جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
<!--<!--<!--[if gte mso 10]>
<style>
/* Style Definitions */
table.MsoNormalTable
{mso-style-name:"Table Normal";
mso-tstyle-rowband-size:0;
mso-tstyle-colband-size:0;
mso-style-noshow:yes;
mso-style-parent:"";
mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt;
mso-para-margin:0cm;
mso-para-margin-bottom:.0001pt;
mso-pagination:widow-orphan;
font-size:10.0pt;
font-family:"Times New Roman";
mso-ansi-language:#0400;
mso-fareast-language:#0400;
mso-bidi-language:#0400;}
</style>
<![endif]-->
هل انتشر الإسلام بحد السيف هذا ما سوف نرد عليه من خلال التاريخ والقرآن والسنة النبوية الشريفة
الإسلام انتشر بالسيف ، ويحبذ العنف
الرد على الشبهة:
وهى من أكثر الشبه انتشارًا ، ونرد عليها بالتفصيل حتى نوضح الأمر حولها:
يقول الله تعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (1).
إن هذا البيان القرآني بإطاره الواسع الكبير ، الذي يشمل المكان كله فلا يختص بمكان دون مكان ، والزمان بأطواره المختلفة وأجياله المتعاقبة فلا يختص بزمان دون زمان ، والحالات كلها سلمها وحربها فلا يختص بحالة دون حالة ، والناس أجمعين مؤمنهم وكافرهم عربهم وعجمهم فلا يختص بفئة دون فئة ؛ ليجعل الإنسان مشدوها متأملاً في عظمة التوصيف القرآني لحقيقة نبوة سيد الأولين والآخرين ، (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) رحمة عامة شاملة ، تجلت مظاهرها في كل موقف لرسول الله صلى الله عليه وسلم تجاه الكون والناس من حوله.
والجهاد في الإسلام حرب مشروعة عند كل العقلاء من بنى البشر ، وهى من أنقى أنواع الحروب من جميع الجهات:
1- من ناحية الهدف.
2- من ناحية الأسلوب.
3- من ناحية الشروط والضوابط.
4- من ناحية الإنهاء والإيقاف.
5- من ناحية الآثار أو ما يترتب على هذه الحرب من نتائج.
وهذا الأمر واضح تمام الوضوح في جانبي التنظير والتطبيق في دين الإسلام وعند المسلمين.
وبالرغم من الوضوح الشديد لهذه الحقيقة ، إلا أن التعصب والتجاهل بحقيقة الدين الإسلامي الحنيف ، والإصرار على جعله طرفاً في الصراع وموضوعاً للمحاربة ، أحدث لبساً شديداً في هذا المفهوم ـ مفهوم الجهاد ـ عند المسلمين ، حتى شاع أن الإسلام قد انتشر بالسيف ، وأنه يدعو إلى الحرب وإلى العنف ، ويكفى في الرد على هذه الحالة من الافتراء ، ما أمر الله به من العدل والإنصاف ، وعدم خلط الأوراق ، والبحث عن الحقيقة كما هي ، وعدم الافتراء على الآخرين ، حيث قال سبحانه في كتابه العزيز: (لِمَ تَلبِسُونَ الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ) (2).
ولقد فطن لبطلان هذا الادعاء كاتب غربي كبير هو توماس كارليل ، حيث قال في كتابه " الأبطال وعبادة البطولة " ما ترجمته: " إن اتهامه ـ أي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ بالتعويل على السيف في حمل الناس على الاستجابة لدعوته سخف غير مفهوم ؛ إذ ليس مما يجوز في الفهم أن يشهر رجل فرد سيفه ليقتل به الناس ، أو يستجيبوا له ، فإذا آمن به من يقدرون على حرب خصومهم ، فقد آمنوا به طائعين مصدقين ، وتعرضوا للحرب من غيرهم قبل أن يقدروا عليها " (3).
ويقول المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه " حضارة العرب " وهو يتحدث عن سر انتشار الإسلام في عهده صلى الله عليه وسلم وفى عصور الفتوحات من بعده ـ: " قد أثبت التاريخ أن الأديان لا تفرض بالقوة ، ولم ينتشر الإسلام إذن بالسيف بل انتشر بالدعوة وحدها ، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخراً كالترك والمغول ، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند ـ التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل ـ ما زاد عدد المسلمين إلى خمسين مليون نفس فيها.. ولم يكن الإسلام أقل انتشاراً في الصين التي لم يفتح العرب أي جزء منها قط ، وسترى في فصل آخر سرعة الدعوة فيها ، ويزيد عدد مسلميها على عشرين مليونا في الوقت الحاضر " (4).
هذا وقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثة عشر عاماً ، يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، وقد كان نتاج هذه المرحلة أن دخل في الإسلام خيار المسلمين من الأشراف وغيرهم ، وكان الداخلون أغلبهم من الفقراء ، ولم يكن لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثروة عظيمة يغرى بها هؤلاء الداخلين ، ولم يكن إلا الدعوة ، والدعوة وحدها ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تحمَّل المسلمون ـ لاسيما الفقراء والعبيد ومن لا عصبية له منهم ـ من صنوف العذاب وألوان البلاء ما تعجز الجبال الرواسي عن تحمله ، فما صرفهم ذلك عن دينهم وما تزعزعت عقيدتهم ، بل زادهم ذلك صلابة في الحق ، وصمدوا صمود الأبطال مع قلتهم وفقرهم ، وما سمعنا أن أحداً منهم ارتدّ سخطاً عن دينه ، أو أغرته مغريات المشركين في النكوص عنه ، وإنما كانوا كالذهب الإبريز لا تزيده النار إلا صفاء ونقاء ، وسنتكلم هنا على الجانبين التنظيري والتطبيقي ، ونقصد بالتنظيري ما ورد في مصادر الإسلام (الكتاب والسنة) ، ونعنى بالتطبيقي ما حدث عبر القرون ابتداء من الحروب التي شارك فيها النبي صلى الله عليه وسلم ، وانتهاء بعصرنا الحاضر ، ثم نختم ببيان هذه النقاط الخمسة التي ذكرناها سابقاً.
