روى ابن المبارك في كتابه الجهاد (ص:144) عن السَّرِيِّ بن يحيى، عن ثابتٍ البُناني: أن فتًى غَزا زمانًا وتعرض للشهادة فلم يُصبها؛ فحدَّث نفسه، فقال: والله ما أراني إلا لو قفَلتُ إلى أهلي فتزوجت.
قال: ثم قال في الفسطاط، ثم أيقظه أصحابه لصلاة الظهر، قال: فبكى حتى خاف أصحابُه أن يكون قد أصابه شيء، فلما رأى ذلك قال: إني ليس بي بأس، ولكنه أتاني آتٍ وأنا في المنام، فقال: انطلِق إلى زوجتك العَيناء.
قال: فقمتُ معه، فانطلق بي في أرض بيضاءَ نقية، فأتينا على رَوضة ما رأيتُ روضة قطُّ أحسنَ منها، فإذا فيها عشرُ جَوارٍ ما رأيت مثلهن قط ولا أحسنَ منهم، فرجوتُ أن تكون إحداهن، فقلتُ: أفيكنَّ العيناء؟ قلن: هي بين أيدينا، ونحن جواريها.
قال: فمضيت مع صاحبي، فإذا روضة أخرى يضعف حسنُها على حسن التي تركتُ، فيها عِشرون جارية يُضاعف حسنهن على حسن الجواري اللاتي خلَّفت، فرجوتُ أن تكون إحداهن، فقلت: أفيكن العيناء؟ قلنَ: هي بين أيدينا، ونحن جواريها. حتى ذكر ثلاثين جارية.
قال: ثم انتهيتُ إلى قبة من ياقوتةٍ حمراءَ مجوفة، قد أضاء لها ما حولها، فقال لي صاحبي: ادخل، فدخلتُ فإذا امرأةٌ ليس للقبة معَها ضوء، فجلستُ فتحدثت ساعة، فجعلَت تحدثني، فقال صاحبي: اخرج انطلق، قال: ولا أستطيع أن أعصيَه، قال: فقمتُ فأخذت بطَرَف ردائي، فقالَت: أفطِر عندَنا الليلة، فلما أيقظتُموني رأيتُ أنَّما هو حلم، فبكيت.
فلم يلبَثوا أن نودي في الخيل، قال: فركب الناس، فما زالوا يتَطاردون حتى إذا غابت الشمس وحلَّ للصائم الإفطار أصيبَ تلك الساعة، وكان صائمًا وظننتُ أنه من الأنصار، وظننت أنَّ ثابتًا كان يَعلم نسَبَه".
وقد أخرجه هَنَّاد بن السَّري الكوفي في الزهد (ص:59) [وانظر: تهذيب الكمال (33/86) للمزي، والتبصرة (2 /213) لابن الجوزي، والدر المنثور (7 /721) للسيوطي]، عن ثابت البناني قال: كنتُ عند أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، فقَدم عليه ابنٌ له مِن غَزاة، يقال له: أبو بكر، فسأله ثم قال: ألا أخبرك عن صاحبنا فلان! بينما نحن في غزاةِ فلان قابلين، إذ ثار وهو يقول: واأهلاه وأأهلاه!
فنزَلنا وظننَّا أن عارضًا عرض له، فقلنا: له، فقال: إني كنت أحدِّث نفسي أن لا أتزوج حتى أُستشهَد فيزوجني الله تبارك وتعالى الحور العين، فلما طالت عليَّ الشهادة، حدثتُ نفسي في سفري هذا إن أنا رجَعتُ تزوجت.
فأتى آتٍ فقيل لي - في منامي -: أنت القائل: إن رجعتُ تزوجت؟! قم قد زوَّجَك الله إليَّ، فانطلَق بي إلى روضة خضراء مُعشِبة فيها عشرُ جوار، في يد كل واحدة صَنعةٌ تَصنعها، لم أر مثلَهن في الحسن والجمال، قلت: فيكنَّ العيناء؟ قلن: لا، نحن مِن خدمها، وهي أمامك.
فانطلقتُ فإذا أنا بروضة أعشبَ مِن الأولى وأحسن، فيها عشرون جارية في يد كل واحدة صَنعة تصنعها، ليس العَشرُ إليهن بشيء في الحسن والجمال، قلتُ: فيكن العيناء؟ قلن: لا، نحن من خدمها، وهي أمامك.
