بغير ذلك ، وإن قال الآخرون – وعلى استحياء – " آمين " .

فلو نظرنا إلى منطقة الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية ،- وبخاصّةٍ العالم العربي - نجدها قد تم اختراقها بالفعل حتى أصبحت كلها ثقوباً واسعة لا يسهل رتقها بالإبرة والخيط ، أو ترقيعها بالقصاصات.

كانت هذه المنطقة مساحة محشورة بالعقائد الدينية والقوميات والأقليات والطوائف المتغاضبة مع بعضها ، وكانت مزدحمة بالقبائل والأرياف والمدن المتفاوتة في درجات نموها وتطورها والمتنافسة فيما بينها كل منها يدعى لنفسه حقاً في حكمها بجاه الثروة ، أو بسند العصبية ، أو بدعوى التمدن ، أو بقهر السلاح .. . وهذا هو الأخطر ، ويتم ذلك بأنواع غريبة من التحالفات الأجنبية الظاهرة والخفية ، المعلنة وغير المعلنة ، الشرعية وغير الشرعية ، إلى آخر ذلك !

فالشرق الأوسط كان في حالة نزاعات وفتن ضاربة يقوم فيها الأجنبي بدور النار والزيت والماء في نفس الوقت ، فالخطوط تاهت وضاعت ، والمواقف تشتت وماعت ، واختلط الحابل بالنابل . وساد المنطقة – ومازال حتى هذه اللحظة يسودها – منطق غريب وهو منطق " التحالف مع الشيطان " وفى حالة أمَّة مخترقة فلم يكن العدو من الخارج فقط بل كان العدو من الداخل أيضاً والشيطان معه ، فتكون النتيجة أن " الأحلاف مع الشيطان " في المنطقة زادت وزادت همومها وأثقالها . . تعالوا معاً لنتعرف على دور المخابرات الأمريكية المركزية CIA في الانقلابات أو الثورات العربية. وحكاية أول انقلاب في العالم العربي وهو من صنع المخابرات الأمريكية CIA 

 

أول التحالف مع الشيطان

( 1 )

حكاية أول زعيم

مخطّطاتنا قيد التنفيذ في سوريا

1947-1949

" إذا لم تربح المباراة فَغيِّر اللاعبين "

هكذا قال مايلز كوبلاند في كتابه " لعبة الأمم " ، الذي صدر عام 1969ونال هذا الكتاب شهرة ذائعة وقد نقلت منه سائر المؤلفات العربية التي صدرت بعده وتعرضت بشكل أو آخر لنظام عبد الناصر ، أو للفترة التي تحدّث عنها المؤلف ، ولقد صدر قرار بمنعه من دخول مصر أيام عبد الناصر ولم يتغير القرار بعد وفاة ناصر وحتى أيام السادات وهو غير متاح للقارئ المصري وهو موجود الآن بصعوبة ،  

ومايلز كوبلاند هو : " أحد الذين ساهموا في تنظيم المخابرات الأمريكية كلها " ! .. وهو رئيس المخابرات الأمريكية في مصر .. إذ المعروف أن المخابرات الأمريكية لها وحدات إقليمية تسمى " محطة " ، ومصر في تلك الفترة كانت من أهم مراكز الشرق الأوسط كله ، وقيادة العالم العربي .

و " لعبة الأمم " هو اسم أطلق على جهاز أقيم في واشنطن في فترة من الوقت ، تابع للمخابرات الأمريكية ، كانت تجرى فيه " لعبة " أو مسرحية سياسية ، أو قُل فكرة شيطانية من ألاعيب المخابرات العالمية ، إذ يتقمص موظف ، شخصية زعيم من زعماء الدول التي تهم سياستها الولايات المتحدة ، وتجمع له الأجهزة كل المعلومات عن هذا الزعيم ، يوماً بيوم ، فضلاً عن تاريخ حياته منذ طفولته ، وعقده ، ومكونات نفسيته ، وثقافته ، وقراءاته وأبطاله ، ومستشاريه ومن ثمَّ تصبح مهمة هذا الرجل أن يتنبأ بردة فعل هذا الزعيم إزاء فعل من قبل الولايات المتحدة الأمريكية أو غيرها ..