أولاً: الجانب التنظيري
ورد فى القرآن الكريم وفى السنة النبوية آيات وأحاديث تبين شأن الجهاد فى الإسلام ، ويرى المطالع لهذه الآيات والأحاديث ، أن المجاهد فى سبيل الله ، هو ذلك الفارس النبيل الأخلاقي المدرب على أخلاق الفروسية العالية الراقية ؛ حتى يستطيع أن يمتثل إلى الأوامر والنواهي الربانية التي تأمره بضبط النفس قبل المعركة وأثناء المعركة وبعد المعركة ، فقبل المعركة يجب عليه أن يحرر نفسه من كل الأطماع ، وألا يخرج مقاتلا من أجل أي مصلحة شخصية ، سواء كانت تلك المصلحة من أجل نفسه أو من أجل الطائفة التي ينتمي إليها ، أو من أجل أي عرض دنيوي آخر ، وينبغي أن يتقيد بالشروط التي أحل الله فيها الجهاد ، وأن يجعل ذلك لوجه الله تعالى ، ومعنى هذا أنه سوف يلتزم بأوامر الله ، ويستعد لإنهاء الحرب فوراً ، إذا ما فقدت الحرب شرطاً من شروط حلها أو سبباً من أسباب استمرارها ، وسواء أكان ذلك الفارس منتصراً ، أو أصابه الأذى من عدوه ، فإن الله يأمره بضبط النفس ، وعدم تركها للانتقام ، والتأكيد على الالتزام بالمعاني العليا ، وكذلك الحال بعد القتال ، فإنه يجب عليه أن يجاهد نفسه الجهاد الأكبر ؛ حتى لا يتحول الفارس المجاهد إلى شخصٍ مؤذٍ لمجتمعه أو لجماعته أو للآخرين ، وبالرغم من أن لفظة الجهاد إذا أطلقت انصرف الذهن إلى معنى القتال فى سبيل الله. إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أسماه بالجهاد الأصغر ، وسمي الجهاد المستمر بعد القتال بالجهاد الأكبر ؛ لأن القتال يستمر ساعات أو أيام ، وما بعد القتال يستغرق عمر الإنسان كله.
وفيما يلي نورد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحدثت عن هذه القضية ، ثم بعد ذلك نستخرج منها الأهداف والشروط والضوابط والأساليب ، ونعرف منها متى تنتهي الحرب ، والآثار المترتبة على ذلك:
أولاً: القرآن الكريم:
1- (وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين * واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين) (5).
2- (فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم * وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) (6).
3- (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) (7).
4- (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ) (8).
5- (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم فى سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ) (9).
6- (ولا تحسبن الذين قُتِلُوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يُرْزَقُون ) (10).
7- (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا فى سبيلى وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ) (11).
8- (فليقاتل فى سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل فى سبيل الله فيُقتل أو يَغِلب فسوف نؤتيه أجرا عظيماً ) (12).
9- (وما لكم لا تقاتلون فى سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيراً ) (13).
10- (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً ) (14).
11- (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين * ليحق الحق ويبطل الباطل ولوكره المجرمون ) (15).
12- (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) (16).
13- (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير) (17).
14 (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط) (18).
15- (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ) (19).
16- (يا أيها النبي قل لمن فى أيديكم من الأسرى إن يعلم الله فى قلوبكم خيرا يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم ) (20).
17- (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم * وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ) (21).
18- (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيل الله فَيَقتُلُون وَيُقتَلُون ) (22).
19- (أُذِنَ للذين يُقَاتَلُون بأنهم ظُلِمُوا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أُخْرِجُوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا رَبُّنَا الله) (23).
ثانياً: الأحاديث النبوية الشريفة:
1- عن أبى هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تكفل الله لمن جاهد فى سبيله لا يخرجه من بيته إلا جهاد فى سبيله وتصديق كلمته بأن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة " (24).
2- عن وهب بن منبه ، قال: سألت جابراً عن شأن ثقيف إذ بايعت ، قال: اشترطت على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد ، وأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقول: " سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا " (25).
3- عن سعد بن زيد بن سعد الأشهلي أنه أهدى إلى رسول صلى الله عليه وسلم سيفاً من نجران فلما قدم عليه أعطاه محمد بن مسلمة ، وقال: " جاهد بهذا فى سبيل الله فإذا اختلفت أعناق الناس فاضرب به الحجر ، ثم ادخل بيتك وكن حلساً ملقى حتى تقتلك يد خاطئة أو تأتيك منية قاضية. قال الحاكم: فبهذه الأسباب وما جانسها كان اعتزال من اعتزل عن القتال مع على ـ رضي الله عنه ـ وقتال من قاتله " (26).
4- عن سعيد بن جبير قال: " خرج علينا أو إلينا ابن عمر فقال رجل كيف ترى فى قتال الفتنة فقال وهل تدرى ما الفتنة كان محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين وكان الدخول عليهم فتنة وليس كقتالكم على الملك " (27).
5- عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أريد الجهاد فقال: " أحي والداك ؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد " (28).
ويتضح من هذه الآيات والأحاديث أن هدف الحرب فى الإسلام يتمثل فى الآتي:
1- رد العدوان والدفاع عن النفس.
