أنهى أبناؤنا الطلاب اختباراتهم، وبذلوا جهدهم، فمستقلٌّ ومستكثِرٌ، وكانت الأُسَرُ في الأسابيع الماضية في حالة تأهُّب قصوى، وقد حصد كل مجتهد ما زرع، ومن حقِّ أبنائنا علينا أن يُرفِّهُوا عن أنفسهم بعد التعب والنصب.
والنشاط الترويحي ضروري للبدن؛ ولذا جاء في قصة حنظلة رضي الله عنه، "قال: لقيني أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله! ما تقول؟! قال قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يُذكِّرُنا بالنار والجنة حتى وكأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فوالله، إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقتُ أنا وأبو بكر الصديق حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما ذاك؟))، قلت: يا رسول الله، نكون عندك تُذكِّرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيرًا، فقال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم؛ ولكن يا حنظلة ساعة وساعة -ثلاث مرات-))؛ رواه مسلم.
ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم من عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما زيادة في التعبُّد على حساب حاجات أخرى، أمره بالتوازن، فقال: ((صُمْ وأفطر، وقُم ونَمْ، فإن لجسدك عليك حقًّا، وإن لعينك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا))؛ رواه البخاري.
وقد جاءت الآثار عن الصحابة للتأكيد على هذا المفهوم، فقال عليٌّ رضي الله عنه: "أجموا هذه القلوب، والتمسوا لها طرائف الحكمة؛ فإنها تملُّ كما تملُّ الأبدان"، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "أريحوا القلوب؛ فإن القلب إذا أكره عمي"؛ بهجة المجالس؛ لابن عبدالبر، ص 44.
إلا أن هذا لا يعني أن يغلب الترفيه الجد في حياة المسلم؛ بل الغالب على المسلم أن يكون جادًّا منتجًا، والترفيه طارئ، كما أن الترفيه له أهداف رئيسية وأهداف جانبية.
ولهو الصغار وتلعيبهم في بعض الأوقات من الوسائل التي تُقرِّب الأُسَر بعضها من بعض، وتُعيد للأجسام نشاطها؛ ولذا فإن جميع النُّظُم التعليمية تفرض إجازات بعد الامتحانات.
ولتتأمَّل أخي القارئ كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما تزوَّج عائشة رضي الله عنها كانت صغيرةً في السن؛ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يُعطيها حقَّها من اللهو، فقد أذن لها برؤية الحبشة وهم يلعبون بالحراب في المسجد؛ رواه البخاري (5190)، ومسلم (892).
ومن الأساليب التي يستعملها السلف لتفريح الصغار إحضار اللعابين للطفل عند الحاجة، كما إذا كان مريضًا أو قريب عهد بختان؛ فقد ورد عن عكرمة قال: ختن ابن عباس بنيه، فأرسلني فجئته بلعابين فلعبوا، وأعطاهم أربعة دراهم؛ رواه ابن أبي الدنيا في العيال 2 /788.
والختان عندهم كان في سن متقدمة؛ كالسابعة، وبعضهم يُؤجِّل الختان إلى الثالثة عشرة.
وما أجمل أن يكون تفريح الصغار بهدايا نافعة؛ كأجهزة الحاسب الآلي، مع البرامج المفيدة، أو اشتراك في قنوات الأطفال الهادفة، أو شراء مكتبة تزيد من ثقافتهم، أو أدوات رياضية تقوي أبدانهم!
وأما أجهزة الألعاب الإلكترونية الحديثة، فيجب التعامل معها بحذرٍ شديد، ففي بعض الألعاب ما يدعو للعنف والاستخفاف بالسلطات الأمنية، ويحسن القتل والتفجير والأعمال الإرهابية، وفيها ما يهدم القيم والأخلاق، فإن كان ولا بدَّ، فليكن شراء الأشرطة تحت إشراف وليِّ الأمر.
وما أحسن الخروج بالأولاد للنزهة في أجواء الشتاء الجميلة، على سواحل البحار النظيفة، وفي الصحاري الذهبية! فيتعلم الأولاد الاعتماد على أنفسهم والتغيير بالسفر فيه مصلحة واضحة جلية؛ قال الشافعي:
ما في المقام لذي عقل وذي أدبِ من راحة فَدَعِ الأوطانَ واغتربِ سافر تجد عِوَضًا عمَّن تُفارِقُه وانصبْ فإنَّ لذيذَ العيش في النصبِ إني رأيت وقوف الماء يُفسِدُه إنْ سالَ طابَ وإن لم يَجْرِ لم يطبِ الأُسْدُ لولا فِراقُ الغاب ما قنصت والسَّهْمُ لولا فِراقُ القوس لم يصبِ والشمس لو وقفت في الفلك دائمةً لملَّها الناس من عجم ومن عربِ والبدرُ لولا أفولٌ منه ما نظرت إليه في كل حين عين مرتقبِ والتِّبْرُ كالتُّرْبِ مُلقًى في أماكنه والعُودُ في أرْضِه نوعٌ من الحَطَبِ فإن تغرَّبَ هذا عزَّ مطلبُه وإن أقام فلا يعلو على رتبِ |
وقال:
الكحل نوع من الأحجار منطرحًا في أرضه كالثَّرى يرى على الطرقِ لما تغرَّب نال العِزَّ أجمعه فصار يحمل بين الجفن والحدقِ |
ولكن العاقل من يتَّعِظ بسفره، ويجعل سياحته تُقرِّبُه لربِّه، وتزيد من إيمانه ومعرفته وثقافته، ولما أراد أعداء ابن تيمية طرده من بلاده، قال يرحمه الله: "ما ينقم مني أعدائي، أنا جنَّتي في صدري، قتلي شهادة، وتسفيري سياحة، وسجني خلوة".