وإذا كانت الإثارة هي في هذه الفكرة، أعنى قدرة هذه الشخصية على التنبؤ مقدماً بتصرف الزعيم الذي يمثله، فإن الأهمية أو العائد في نظري هو في اهتمام وقدرة الأجهزة، من خلال اللعبة، على تجميع المعلومات عن الزعيم موضوع الاهتمام.. وربما تكون هذه اللعبة قد لعبت دوراً في دفع الأحداث في عالمنا في اتجاه معين، من خلال دراسة شخصية الزعيم. ومعرفة مفتاح هذه الشخصية مثل حب المال أو النساء أو التمسك بالسلطة مهما كان الثمن، أو كراهية مزاحم على الزعامة سواء أكان هذا المزاحم من الداخل أو الخارج. أو معرفة نوعية العلاقة داخل المجموعة الحاكمة...  إلى آخر ذلك .

وإليك كلمة الناشر على غلاف كتاب " لعبة الأمم " وقد تكون فيها مبالغة، وإنما لا تصل إلى درجة الكذب أو الانتحال لأنها موجّهة للقارئ الأمريكي أولاً... 

" مايلز كوبلاند الذي كان موظفاً في وزارة الخارجية ، والرجل الذي ساعد في تنظيم المخابرات الأمريكية ، دبلوماسي سابق ورجل أعمال ، وخبير في شئون الشرق الأوسط ، وأحياناً لاعب في " لعبة الأمم " كَتَبَ كتاباً مُثيراً طريفاً عن الدبلوماسية الدولية السرية . ولكي يبرز فكرته عن لعبة الأمم اختار مستر كوبلاند واقعة تاريخية هي وصول عبد الناصر إلى السلطة ، حيث كان مستر كوبلاند لاعباً في هذه الدراما .. إنه يشرح كيف تدبر الانقلابات والاغتيالات والرشاوى، ويسمى الأشياء بأسمائها.. ويشرح كيف تعمل الأجهزة الأمريكية مع وضد بعضها ، ويشرح بالتفصيل الجانب التآمري والمخادع الذي تمارسه الأجهزة الحكومية غير الرسمية ( مثل نشاط السى آي ايه ) وأن هذا الجانب هو دائماً الأكثر فعالية وإن يكن مجهولاً من الرأي العام . كما يوضح كيف استطاع قائد مصر أن يطور فرعه الخاص بلعبة الأمم.

" لكل الذين يريدون معرفة كيف تدار السياسة الخارجية فعلاً يقدم مايلز كوبلاند كتاباً وثائقياً لا خيالات فيه ، أكثر إثارة من قصص الجواسيس الخيالية .

كتاب " لعبة الأمم " يكشف المناورات والألاعيب التي تميز سياسة الدول الكبرى ، ويكشف الأفعال السرية التي لا علاقة لها بما يقوله السياسيون والرسميون للشعب " .

وفى المقدمة يقول المؤلف إن المؤرخين يعجزون مثلاً عن تفسير " لماذا أحجم عبد الناصر عن شن الحرب على إسرائيل في ظروف كان النصر فيها محتملاً، بينما قاده بلاده إلى هزيمة محققة في 1967.." ويجاوب على تساؤله بأن المؤرخين لا يعرفون " القصة خلف القصة " أو ما وراء الستار، لأن هذه القصة السرية تحجب عنهم ".

والخلاصة نستطيع أن نقول أنها : أسرار أزمات سياسية بقيت في طيّ النسيان، عن شعب يعيش في غمرة الأوهام وآفاق الخيال يستمع إلى الأصوات دونما تعليق. من خلال كتاب "لعبة الأمم"  ، نفذ مايلز كوبلاند إلى الواقع وكشف النقاب عن كثير من الأسرار وخفايا الأمور والتستر بدبلوماسية ما وراء الكواليس فأظهر سلوك حكام ورجالات السياسة ، بصفته وسيطاً طارئاً.  يعد هذا الكتاب نموذجاً حياً للتاريخ يهدف إلى إزاحة الستار عن حقيقة ارتباطات الدول الكبرى بالدول المحدودة الإمكانيات التي نجحت أحياناً في إحراز نصر دبلوماسي على بعض الدول الكبرى وتمكنت مع الأيام في ممارسة دور أكبر من طاقتها في السياسة العالمية. فالقوى الحاكمة تطمح دائماً إلى النزاهة والاستقامة، وإضمار الغدر والخداع، وفيه التلاعب بالأمم والشعوب هذا هو جوهر "لعبة الأمم"، إنه كتاب لا يهدف إلى رَصّ الجُمل والألفاظ ولكن هدفه الأساسي رفع النقاب عن لعبة السياسة وعن دمى المسرح السياسي في العالم.