2- تأمين الدعوة إلى الله وإتاحة الفرصة للضعفاء الذين يريدون اعتناقها.
3- المطالبة بالحقوق السليبة.
4- نصرة الحق والعدل.
ويتضح لنا أيضا أن من شروط وضوابط الحرب:
(1) النبل والوضوح فى الوسيلة والهدف.
(2) لا قتال إلا مع المقاتلين ولا عدوان على المدنيين.
(3) إذا جنحوا للسلم وانتهوا عن القتال فلا عدوان إلا على الظالمين.
(4) المحافظة على الأسرى ومعاملتهم المعاملة الحسنة التي تليق بالإنسان.
(5) المحافظة على البيئة ويدخل فى ذلك النهى عن قتل الحيوان لغير مصلحة وتحريق الأشجار ، وإفساد الزروع والثمار ، والمياه ، وتلويث الآبار ، وهدم البيوت.
(6) المحافظة على الحرية الدينية لأصحاب الصوامع والرهبان وعدم التعرض لهم.
الآثار المترتبة على الجهاد
يتضح لنا مما سبق أن الجهاد فى الإسلام قد اتسم بنبل الغاية والوسيلة معا ، فلا غرو أن تكون الآثار والثمار المتولدة عن هذا الجهاد متناسقة تماما فى هذا السياق من النبل والوضوح ؛ لأن النتائج فرع عن المقدمات ، ونلخص هذه الآثار فى النقاط التالية:
(1) تربية النفس على الشهامة والنجدة والفروسية.
(2) إزالة الطواغيت الجاثمة فوق صدور الناس ، وهو الشر الذي يؤدى إلى الإفساد فى الأرض بعد إصلاحها.
(3) إقرار العدل والحرية لجميع الناس مهما كانت عقائدهم.
(4) تقديم القضايا العامة على المصلحة الشخصية.
(5) تحقيق قوة ردع مناسبة لتأمين الناس فى أوطانهم.
يقول الله سبحانه وتعالى فى سورة الحج:
(الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز ) (29).
قال الإمام القرطبي عند تفسيره لهذه الآية:
(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض) أي لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء ، لاستولى أهل الشرك وعطلوا ما بنته أرباب الديانات من مواضع العبادات ، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة. فالجهاد أمر متقدم فى الأمم ، وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات ؛ فكأنه قال: أذن فى القتال ، فليقاتل المؤمنون. ثم قوى هذا الأمر فى القتال بقوله: (ولولا دفع الله الناس) الآية ؛ أي لولا القتال والجهاد لتغلب على الحق فى كل أمة. فمن استبشع من النصارى والصابئين الجهاد فهو مناقض لمذهبه ؛ إذ لولا القتال لما بقى الدين الذي يذب عنه. وأيضاً هذه المواضع التي اتخذت قبل تحريفهم وتبديلهم وقبل نسخ تلك الملل بالإسلام إنما ذكرت لهذا المعنى ؛ أي لولا هذا الدفع لهُدمت فى زمن موسى الكنائس ، وفى زمن عيسى الصوامع والبيع ، وفى زمن محمد صلى الله عليه وسلم المساجد. " لهدمت " من هدمت البناء أي نقضته فانهدم. قال ابن عطية: هذا أصوب ما قيل فى تأويل الآية " (30).
ثانياً: الناحية التطبيقية
(1) حروب النبي صلى الله عليه وسلم:
(أ) الحرب ظاهرة اجتماعية:
الحرب ظاهرة إنسانية قديمة قدم الإنسان على ظهر هذه البسيطة ، فمنذ وُجد الإنسان وهو يصارع ويحارب ، وكعلاقة من العلاقات الاجتماعية الحتمية نشأت الحرب ، فالاحتكاك بين البشر لابد وأن يُوَلِّد صداماً من نوع ما ، لقد جبل الإنسان على غريزة التملك التي تدعوه إلى التشبث بما يملكه ، حيث إن هذه الغريزة هي التي تحفظ عليه البقاء فى الحياة ، وهى بالتالي التي تتولد عنها غريزة المقاتلة ، فى أبسط صورها دفاعاً عن حقه فى الاستمرار والحياة ، وقد تتعقد نفسية الإنسان وتصبح حاجاته ومتطلباته مركبة ، فلا يقاتل طالباً للقوت أو دفاعاً عنه فقط ، وإنما يقاتل طلباً للحرية ورفعاً للظلم واستردادا للكرامة. ويُفَصِّل العلامة ابن خلدون هذه الحقيقة فى مقدمته فيقول: " اعلم أن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة فى الخليقة منذ برأها الله ، وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض ويتعصب لكل منها أهل عصبيته ، فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان ؛ إحداهما تطلب الانتقام والأخرى تدافع ، كانت الحرب وهو أمر طبيعي فى البشر ، إما غيرة ومنافسة وإما عدوان وإما غضب لله ولدينه ، وإما غضب للملك وسعى فى تمهيده " (31).
(ب) الحرب فى الكتب المقدسة قبل الإسلام:
إذا ما تجاوزنا الأمم والحضارات البشرية ، وتأملنا فى الكتب السماوية المقدسة (التوراة ـ الإنجيل) ، نرى أن هذه الكتب المقدسة قد تجاوزت الأسباب المادية الغريزية التي يقاتل الإنسان من أجلها إلى أسباب أكثر رُقِيًّا وحضارة ، فبعد أن كان الإنسان يقاتل رغبة فى امتلاك الطعام أو الأرض ، أو رغبة فى الثأر الشخصي من الآخرين ، أو حتى ردا للعدوان ، نرى أن الكتب المقدسة قد أضافت أسباباً أخرى ، أسباباً إلهية تسمو بالبشرية عن الدنايا وظلم الآخرين ، إلى بذل النفس إقامة للعدل ، ونصرة للمظلوم ، ومحاربة للكفر والخروج عن منهج الله ، لقد حددت الكتب السماوية المناهج والأطر التي يُسْمَح فيها بإقامة القتال وعبرت بالإنسان مرحلة بناء المجد الشخصي المؤسس على الأنا ، إلى مرحلة التضحية من أجل المبادئ والمثل الإلهية العليا ، التي تعمل فى إطار الجماعة البشرية لا فى محيط الفرد الواحد.
