اللعب - كما قيل - ربيع الأطفال، ولا بد للطفل من أخذ حظه وحصته من اللعب؛ ولذا فإن من مهام المربِّي إتاحة فرصة اللعب للطفل؛ لتنمو قدراته ويستعمل خياله الواسع، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم على كثرة أعماله؛ من تبليغ الناس رسالة ربِّه سبحانه وتعالى، وإدارة للدولة الإسلامية، والقضاء بين الناس وتعليمهم والإصلاح بينهم، مع ذلك كله كان لا يغفل أمر اللعب مع الصغار ومحاكاتهم في طريقة تفكيرهم، فنجد في سيرته صلى الله عليه وسلم أنه كان يداعب الصغار ويلاعبهم، فمن الأمثلة التي حفظتها لنا كتب السنة ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه «أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاءَ، فأخذ الحسنُ والحسين يركبان على ظهره، فلما جلس وضع واحدًا على فخذه، والآخر على فخذه الأخرى...»؛ (أخرجه أحمد 2/ 513 )، وهي عادة ملحوظة للصغار إذا رأوا الأب أو الأم في الصلاة، فإنهم يثبون على ظهره لعدم معرفتهم للصلاة وحرمتها، ومع ذلك نجد نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم يقبل فعلهما؛ بل ويداعبهما حال الجلوس بوضعهما على فخذيه صلى الله عليه وسلم.
ويبدو أن هذا الأمر يتكرَّر كثيرًا، ففي حديث شداد بن الهاد رضي الله عنه أنه رأى الحسن أو الحسين على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ساجد، فأطال السجود، فلما قضيت الصلاة قال الناس: يا رسول الله، إنك سجدت بين ظهراني صلاتك هذه سجدةً قد أطلتها؛ فظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك، قال: ((فكل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أُعجله حتى يقضي حاجته))؛ (رواه أحمد 3/ 493، والنسائي 2/ 229، والحاكم 1/ 287، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي)، ولاحظ أخي القارئ الكريم كيف أنه صلى الله عليه وسلم كره أن يحزنه، وأطال السجود من أجله!
وقد كان بعض الصحابة يظن أن هذا الأمر يزعج النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فيحاولون منع الصغيرين من الوثوب على ظهره صلى الله عليه وسلم حال السجود، فينهاهم، ويفديهما بأبيه وأمِّه، ويدعو لمحبَّتهما؛ ففي حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي والحسن والحسين يَثِبانِ على ظهره، فيأخذهما الناس، فقال: ((دعوهما بأبي هما وأمي، من أحبَّني فليحب هذين))؛ (رواه ابن حبان كما في الموارد 2233، والطبراني في الكبير3/ 40، والبيهقي في الكبرى مرسلًا 2/ 263، ورواه أبو يعلى بمعناه 8/ 434، وحسَّنه الشيخ مصطفى العدوي في فقه تربية الأطفال/ 71).
وقد كان صلى الله عليه وسلم كثير الملاعبة للصبيان لدرجة أنه انتشر بين الصحابة ذلك، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان من أفكه الناس مع صبي[1].
وكان الرعيل الأول من السلف الصالح ينكرون على من ينهى الأطفال عن اللعب دون مسوغ، فقد ورد عن الحسن أنه دخل منزله وصبيان يلعبون فوق البيت، ومعه عبدالله ابنه، فنهاهم، فقال الحسن: "دعهم؛ فإن اللعب ربيعهم"؛ (رواه ابن أبي الدنيا في العيال 2/ 791).
وقد وصل الأمر عند السلف لدرجة اعتبار عدم ملاعبة الصغار قدحًا في رحمة الرجل، وسببًا لعزله، فقد عزل عمر واليًا؛ لأنه لا يلاعب أطفاله (عبقرية عمر؛ للعقاد ص173)، وهذا يدل على أن الهيبة المصطنعة لمن يتعيَّن في منصب، لا توافق الهدي الإسلامي الصحيح.
وضابط اللعب عندهم ما كان في فضاء المباح، ولم يدخل في دائرة الحرام، ودليله قول إبراهيم النخعي: كانوا يرخصون للصبيان في اللعب كله إلا بالكلاب؛ (رواه البخاري في الأدب المفرد برقم 1297، وابن أبي الدنيا في العيال 2/ 798).
وما أحسن ما نقله ابن مفلح عن ابن عقيل الحنبلي أنه قال: «والعاقل إن خلا بأطفاله خرج بصورة طفل ويهجر الجد في ذلك الوقت»! (الآداب الشرعية 3/ 228).
[1] روى الطبراني في الأوسط: (6361): حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ خَالِدٍ الْحَرَّانِيُّ، نا أَبِي، نا أَبِي، نا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَفْكَهِ النَّاسِ مَعَ الصَّبِيِّ»، وقال عقبه: لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ إِلَّا عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ، تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ، وَلَا يُرْوَى عَنْ أَنَسٍ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ"، قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: (1/ 482): (ورَوَاهُ الْحسن بن سُفْيَان فِي مُسْنده من حَدِيث أنس دون قَوْله «مَعَ نِسَائِهِ» . وَرَوَاهُ الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِي ّ فِي الصَّغِير والأوسط فَقَالَا «مَعَ صبي»، وَفِي إِسْنَاده ابْن لَهِيعَة).