نعود لقصة مايلز كوبلاند عن البحث عن بلد ينفذون فيها انقلابهم .

 قال : " ولكن أين نبدأ ؟ لا يمكننا أن نبدأ في تركيا أو اليونان، فالبلدان حليفان لنا ويريدان ما نريده نحن، وقياداتهما تسهران على رعاية أهدافنا المشتركة. ولو كان هناك أي مجال لأن نكون في " لعبة " معهم فستكون " لعبة تعاون " وليس " لعبة صراع واختلاف " كما أننا لا يمكننا أن نبدأ في إيران لأننا في انسجام وتفاهم مع قيادتها ، وكانت نسبة التعاون في " لعبتنا " معها أكثر من تسعين بالمائة  ( وهذا في البداية على الأقل )  ونسبة الخلاف أقل من عشرة بالمائة . وبالتالي فلم يبقى أمامنا سوى العالم العربي، الذي بدأت الأمور تتفاقم بيننا وبينه، وزادت شقة الخلاف اتساعاً غير قليل. وكان ثانياً أن سبب هذا وجود قيادات طائشة مضللّة على رأس السلطة في تلك الأقطار، وأن استلام مقاليد الحكم من أشخاص ذوى ثقافة أوسع وإدراك أعمق سينقل هذه الأقطار العربية من صف المناوَاةَ إلى صف الموالاة لنا ، كما أن حذر العرب البالغ من السوفييت سيجعل الحماية الأمريكية لهم موضع ترحيب . فشركات البترول الأمريكية ستجعل منهم أغنياء قريباً . كما أن التوصل إلى التوصل إلى أية تسوية حول مشكلة فلسطين ستجعل منهم المستفيد الرئيسي لكل ما يتأتى منها . إلا أن إصرار حُكَّامهم يومها على رفضهم النظر في الأمور من خلال هذا المنظار ( المنظار الأمريكي ) كان قد اعتبر مُبرّراً كافياً للإطاحة بهم  - أو على الأقل تحريك شعوبهم وحثّها على الإطاحة بهم – وهكذا فقد كان وضع القيادات العربية في عام 1947 مبرراً كافياً للتدخل بشئون العالم العربي  كان  المفروض أن يكون العراق أول أهدافنا ، فحكومته بوليسية مكروهة . وكان من السهل علينا يومها أن نقنع أنفسنا أننا نقوم بعمل فيه خير كثير للعراق عندما نفسح المجال لمجئ حكومة أكثر شعبية وتأييداً . إلا أن الفريق المكلف بالتنفيذ فى العراق لم يستطع مباشرة ذلك دون علم البريطانيين وموافقتهم . ورفضت حكومة المملكة العربية السعودية كافة أقتراحتنا لتغيير طريقة الحكم فيها . وهكذا لم يعد لنا أية فرصة للتدخل فيها . كما أسقطنا من حسابنا التدخل بشئون لبنان والأردن ومصر لاعتبارات شتى . وبحساب البواقى  فإنه لم يبق أمامنا إلا سوريا . فقد كانت فى وضع اقتصادى مريح ، كما أن الحكمين التركى والفرنسى لم يفلحا فى إذلال شعبها وترويضه . ولهذا فقد كانت ظروف سوريا ملائمة جداً لإجراء انتخابات ديمقراطية ، تفسح المجال أمام مجموعة من الزعماء على شئ من الذكاء والحنكة والتعاون للوصول إلى سدة الحكم واستلام مقاليد الأمور . وأخيراً . فقد ظهر لنا جلياً أن الركائز التى تدعم  بقاء المجموعة السابقة من السياسيين فى الحكم ، وهم لا يمثلون الشعب حقاً ، لا تقْوى البتة على مجابهة الوسائل التى عزمنا على اتباعها هناك .