الحرب فى العهد القديم:
وردت أسباب الحرب فى ست وثلاثين آية تقع فى ثمانية أسفار من أسفار العهد القديم هي: (التكوين ـ العدد ـ التثنية ـ يوشع ـ القضاة ـ صموئيل الأول ـ الملوك الثاني ـ حزقيال).
(1) ففي سفر العدد ـ الإصحاح الثالث عشر ، ورد ما يفيد أن موسى ـ عليه السلام ـ بعد خروجه بقومه من مصر بعث رسلا يتحسسون أمر أرض كنعان ـ فلسطين ـ ليستقروا فيها:
" فساروا حتى أتوا موسى وهارون وكل جماعة بنى إسرائيل إلى برية فاران إلى قادش ، وردوا إليهما خبرًا وإلى كل الجماعة ، وأروهم ثمر الأرض وأخبروه ، وقالوا: قد ذهبنا إلى الأرض التي أرسلتنا إليها وحقا إنها تفيض لبناً وعسلاً وهذا ثمرها غير أن الشعب الساكن فى الأرض معتز والمدن حصينة عظيمة جدًا وأيضا قد رأينا بنى عناق هناك " (32).
(2) وجاء فى سفر صموئيل الأول ـ الإصحاح الخامس والعشرون:
" فأجاب نابال عبيد داود وقال: من هو داود ومن هو ابن يسى قد كثر اليوم العبيد الذين يفحصون كل واحد من أمام سيده ، أآخذ خبزي ومائي وذبيحي الذي ذبحت لجارى وأعطيه لقوم لا أعلم من أين هم ؟ فتحول غلمان داود إلى طريقهم ورجعوا وجاءوا وأخبروه حسب كل هذا الكلام ، فقال داود لرجاله: ليتقلد كل واحد منكم سيفه وتقلد داود سيفه وصعد وراء داود نحو أربعمائة رجل ومكث مائتان مع الأمتعة " (33).
(3) وفى سفر الملوك الثاني ـ الإصحاح الثالث:
" وكان ميشع ملك موآب الثانى صاحب مواش ، فأدى لملك إسرائيل مائة ألف خروف ومائة ألف كبش بصوفها ، وعند موت آخاب عصى ملك موآب على ملك إسرائيل وخرج الملك يهورام فى ذلك اليوم من السامرة وعد كل إسرائيل وذهب وأرسل إلى يهو شافاط ملك يهوذا يقول: قد عصى على ملك موآب ، فهل تذهب معي إلى موآب للحرب ؟ " (34).
(4) جاء فى حزقيال الإصحاح الواحد والعشرون:
" وكان إلى كلام الرب قائلا: يا ابن آدم اجعل وجهك نحو أورشليم وتكلم على المقادس وتنبأ على أرض إسرائيل وقل لأرض إسرائيل هكذا قال الرب هأنذا عليك وأستل سيفي من غمده فأقطع منه الصديق والشرير من حيث إنى أقطع منك الصديق والشرير فلذلك يخرج سيفي من غمده على كل بشر من الجنوب إلى الشمال فيعلم كل بشر أنى أنا الرب سللت سيفي من غمده لا يرجع أيضاً " (35).
(5) وجاء فى سفر يوشع الإصحاح الثالث والعشرون:
" وأنتم قد رأيتم كل ما عمل الرب إلهكم هو المحارب عنكم انظروا: قد قسمت لكم بالقرعة هؤلاء الشعوب الباقين ملكاً حسب أسباطكم من الأردن وجميع الشعوب التى قرضتها والبحر العظيم نحو غروب الشمس والرب إلهكم هو ينفيهم من أمامكم ويطردهم من قدامكم فتملكون أرضهم كما كلمكم الرب إلهكم " (36).
(6) وجاء فى سفر القضاة الإصحاح الأول:
" وحارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوها وضربوا بحد السيف وأشعلوا المدينة بالنار وبعد ذلك نزل بنو يهوذا لمحاربة الكنعانيين سكان الجبل وسكان الجنوب والسهل ".
(7) وفى سفر القضاة الإصحاح الثامن عشر:
" فأما هم فقد أخذوا ما صنع ميخا والكاهن الذي له وجاءوا إلى لايش إلى شعب مستريح مطمئن فضربوهم بحد السيف وأحرقوا المدينة بالنار ولم يكن مَنْ ينقذ لأنها بعيدة عن صيدون ولم يكن لهم أمر مع إنسان وهى فى الوادي الذي لبيت رحوب فبنوا المدينة وسكنوا بها ودعوا اسم المدينة دان باسم دان أبيهم الذي ولد لإسرائيل ولكن اسم المدينة أولا: لايش " (37).
(8) وفى صموئيل الأول الإصحاح الرابع:
" وخرج إسرائيل للقاء الفلسطينيين للحرب ونزلوا عند حجر المعونة ، وأما الفلسطينيون فنزلوا فى أفيق واصطف الفلسطينيون للقاء إسرائيل واشتبكت الحرب فانكسر إسرائيل أمام الفلسطينيين وضربوا من الصف فى الحقل نحو أربعة آلاف رجل " (38).