فمضيتُ فإذا أنا بروضة أخرى أعشب من الأولى والثانية وأحسن، فيها أربعون جارية في يدِ كل جارية صنعة تصنعها، ليس العشر والعشرون إليهن بشيء في الحسن والجمال، قلتُ: فيكن العيناء؟ قلن: لا، نحن من خدمها، وهي أمامك.
فإذا أنا بياقوتة مجوفة، فيها سريرٌ عليه امرأة، قد فضل جنباها السرير، فقلتُ: أنت العيناء؟ قالت: نعم، فذهبتُ لأضع يدي عليها، قالَت: مه! إنَّ فيك شيئًا من الرُّوح بعد، ولكن فطورك عندنا الليلة.
قال: فما فرغ الرجل من حديثه؛ حتى نادى منادٍ: يا خيل الله اركبي!
قال: فجعلتُ أنظر إلى الرجل، وأنظر إلى الشمس، ونحن في مَصافِّ العدو، وأذكر حديثه، فما أدري أيهما؛ رأسه ندر أوَّل، أو الشمس سقطَت أول؟!
وأخرجها أبو بكر محمد بن عبدالله بن إبراهيم الشافعي في كتابه الفوائد الشهير بالغيلانيات (1 /678 - محققة) عن ثابت البُناني قال:
"كنتُ عند أنس بن مالك رضي الله عنه إذ قدم عليه ابنٌ له من غَزاة له، يُقال له: أبو بكر، فسأله قال: ألا أخبرك عن صاحبنا فلان؟ بينا نحن قافلين في غزاتنا إذ ثار وهو يقول: وا أهلاه، وا أهلاه! فثُرنا إليه، وظنَنَّا أن عارضًا عرض له، فقلنا: ما لك؟ فقال: إني كنت أحدث نفسي أن لا أتزوج حتى أستشهد، فيزوجني الله تعالى من حور العين، فلما طالت عليَّ الشهادة، قلتُ في سفري هذا: إن أنا رجعتُ هذه المرةَ تزوجت.
فأتاني آتٍ قُبيلُ في المنام، فقال: أنت القائل: إن رجعت تزوجت؟ قم، فقد زوجك الله العيناء، فانطلقَ بي إلى روضة خضراء معشبة، فيها عشر جوار بيد كل واحدة صنعة تصنعها، لم أر مثلهن في الحسن والجمال، فقلت: فيكن العيناء؟ فقلن: نحن من خدمها، وهي أمامك.
فمضيت، فإذا روضةٌ أعشبُ من الأولى وأحسن، فيها عشرون جارية، في يد كل واحدة صنعة تصنعها، ليس العشر إليهن بشيء في الحسن والجمال، قلتُ: فيكن العيناء؟ قلن: نحن من خدمها، وهي أمامك.
فمضى، فإذا أنا بروضة، وهي أعشب من الأولى والثانية في الحسن، فيها أربعون جارية في يد كل واحدة منهن صنعة تصنعها، ليس العشر والعشرون إليهن بشيء في الحسن والجمال، قلتُ: فيكن العيناء؟ قلن: نحن من خدمها، وهي أمامك.
فمضيت، فإذا أنا بياقوتة مجوفة، فيها سرير عليه امرأة، قد فضل جنباها السرير، قلتُ: أنت العيناء؟ قالت: نعم، مرحبًا، فذهبت أضع يدي عليها، قالت: مه! إن فيك شيئًا من الروح بعد، ولكن تفطر عندنا الليلة.
قال: فانتبهتُ.
قال: فما فرغ الرجل من حديثه حتى نادى المنادي: يا خيل الله اركبي.
قال: فركبنا، فصافنا العدو، قال: فإني لأنظر إلى الرجل، وأنظر إلى الشمس، وأذكر حديثه، فما أدري رأسه سقط أم الشمس سقطت؟".
وذكر إسماعيل حقي في تفسيره روح البيان (3 /390 - 391) [وانظر: الزواجر لابن حجر الهيثمي] عن الشيخ عبدالواحد بن زيد قُدِّس سرُّه، قال: بينما نحن ذات يوم في مجلسنا هذا، قد تهيَّأنا للخروج إلى الغزو، قد أمرت أصحابي بقراءة آيتين، فقرأ رجل في مجلسنا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾ [التوبة: 111]، إذ قام غلام في مقدار خمسَ عشرة سنة أو نحو ذلك، وقد مات أبوه وورَّثه مالاً كثيرًا.
فقال: يا عبدالواحد بن زيد، ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾! فقلتُ: نعم حبيبي، فقال: إني أشهدك أني قد بعتُ نفسي ومالي بأن لي الجنة.