وفى الحقيقة لم يكن هناك مجال لاستخدام أى من أسلحتنا التى علَّمتنا التجارب والمحن بعد حينٍ استعمالها لعمليات أكثر دقة وأعمق أثراً . فقد كان الوضع أضعف مما توقعنا ، وكان يكفى القيام ببعض الوكزات اللبقة هنا وهناك لتشجيع بعض السياسيين المفضلين ليسلكوا طرقاً نزيهة فى حملاتهم الأنتخابية ، إلى جانب القيام بمراقبة عامة غير رسمية على إجراءات الاقتراع وضبط الأسماء على اللوائح ، بغية كشف حوادث الضغط والاحتيال واخبار المرشحين بها لفضحها والحيلولة دون وقوعها . ولم يكن من الممكن توفير كل هذا بواسطة رجال السلك الدبلوماسى ( مع أنه كان لهم القدرة على ممارسته ضغطاً كبيراً بقصد التنبيه والتحذير ) . ولذلك حاولنا أن نوفر ذلك عن طريق رجال الصحافة الأجنبية الذين وجهت لهم الدعوات بهذا القصد . وقام فريق من العملاء السريين بالمساعدة فى هذا المجال دون الظهور بمظهر المؤيدين للمرشحين المـــوالين لنا ، وكان جُل دورهم حث الشعب على انتخاب الرجال الوطنيين المخلصين . ولقد فوّتنا الفرصة على الحكام السوريين بخصوص توجيه انتقادات لتدخلنا هنا وهناك عن طريق قيام القائم بالأعمال الأمريكى بزيارة إلى وزارة الخارجية السورية ولفت النظر إلى اعتقادنا أن الأنتخابات السورية المقبلة ستكون محط أنظار جميع الأقطار المستقلة حديثاً ، ولهذا فأننا لا نتوقع وجود أى مانع من مراقبتنا لها . وقامت الشركات الأمريكية الخاصة ، بالتعاون مع أفراد الجالية الأمريكية وبعض الارساليات التبشيرية هناك ، بتوجيه تحذير لأؤلئك السياسيين الذين اعتادوا اللجوء إلى الضغط والإكراه لحمل المواطنين على الإدلاء بأصواتهم لصالحهم ( صالح السياسيين ) من مغبة مثل هذه الأعمال ، أو من الوقوف فى وجه إجراء أنتخابات حرة نزيهة يصوَّت فيها المواطنون لمن يريدون . كما وجهت تحذيرات مباشرة وغير مباشرة إلى كل من الإقطاعيين وأصحاب المعامل وزعماء الأحياء ، وحتى رؤساء مخافر الشرطة ، من إعاقة الشعب عن الإدلاء بأصواتهم بحرية تامة ، ومن القيام بأى اضطهاد داخلى أو تحيّز لن يترتب عنه سوى استنكار واسع النطاق لا يقل عن ذاك الذى لاقاه كل من الظلم التركى والتعسف الفرنسى . وتمكن رئيس إرساليات طائفة  الكنيسة الإصلاحية ( ميثودية ) أن ينتزع وعداً من أكبر اتحاد للمثقفين الأكراد بأنهم وزملائهم لن يقوموا باستغلال أصوات الأميين الأكراد ويكتبوا لهم على أوراق الاقتراع أسماء مرشحى الأتحاد .

وتضمنت تحركاتنا النقاط التالية :

1-    حملة قامت بها إحدى شركات البترول الأمريكية التى تأسس حديثاً وذلك بلصق إعلانات دعائية ضخمة فى الأماكن العامة تحضُّ السوريين على الإدلاء بأصواتهم واختيار المرشح الذى يريدونه لينعموا بالحرية بعد بضعة قرون من السيطرة الأجنبية . ومما أثار دهشة الشعب السورى أن تلك الدعايات لا تدعو إلى مرشح دون آخر .

2-    ترتيبات أعدت مع بعض مكاتب سائقى السيارات العموميى ( التاكسيات ) ليقوموا بنقل الناخبين مجاناً إلى أماكن الاقتراع شريطة أن يترفعوا عن أية هبات مغرية من المرشحين للتأثير على ركابهم من الناخبين أو لنقل المقترعين لصالح مرشح دون آخر .

3-    تزويد مراكز الاقتراع الرئيسية فى المدن بآلات أتوماتيكية لتسجيل الأصوات بحياد تام على أحدث طراز أمريكى ، حتى تغدو الأنخابات السورية كمثيلاتها فى أمريكا تماماً .