(9) وفى التكوين الإصحاح الرابع والثلاثون:
" فحدث فى اليوم الثالث إذ كانوا متوجعين أن ابني يعقوب شمعون ولاوى أخوى دينة أخذ كل واحد منهما سيفه وأتيا على المدينة بأمن وقتلا كل ذكر وقتلا حمور وشكيم ابنه بحد السيف لأنهم بخسوا أختهم ، غنمهم وبقرهم وكل ما فى المدينة وما فى الحقل أخذوه وسبوا ونهبوا كل ثروتهم وكل أطفالهم ونسائهم وكل ما فى البيوت " (39).
(10) وفى سفر التكوين الإصحاح الرابع عشر:
" فلما سمع إبرام أن أخاه سبى جر غلمانه المتمرنين ولدان بيته ثلاثمائة وثمانية عشر وتبعهم إلى دان وانقسم عليهم ليلاً هو وعبيده فكسرهم وتبعهم إلى حوبة التى من شمال دمشق واسترجع كل الأملاك واسترجع لوطاً أخاه أيضاً وأملاكه والنساء أيضاً والشعب " (40).
(11) وفى سفر العدد الإصحاح الواحد والعشرون:
" فقال الرب لموسى لا تخف منه لأني قد دفعته إلى يدك مع جميع قومه وأرضه فتفعل به كما فعلت بسيحون ملك الأموريين الساكن فى حبشون فضربوه وبنيه وجميع قومه حتى لم يبق لهم شارد وملكوا أرضه " (41)
(12) وفى سفر العدد الإصحاح الخامس والعشرون:
" ثم كلم الرب موسى قائلا ضايقوا المديانيين واضربوهم لأنهم ضايقوكم بمكايدهم التى كادوكم بها " (42).
(13) وفى سفر العدد الإصحاح الثالث والثلاثون:
تطالعنا التوراة ، أن الله قد أمر موسى ـ عليه السلام ـ أن يشن حرباً على أقوام قد عبدوا غير الله ـ سبحانه وتعالى ـ: " وكلم الرب موسى فى عربات مو آب على أردن أريحا قائلا: " كلم بنى إسرائيل وقل لهم: إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم وتمحون جميع تصاويرهم وتبيدون كل أصنامهم المسبوكة وتخربون جميع مرتفعاتهم " (43).
(14) وشبيه به ما ورد فى سفر صموئيل الإصحاح السابع عشر آية 45: 47
" فقال داود للفلسطيني: أنت تأتى إلى بسيف وبرمح وبترس ، وأنا آتى إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عيرتهم 000 فتعلم كل الأرض أنه يوجد إله لإسرائيل " (44).
(15) وفى سفر صموئيل الأول الإصحاح الثالث والعشرون:
" فذهب داود ورجاله إلى قعيلة وحارب الفلسطينيين وساق مواشيهم وضربهم ضربة عظيمة وخلص داود سكان قعيلة " (45).
(16) فى سفر المزامير المزمور الثامن عشر:
يسبح داود الرب ويمجده لأنه يعطيه القوة على محاربة أعدائه: " الذي يعلم يدي القتال فتحنى بذراعي قوس من نحاس.. أتبع أعدائي فأدركهم ولا أرجع حتى أفنيهم أسحقهم فلا يستطيعون القيام ، يسقطون تحت رجلي تمنطقني بقوة للقتال تصرع تحتي القائمين على وتعطيني أقفية أعدائي ومبغضي أفنيهم " (46).
هذه بعض من حروب بنى إسرائيل التي سجلتها نصوص كتبهم وأسفارهم ، فمفهوم الحرب والقتال ، ليس مفهوماً كريهاً من وجهة النظر التوراتية ، وكأنها حروب مستمدة من الشريعة الدينية التوراتية ، وهى كانت دائما تتم بمباركة الرب ومعونته وكأن الرب ـ حسب تعبير التوراة ـ قد استل سيفه من غمده فلا يرجع (47).
الحرب فى العهد الجديد:
كذلك نرى الإنجيل لم يهمل الكلام عن الحروب بالكلية ، بل جاء نص واضح صريح ، لا يحتمل التأويل ولا التحريف يقرر أن المسيحية على الرغم من وداعتها وسماحتها التي تمثلت فى النص الشهير " من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر " ـ إلا أنها تشير إلى أن السيد المسيح ـ عليه السلام ـ قد يحمل السيف ويخوض غمار القتال إذا دعته الظروف لذلك ؛ فجاء فى الإنجيل على لسان السيد المسيح:
" لا تظنوا أنى جئت لأرسى سلاماً على الأرض ، ما جئت لأرسى سلاماً ، بل سيفاً ، فإني جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه ، والبنت مع أمها والكنة مع حماتها وهكذا يصير أعداء الإنسان أهل بيته " (48).
ولعلنا نلاحظ التشابه الكبير بين هذه المقولة وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: [ بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده ] (49).
مما سبق يتبين لنا واضحاً وجليا أن الحرب والقتال سنة كونية سرت فى الأمم جميعاً، ولم نر فى تاريخ الأمم أمة خلت من حروب وقتال ، ورأينا من استعراض الكتب المقدسة ـ التوراة والإنجيل ـ أنه سنة شرعية لم تخل شريعة من الشرائع السماوية السابقة على الإسلام من تقريره والقيام به كما مر.
لقد كان هذا القدر كافيا فى إثبات أن محمداً صلى الله عليه وسلم سائر على سنن من سبقه من الأنبياء ، وأن الجهاد لتقرير الحق والعدل مما يمدح به الإسلام ؛ لا مما به يشان ، وأن ما هو جواب لهم فى تبرير هذه الحروب وسفك الدماء كان جواباً لنا فى مشروعية ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم من القتال والجهاد.