فقلت له: إن حدَّ السيف أشدُّ من ذلك، وأنت صبي، وإني أخاف عليك أن لا تصبر، أو تعجز عن ذلك.
فقال: يا عبدالواحد، أبايع الله بالجنة ثم أعجز! أشهد الله أني قد بايعتُه، أو كما قال رضي الله عنه.
قال عبدالواحد: فتقاصَرَت إلينا أنفسُنا، وقلنا: صبيٌّ يَعقل، ونحن لا نعقل!
فخرج من ماله كلِّه وتصدَّق به، إلا فرسه وسلاحه ونفقته، فلما كان يوم الخروج كان أول مَن طلع علينا.
فقال: السلام عليك يا عبدالواحد.
فقلت: وعليك السلام، رَبح البيع إن شاء الله!
ثم سِرنا وهو معنا يصوم النهار، ويقوم الليل، ويخدمنا ويخدم دوابَّنا، ويحرسنا إذا نمنا.
حتى إذا انتهينا إلى دار الروم، فبينما نحن كذلك إذا به قد أقبل وهو ينادي: واشوقاه إلى العيناء المرضية!
فقال أصحابي: لعله وسوس هذا الغلام واختلط عقله!
فقلت: حبيبي وما هذه العيناء المرضية؟
فقال: قد غفوتُ غفوة فرأيتُ كأنه قد أتاني آت، فقال لي: اذهب إلى العيناء المرضيَّة، فهجم بي على روضةٍ فيها بحرٌ من ماء غيرِ آسن، وإذا على شاطئ النهر جَوارٍ عليهن من الحلل ما لا أقدر أن أصفه، فلما رأينَني استبشَرْن بي، وقلن: هذا زوج العيناء المرضية.
فقلت السلام عليكن: أفيكن العيناء المرضية؟ فقلن: لا، نحن خدمها وإماؤها، امض أمامك.
فمضيت أمامي، فإذا أنا بنهر من لبن لم يتغيَّر طعمه، في روضة فيها من كل زينة، فيها جوار لما رأيتُهن افتتنتُ بحسنهن وجمالهن، فلما رأينني استبشرن، وقلن: والله هذا زوج العيناء المرضية.
فقلت: السلام عليكن أفيكن العيناء المرضية؟ فقلن: وعليك السلام يا ولي الله! نحن خدمها وإماؤها، فتقدَّم أمامك.
فتقدمت فإذا أنا بنهر من خمر، وعلى شط الوادي جوار أنسينني من خلَّفتُ، فقلت: السلام عليكن أفيكن العيناء المرضية؟ قلن: لا، نحن خدمها وإماؤها، امضِ أمامك.
فمضيت فإذا أنا بنهر آخرَ من عسل مصفًّى أمامي، فوصلتُ إلى خيمة من درة بيضاء، وعلى باب الخيمة جارية عليها من الحلي والحلل ما لا أقدر أن أصفه، فلما رأتني استبشرت بي ونادت من الخيمة: أيتها العيناء المرضية! هذا بعلك قد قدم.
قال: فدنوت من الخيمة ودخلت؛ فإذا هي قاعدة على سرير من ذهب مكلل بالدر والياقوت، فلما رأيتها افتتنتُ بها وهي تقول: مرحبًا بك يا ولي الله! قد دنا لك القدوم علينا، فذهبتُ لأعانقها.
فقالت: مهلاً؛ فإنه لم يأنِ لك أن تعانقني؛ لأن فيك روحَ الحياة، وأنت تفطرُ الليلة عندنا إن شاء الله تعالى.
فانتبهت يا عبدالواحد! ولا صبر لي عنها.
قال عبدالواحد: فما انقطع كلامنا حتى ارتفعَت لنا سَريَّة من العدو، فحَمل الغلام فعدَدت تسعةً من العدوِّ قتَلَهم، وكان هو العاشر، فمررتُ به وهو يتشحط في دمه، وهو يضحك ملء فيه؛ حتى فارق الدنيا!
ولله دَرُّ القائل:
يا مَن يُعانق دُنيا لا بقاءَ لها يُمسي ويصبح مغرورًا وغرَّارا هلاَّ تركتَ مِن الدنيا معانَقةً حتى تُعانق في الفردوس أبكارا إن كنتَ تَبغي جِنانَ الخلد تَسكنُها فينبغي لك أن لا تأمَن النارا |
فائدة:
العيناء: قيل: معناها: هي واسعة العين، وقيل: الحسناء شديدةُ الحُسن.