ثم يقول بعد ذلك : " " كان الوزير المفوض في السفارة هو " جيمس مايكل كيلي " والمسئول السياسي " دين هينتون " وعمره 24 سنة ، ورجل العملية في السفارة هو الماجور ستيفن مييد الذي سيعرف بعد ذلك باسم الكولونيل مييد ... أمّا مدير العمليات السرية فهو أنا " أي مايلز كوبلاند مؤلف هذا الكتاب  .. "

" أُرسلت إلى دمشق في سبتمبر 1947 بتعليمات لتنظيم اتصالات غير رسمية مع الرئيس القوتلى والشخصيات البارزة في الحكومة السورية ، لإقناعهم  " بتحرير النظام " . وقد نجحت في الجزء الأول من المهمة ، وهو خلق علاقات شخصية مع الرئيس ومعظم المسئولين ، أمّا النصف الآخر فقد فشلت ، إذ ثبت لنا أن القوتلى وجماعته غير مستعدين لتحرير النظام ، وأنهم سيستمرون على " عماهم " في مواجهة الانفجار السياسي الخطير الذي كان يخيم على الأفق . وقال " كيلي " ليس أمامنا إلا أحد خيارين، كلاهما غير مرغوب فيه، إما أن يقوم سياسيون انتهازيون بانقلاب دموي مدعوم من السوفييت، أو يستولى الجيش السوري على الحكم بدعم منا، ويحفظ النظام إلى أن نتمكن من تنفيذ ثورة بيضاء. وكان " كيلي " كارهاً للحل الثاني ، ولكنه قال إنه على الأقل سيحقن الدماء . ويقدم للعناصر الواعية في المجتمع فرصة عادلة، ضد العناصر المشاغبة، وكانت العملية هي انقلاب حسنى الزعيم في 30 مارس 1949. إذ قام " فريق عمل " بقيادة الماجور مييد بتنمية علاقة صداقة مع حسنى الزعيم الذي كان وقتها رئيس أركان الجيش السوري ، واقترح عليه فكرة الانقلاب ، ونصحوه بطريقة التنفيذ وأرشدوه خلال الترتيبات والإعداد للانقلاب ..... كانت المساهمة في الحدود التي أثارت شك القيادات السياسية السورية وحدها.. والتي استبعدت بعد ذلك باعتبارها من الوسوسة السورية التقليدية .. كما جاء في تقارير الصحفيين الغربيين والطلبة الذين استجوبوا الأطراف المعنية، وفحصوا الوثائق فبالنسبة للعالم الخارجي كان الانقلاب عملية سورية كاملة، ولو أن المعنيين استنتجوا فيما بعد – وعن حق – أن " الزعيم " هو غلام أمريــــــــــــــكا...." 

" إن تفاصيل تنفيذ الانقلاب لا تهم موضوعنا ولكن هذه بعض الملاحظات: " أبلغت وزارة الخارجية الأمريكية بالانقلاب القادم عندما أصبح احتمالاً جدياً. وإذا كانت التفاصيل لم تُبلغ، فلأن وزارة الخارجية هي التي قالت إنها تفضل ألا تُحاط بالتفاصيل. كذلك تم " تجاهل " تدخلات " جماعة الماجور مييد " الممهدة للانقلاب . وكان رد وزارة الخارجية: إذا كان " الزعيم " يميل لتغيير الحكومة، فإن وزارة الخارجية لا ترى سبباً لتثبيط همته، طالما تعتقد أنه سيعود للحياة البرلمانية متى أصبح ذلك ممكناً من الناحية العملية "

" ولكن الزعيم لم يكن ينوى ذلك، فقد أوضح لنا أن أهدافه هي:

1-    وضع السياسيين الفاسدين في السجن .

2-    إعادة تنظيم الحكومة على نحو أكثر فعالية .

3-    إجراء الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية المطلوبة

4-    القيام بعمل بَنَّاء حول المشكلة العربية الإسرائيلية "  .