ولنشرع الآن فى تتميم بقية جوانب البحث مما يزيل الشبهة ويقيم الحجة ويقطع الطريق على المشككين ، فنتكلم عن غزوات النبي صلى الله عليه وسلم ، ممهدين لذلك بالحالة التي كانت عليها الجزيرة العربية من حروب وقتال وسفك للدماء لأتفه الأسباب وأقلها شأناً ، حتى يبدو للناظر أن القتال كان غريزة متأصلة فى نفوس هؤلاء لا تحتاج إلى قوة إقناع أو استنفار.
الحرب عند العرب قبل الإسلام
سجلت كتب التاريخ والأدب العربي ما اشتهر وعرف بأيام العرب ، وهى عبارة عن مجموعة من الملاحم القتالية التي نشبت بين العرب قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس يعنينا سرد هذه الملاحم وتفاصيلها ولكن الذي يعنينا هنا أن نقف على بعض الجوانب التي تصلح للمقارنة (الأسباب ـ الزمن المستغرق ـ الآثار التي خلفتها هذه الحروب).
قال العلامة محمد أمين البغدادي: " اعلم أن الحروب الواقعة بين العرب فى الجاهلية أكثر من أن تحصر ، ومنها عدة وقائع مشهورة لا يتسع هذا الموضع لذكرها ولنذكر بعضاً منها على سبيل الإجمال " (50).
وقد ذكرت كتب التواريخ أياماً كثيرة للعرب (البسوس ـ وداحس والغبراء ـ يوم النسار ـ يوم الجفار ـ يوم الفجار ـ يوم ذي قار ـ يوم شعب جبلة ـ يوم رحرحان 000 إلخ) والمتأمل فى هذه الملاحم والأيام يرى أن الحماسة الشديدة والعصبية العمياء وعدم الاكتراث بعواقب الأمور والشجاعة المتهورة التي لا تتسم بالعقل ، كانت هي الوقود المحرك لهذه الحروب ، هذا فضلاً عن تفاهة الأسباب التي قامت من أجلها هذه المجازر ، والمدة الزمنية الطويلة التي استمرت فى بعضها عشرات السنين ، والآثار الرهيبة التي خلفتها هذه الحروب ، وعلى الرغم من أننا لم نقف على إحصاء دقيق لما خلفته هذه الحروب إلا أن الكلمات التي قيلت فى وصف آثارها من الفناء والخراب وتيتم الأطفال وترمل النساء 000 إلخ لتوقفنا على مدى ما أحدثته الحرب فى نفوس الناس من اليأس والشؤم ، ويصف لنا الشاعر زهير بن أبى سلمى طرفاً من ذلك فى معلقته المشهورة وهو يخاطب الساعين للسلام بين عبس وذبيان:
تداركتما عبسا وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
فهو يقول للساعين للسلام: إنكما بتحملكما ديات الحرب من مالكما ، أنقذتما عبسا وذبيان بعدما يأسوا ، ودقوا بينهما عطر منشم ، ومنشم هو اسم لامرأة كانت تبيع العطر يضرب بها المثل فى التشاؤم ، دليل على عظم اليأس الذى أصاب نفوس الناس من انتهاء هذه الحرب (51).
هذه إطلالة سريعة ومختصرة على الحروب وأسبابها لدى العرب قبل الإسلام والآن نشرع فى الكلام على تشريع الجهاد فى الإسلام ثم نتبع ذلك بتحليل موثق لغزوات النبى صلى الله عليه وسلم.
الجهاد فى شرعة الإسلام:
لما استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأسس حكومته النبوية بها ، بعد ثلاثة عشر عاماً من الدعوة إلى الله وتحمل الأذى والعذاب فى سبيل ذلك تخللتها ثلاث هجرات جماعية كبيرة ـ هاجت ثائرة قريش وحقدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحرزه من استقرار ونجاح لهذه الدولة الوليدة ـ دون ظلم أو استبداد أو سفك للدماء ـ ولذلك فقد كان صلى الله عليه وسلم مقصوداً بالقتل ، إذ ليس معقولاً أن تنام أعينهم على هذا التقدم والنمو ، ومصالحهم قائمة على الزعامة الدينية فى جزيرة العرب ، وهذه الدولة الجديدة قائمة على أساس ديني ربما يكون سبباً فى زوال هذه الزعامة الدينية الوثنية الموروثة. وإذا كان الإسلام ديناً بلغت الميول السلمية فيه مداها فى قوله تعالى: (فاصفح عنهم وقل سلام ) (53) إلا أن الميول السلمية لا تتسع لمنع القائمين بهذا الدين الجديد من الدفاع عن أنفسهم وعن دينهم الذي أنزله الله للإنسانية كافة ، فى عالم يضيع فيه الحق والعدل إن لم يكن لهما قوة تحميهما، فكان لا مناص من السماح للمسلمين بحماية أنفسهم ودينهم بالسلاح الذي يشهره خصومهم فى وجوههم ، ولذلك كان التعبير بقوله تعالى:(أُذِنَ للذين يُقَاتَلُونَ بأنهم ظُلِمُوا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز ) (53).
أقول: كان التعبير بالإذن الذي يدل على المنع قبل نزول الآية يدل على طروء القتال فى الإسلام وأنه ظل ممنوعاً طيلة العهد المكي وبعضاً من العهد المدني.