وكانت هذه النقطة ( إسرائيل ) هي الكفيلة بإذابة أية معارضة ممكنة من وزارة الخارجية ( الأمريكية ) " . . ." اعتقدنا في المفوضية الأمريكية أننا فتحنا باباً للسلام ، فقد كانت استجابة الزعيم " لاقتراحاتنا الودية "  قبل الانقلاب إيجابية إلى درجة لم يخطر معها ببالنا، أن الأشياء ستتغير فيما بعد ، وقد استمر الحال كذلك إلى أن وصل الاعتراف الرسمي من حكومتنا ، وقد يبدو مثيراً أن أقول إن المارجو ميدي ، قضى اليوم الثاني للانقلاب في تعريف الزعيم : مَن يجب أن يكون سفيره في لندن وَمَن مِن الضباط يجب وضعه في مناصب دبلوماسية ، وما الغذاء الذي يجب أن يقدم للرئيس القوتلى في السجن لكي لا تتهيج قرحته . ولكن فور الاعتراف انقلب " الزعيم " إلى رجل آخر وبدأ ذلك بأن أبلغني أنا ومييد بضرورة أن نهب واقفين إذا ما دخل علينا ، وألا نخاطبه بلفظة أنت ، - وهو أي الزعيم لا يعرف إلا الفرنسية – بل بضمير أنتم أو نقتصر على : " سعادتك " وباستثناء هذه الأمور الثانوية فلقد بقيت علاقتنا معه ودية لآخر أيامه ، ألا أنه بدأ يتضح لنا أننا قد أغفلنا أمراً ضرورياً جداً عند رسم خططنا ، وأن الوقت قد حان لبدء البحث عن رجل آخر يحل محل حسنى الزعيم الذي لا محالة قد اقترب من نهايته "

" لقد أكدت حادثة حسنى الزعيم لكل من اهتم بدراستها أن عمالة أي حاكم لدولة عظمى – حتى ولو كانت من أقوى دول العالم – لا تكفى لضمان بقائه في الحكم واستمراره في السلطة. وليس هناك أي سحر أو فن في تقرير هذه الحقيقة ، فما كانت ميكانيكية قيادته لتنطوي على أية براعة أو حسن صنعة مع إصراره على طريقتها وتشبثه بها ، فلم تتح له فرصة ليلم بالنظرية الحديثة لفن القيادة كما أنه لم يقتنع أن مهمة الحاكم الرئيسية هي أن يضع مرؤوسيه في ظروف لا يجدون فيها مهرباً من تأييد وإتباع توجيهاته ....... "

تصرف المبتدئون الأمريكان مع " حسنى الزعيم " تصرف رجال المافيا مع " البرافان " الذي يضعونه في مواجهة شركاتهم . أو مع رئيس جمهورية الموز الذي تعينه الشركة الأمريكية من خلال انقلاب عسكري. المدرب الأمريكي يعطيه التعليمات ابتداءً من ترشيح السفراء واعتقال الضباط إلى قائمة طعام الرئيس في السجن. وكما رأينا لم يقتصر الحديث على الكبة النَيّة وحدها ، فليس بالخبز وحده يحيا الأمريكان ، حدّثوه عن إسرائيل واستجاب ، وعن التابلاين ووقع وصدق ، ونفهم من سياق القصة ، أنهم كانوا يجلسون وقد مَدّوا أقدامهم على الطريقة الأمريكية ورئيس جمهورية سوريا وزعيم انقلابها وديكتاتورها ومعتقل زعمائها ، وخالب لب الغوغاء والمغفلين من الشباب العربي ، لأنه ثأر لهم من الخيانة ، ورفع كرامة الجيش السوري ... الخ هذا الزعيم يدخل فلا يتحرك المدرب الأمريكي ولا يكلف نفسه الوقوف لرئيس جمهورية أو رئيس وزراء سوريا، بل لعله كان يضع حذائه في وجهه، كما كان المندوب البريطاني يفعل مع فيصل الأول ملك العراق. ولكن كان على الأمريكان أن يتعلموا أن الكرسي له ثقله ، وأن سوريا في 1947 غير العراق في 1920 – ولذلك ثارت كرامة " الزعيم " وطالبهم على الأقل بالوقوف عندما يدخل عليهم ليوقع اتفاقية التابلاين أو ضم لبنان ، أو اعتقال السياسيين الفاسدين مطايا الاستعمار ...وثارت حمية الضباط لكرامة الجيش والدولة مع قليل من المنشطات البريطانية ، فتلوا الزعيم وجاء الحناوى انجليزياً ، لينقلب عليه الشيشكلى .. ..

يكفى أن نتذكر أن زعيماً عربياً ثورياً جاء بهذه الطريقة وعومل بهذه الطريقة .. ولكنه فشل في أن يستمر في الحكم لأسباب عديدة شديدة التعقيد ، أولها سوريا ذاتها ، وآخرها أنه لم يكن له تنظيم في الجيش السوري ، بقية قصة الزعيم معروفة :

" وفى صبيحة الرابع عشر من شهر آب ( أغسطس ) قامت مجموعة من أصدقائه الضباط ، بقيادة سامي الحناوى أسماً وأديب الشيشكلى فعلاً ، بمحاصرة بيته وقتله ثم دفنه في المقبرة الفرنسية . ولقد أخبرني الشيشكلى بعدها أنه كان لبقاً معناً ، إذ عامل حسنى الزعيم على أساس أنه عميل فرنسي " .

واستمرت الجماهير السورية تهتف لسنوات طويلة : " بدّنا نحكى ع المكشوف " وهم لا يدرون أن زعمائهم " الثوريين " يمارسون ذلك منذ وقت مبكر جداً ولكن .. مع الأمريكان !

فشل فى سوريا وَأمل فى مصر

1951- 1952

" ابحث عن لاعب حقيقى وليس مخلب قط "

هذا عنوان الفصل الذى يتحدث فيه عن عمليتهم فى مصر . انقلاب سوريا أمريكانى ..وانقلاب فرنسا أمريكانى ... أما انقلاب مصر فهى أم الدنيا !

" عندما تتعارض " الأخلاق " مع مصالحنا الحيوية ، فإن الخسارة ستكون بالتأكيد من نصيب الأخلاق ، بمعنى أننا لا نتردد فى إزاحة القائد الذى نعتقد أننا سنخسر معه ، وأن هذه الخسارة ستضر مصالحنا الوطنية ، لنضع مكانه قائداً ، تكون لدينا معه فرصة أكبر للتعاون . وكانت وجهة نظر الأمريكيين – وإلى حد ما البريطانيين – أنه من بين كل نماذج القيادات التى يمكن أن تظهر فى أفريقيا وأسيا ، فإن النموذج الناصرى هو الطراز الذى يتيح لنا أكبر فرصة لكسب لعبتنا ، أو على الأقل ، تقليل الخسائر . فاحراز مكسب ضد واحد من زعماء سوريا الدجالين ، هو نصر أجوف ، لأنه سرعان ما سيقلب ، ويحل محله شخص أسوأ . أما ناصر فهو الذى بوسعه أن يتحمل الخسارة ، ويستطيع إلى حد ما أن يتلائم مع نصرنا بحيث لا يصبح من الضرورة هزيمة له "

تماماً كما حدث فى هزيمتى سيناء 1956 و1967 ، وانتكاسة ثورة العراق ، والانفصال وحرب اليمن " إنه يستطيع أن يتخذ قراراً غير شعبى نكسب منه الاثنين ، بينما جماهيره تراه بمنظار آخر ... مثل عقد صلح مع إسرائيل " . وهكذا تحددت خريطة العمل السياسى الأمريكى المطلوب فى الشرق الأوسط : قلب الحكومات القائمة ، وفَرض حكومات جديدة تتفق والمواصفات المطلوبة ... وهى : زعيم يحكم حكماً مطلقاً وله من الشعبية ما يمكنه من فرض القرارات وإجراءات أو بمعنى أصح قبول طلبات الأمريكان التى يرفضها شعبه ، والتى يعجز أى سياسى آخر فى طروف عادية من طرحها على الشعب " 

اكتفى بهذا القدر والبقية تأتى ان شاء الله

المصدر: كتاب " لعبة الأمم " مايلز كوبلاند ترجمة مروان خير وكتاب ثورة يوليو الأمريكية لمحمد جلال كشك طبعة الزهراء لإعلام العربى ، كتاب سفر الموت لمحمود مراغى ن مكتبة الأسرة ، [ الانفجار ، حرب الخليج نشر الأهرام ، اإمبراطورية الأمريكية ، دار الشروق لمحمد حسنين هيكل ]

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

11,969