" هذا ولم يغفل الإسلام حتى فى هذا الموطن ـ موطن الدفاع عن النفس والدين ـ أن ينصح لأتباعه بعدم العدوان ؛ لأن الموضوع حماية حق لا موضوع انتقام ولا شفاء حزازات الصدور ، وهذا من مميزات الحكومة النبوية ، فإن القائم عليها من نبي يكون كالجراح يضع مشرطه حيث يوجد الداء لاستئصاله ، مع عدم المساس بالأعضاء السليمة ، ومقصده استبقاء حياة المريض لا قتله ، والعالم كله فى نظر الحكومة النبوية شخص مريض تعمل لاستدامة وجوده سليماً قوياً.. إن طبيعة هذا العالم مبنية على التدافع والتغالب ليس فيما بين الناس فحسب ، ولكن فيما بينهم وبين الوجود المحيط بهم ، وبين كل فرد والعوامل المتسلطة عليه من نفسه ، ولا أظن أن قارئاً من قرائنا يجهل الناموس الذي اكتشفه دارون وروسل ولاس ودعوه ناموس تنازع البقاء وبنوا عليه كل تطور أصاب الأنواع النباتية والحيوانية والإنسان أيضاً " (54).
" ألم تر كيف تصدى خصوم الدين النصراني للمسيح ، وما كان يدعو إلا للصلاح والسلام حتى إنهم استصدروا أمراً بصلبه فنجاه الله منهم ، وما زالوا بالذين اتبعوه يضطهدونهم ويقتلونهم حتى مضت ثلاثة قرون وهم مشردون فى الأرض لا تجمعهم جامعة ، إلى أن حماهم من أعدائهم السيف على يد الإمبراطور قسطنطين الذي أعمل السيف فى الوثنيين من أعدائهم.. أفيريد مثيرو هذه الشبهة أن يقوم دين على غير السنن الطبيعية فى عالم مبنى على سنن التدافع والتنازع واستخدام القوة الحيوانية لطمس معالم الحق ودك صروح العدل " ؟
" يقول المعترضون: وماذا أعددتم من حجة حين تجمع الأمم على إبطال الحروب وحسم منازعاتها عن طريق التحكيم ، وهذا قرآنكم يدعوكم إلى الجهاد وحثكم على الاستبسال فيه ؟
نقول: أعددنا لهذا العهد قوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) (55).
" هذه حكمة بالغة من القرآن ، بل هذه معجزة من معجزاته الخالدة ، وهى أدل دليل على أنه لم يشرع الحرب لذاتها ، ولكن لأنها من عوامل الاجتماع التي لابد منها ما دام الإنسان فى عقليته ونفسيته المأثورتين عنه ، غير أنه لم ينف أن يحدث تطور عالمي يتفق فيه على إبطال الحرب فصرح بهذا الحكم قبل حدوثه ليكون حُجة لأهله من ناحية ، وليدل على أنه لا يريد الحرب لذاتها من ناحية أخرى ، ولو كان يريدها لذاتها لما نوه لهذا الحكم " (56).
ثانياً: نظرة تحليلية لغزوات النبي صلى الله عليه وسلم:
إذا تتبعنا هذه الغزوات وقسمناها حسب الطوائف التي ضمتها ، أمكننا التعرف على القبائل التي حدثت معها هذه المعارك وهى كالآتي:
(1) قريش مكة:
وهى القبيلة التي ينتمي إليها النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث إن قريشاً هو فهر بن مالك ، وقيل النضر بن كنانة ، وعلى كلا القولين فقريش جد للنبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت معهم الغزوات: غزوة بدر الكبرى ـ الرابغ ـ ضرار ـ بواط ـ سفوان ـ ذو العشيرة ـ السويق ـ ذو قردة ـ أحد ـ حمراء الأسد ـ بدر الآخرة ـ الأحزاب ـ سرية العيص ـ سرية عمرو بن أمية ـ الحديبية ـ سيف البحر الثانية 8هـ ـ فتح مكة.
(2) قبيلة بنو غطفان وأنمار:
غطفان من مضر ، قال السويدى: " بنو غطفان بطن من قيس عيلان بن مضر ، قال فى العبر: وهم بطن متسع كثير الشعوب والبطون " (57) ، قال ابن حجر فى فتح الباري: " تميم وأسد وغطفان وهوازن جميعهم من مضر بالاتفاق " (58) ، أما أنمار فهم يشتركون فى نفس النسب مع غطفان ، قال ابن حجر: " وسيأتى بعد باب أن أنمار فى قبائل منهم بطن من غطفان " (59) ، أي أن أنمار ينتسبون إلى مضر أيضاً ونسبهم كالتالي: أنمار بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر (60).
والغزوات التى ضمتها هى: قرقرة الكدر ـ ذي أمر ـ دومة الجندل ـ بنى المصطلق ـ الغابة ـ وادى القرى ـ سرية كرز بن جابر ـ ذات الرقاع ـ تربة ـ الميفعة ـ الخربة ـ سرية أبى قتادة ـ عبد الله بن حذافة (61).
(3) بنو سليم:
قال السويدي: " بضم السين المهملة قبيلة عظيمة من قيس عيلان والنسبة إليهم سلمى ، وسليم من أولاد خصفة بن قيس عيلان بن مضر (62) ، والغزوات التى خاضها صلى الله عليه وسلم مع بنى سليم هي: بئر معونة ـ جموم ـ سرية أبى العوجاء ـ غزوة بنى ملوح وبنى سليم (63).
(4) بنو ثعلبة:
ثعلبة هو ابن سعد بن ضبة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر (64) ، نسبه الدكتور على الجندى إلى مر بن أد هكذا: ثعلبة بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر (65) ، والغزوات التي غزاها صلى الله عليه وسلم معهم هي: غزوة ذي القصة ـ غزوة بنى ثعلبة ـ غزوة طرف ـ سرية الحسمى (66).
(5) بنو فزارة وعذرة:
قال فى سبائك الذهب: " بنو فزارة بطن من ذبيان من غطفان ، قال فى العبر: وكانت منازل فزارة بنجد ووادى القرى ، ونسب فزارة: فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر.
أما بنو عذرة: بنوه بطن من قضاعة ، ونسبهم هكذا: عذرة بن سعد بن جهينة بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحافى بن قضاعة (67). ونسبهم إلى قضاعة أيضاً الدكتور على الجندى معتمداً على أنساب ابن حزم هكذا: عذرة بن سعد بن أسلم بن عمران بن الحافى بن قضاعة (68) ، وعلى هذا فبنو عذرة ليسو من مضر وإنما كانوا موالين لبنى فزارة وهم من مضر. وكان معهما الغزوات والسرايا الآتية:
سرية أبى بكر الصديق ـ سرية فدك ـ سرية بشير بن سعد ـ غزوة ذات أطلح (69).
(6) بنو كلاب وبنو مرة:
أما بنو كلاب فهم: بنو كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ، وبنو مرة هم أبناء كعب بن لؤى فيكون كلاب بطن من مرة ، وهذه نفس سلسلة النسب التى ذكرها الدكتور على الجندى معتمداً على أنساب ابن حزم (70) ، والغزوات التى كانت معهم: غزوة قريظة ـ غزوة بنى كلاب ـ غزوة بنى مرة ـ سرية ضحاك (71).
(7) عضل والقارة:
قال فى سبائك الذهب: "عضل بطن من بنى الهون من مضر" ، ونسبهم هكذا: عضل بن الهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ، وأما القارة فلم يذكرها السويدي فى السبائك ولا الدكتور الجندي ، إلا أن الأستاذ الشيخ محمد الخضرى نسبها إلى خزيمة بن مدركة ، وذكر الفارة بالفاء الموحدة لا بالقاف المثناة (72) وقد غزاهم النبى صلى الله عليه وسلم غزوة واحدة هى غزوة الرجيع (73).
(8) بنو أسد:
قال السويدى: " بنو أسد حى من بنى خزيمة ، ونسبهم هكذا: أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر (74) ، والغزوات التى غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هى: سرية قطن ـ سرية عمر مرزوق ـ غزوة ذات السلاسل (75).
(9) بنو ذكوان:
قال السويدى: " بنو ذكوان بطن من بهتة من سليم ، وهم من الذين مكث النبى صلى الله عليه وسلم شهراً يقنت فى الصلاة يدعو عليهم وعلى رعل (76) ونسبهم هكذا: ذكوان بن بهتة بن سليم بن منصور بن عكرمة خصفة بن قيس عيلان بن مضر (77) ، ولم يغزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا غزوة واحدة هى غزوة بئر معونة.
(10) بنو لحيان:
من المعروف أن بنى لحيان من هذيل ، وهذيل هو: ابن مدركة بن مضر(78)، وغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم غزوة واحدة هى:غزوة بنى لحيان (79).
(11) بنو سعد بن بكر:
نسبهم: سعد بن بكر بن هوازن بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر (80) ، وقد أرسل لهم النبي صلى الله عليه وسلم سرية واحدة هي سرية فدك.
(12) بنو هوازن:
بنو هوازن بطن من قيس عيلان ، ونسبهم هكذا: هوازن بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر (81)، وقد غزاهم صلى الله عليه وسلم غزوة ذات عرق.
(13) بنو تميم:
بنو بطن من طابخة ، قال فى العبر: " وكانت منازلهم بأرض نجد دائرة من هنالك على البصرة واليمن ، ونسبهم هكذا: تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر " (82).
(14) بنو ثقيف:
بنو ثقيف بطن من هوازن اشتهروا باسم أبيهم ثقيف ، ونسبهم: ثقيف ابن منبه بن بكر بن بهتة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر (83) ، وقد غزاهم النبي صلى الله عليه وسلم غزوتين هما: غزوة حنين ـ غزوة الطائف.
ونستطيع من خلال هذا التتبع أن نقول: إن هذه القبائل كانت جميعها تنتسب إلى مضر وهو جد النبي صلى الله عليه وسلم أو من والاهم ، وبالمعنى الأدق كانت نتيجة غضب إخوته من أجداده ، أما اليهود فقد كانوا مع قريش حسب معاهدتهم معهم ، وبذلك ظهر جلياً أن الغزوات والسرايا التي خاضها أو أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم ، كانت موجهة فى نطاق ضيق هو نسل مضر ، فلا يمكن أن يقال حينئذ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أشعل نار الحرب ضد العرب جميعاً ، أو أنه خاض الحروب لإكراه الناس على اعتناق الإسلام ، ولو كان الأمر كما يقولون لوقعت حرب عدوانية أو دفاعية ضد أي قبيلة من مئات القبائل العربية ، وهذه الحقيقة تحتاج إلى مزيد من التعمق والتحليل فى بعض خصائص القبائل العربية ؛ إذ قد يقول قائل أو يعترض معترض: إن هذا الذي توصلنا إليه بالبحث ـ ألا وهو انحصار القتال مع المضريين ـ لم يحدث إلا اتفاقاً ، والأمور الاتفاقية لا تدل على شيء ولا يستخرج منها قانون كلى نحكم به على جهاد النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ كان من الممكن أن يقاتل النبي صلى الله عليه وسلم ربيعة بدلاً من مضر ، أو يقاتل ربيعة ومضر معاً ، أو يقاتل القحطانية بدلاً من العدنانية أو يقاتلهما معاً ،
مرحبا بك اخي الزائرنرجو ان ينال الموقع اعجابك
الكلمة الطيبة جواز مرور إلى كل القلوب
ساحة النقاش