جامعة الإبداع الأدبي والنقد المعاصر

<!--البنية النوعية في رواية  اعترافات أسكرام ل:عز الدين ميهوبي

 

عقيلة مراجي

تمهيد:

-ظهور رواية الخيال العلمي في الجزائر:

قبل أن تلج الرّواية الجزائريّة مجال الخيال العلمي كانت تستجيب تدريجيّا لتأثيرات العنف التّجريبي الذّي بدأ يأخذ طابعا صارما مع جيل الثّمانينات ،حيث بدأت أعمال هذا الجيل الجديد تطرح"مفهوما جديدا للإبداع انطلاقا من رؤيا ثقافيّة أسهمت فيها عوامل عدة فرضتها ساحة الكتابة العالميّة ،لعلّ أبرزها التّمرّد على الواقعيّة النّمطيّة ،ومحاولة الرّجوع إلى أفضية الفنّ ليحقّق فكرة الإبداع ،الذّي هو تعارض وانقطاع بين الواقع القائم وطموحات الذّات إلى واقع غير متحقّق<!-- .

 ومن ثمّة فقد كانت هناك بعض القوالب التشكيليّة الجديدة مع احتدام هذا العنف ،والنزوع نحو الجديد ؛ وقد أفرز هذا النزوع أشكالا جديدة  في الفن الروائي ، لعل من بينها "كتابات الخيال العلمي "،لكن بالرّغم من أنّه كانت هناك بعض المحاولات اللاّفتة في هذا النّوع الرّوائي إلاّ أنّ الانطلاقة الفعليّة كانت مع تأسيس نادي الخيال العلمي ،أي عندما أسّست جماعة من المبدعين والمهتمّين هذا النّادي وكان ذلك عام 1994،ومن أعضاء النّادي البارزين آنذاك نجد: أحمد قرطوم ،محمد الصّالح  درويش،لمنور مسعودي ،زرياب ،فيصل الأحمر ،نبيل دادوة وغيرهم وكلّهم تقريبا انسحبوا منه لأسباب ماديّة ،وبالرّغم من ذلك فإنّ هؤلاء يذكرون عند الحديث عن الخيال العلمي الذّي عرف أوج انتشاره عام 1996 ؛أي سنتين بعد التّأسيس لقد شغل نادي الخيال العلمي اهتمام النّاس واستقطبهم واستهواهم إلى أن تفرّق أعضاؤه ،وقبل ذلك كان هذا النّوع الأدبي محدودا جدّا ،إلاّ محاولات قليلة منها ما كتبه أحمد منّور في قصّته (البحيرة العظمى)،وهي قصّة للفتيان وليست رواية، فازت بجائزة إمارة الشّارقة لعام 1999،ونشرت هناك،ورواية (جلالته الأب الأعظم)للحبيب مونسي ،وما عدا ذلك فقد ظلّت محاولات الكتابة في هذا المجال ضعيفة جدا وأخذت تنحصر شيئا فشيئا وبالتّالي  تفكك جماعة الخيال العلمي<!-- .وبعد هذا الانحصار والتّوقف لاقى أدب الخيال العلمي ،وعلى رأسه الرّواية بعثا جديدا ،ومن بين الكمّ الكبير من الرّوايات التّي صدرت في الجزائر رواية الخيال "الكلمات الجميلة"لنبيل دادوة ،و"أمين العلواني "لفيصل الأحمر<!--،ويتحدّث فيصل الأحمر عن تجربته في رواية الخيال العلمي فيقول :"في رواية الخيال العلمي الثّانيّة وهي (قيد الطّبع في دار ألمعية)مكتوبة عام 1997،وفيها اتّجت  اتّجاها صوفيّا قويّا جدا .إنّها رحلة في الفضاء الخارجي للبحث عن الذّات فلقد عملت ثقافتي الصّوفيّة على رسم خطوط اللرّواية ،إذ أنّ المتصوّفة يؤمنون بالرّحلة الدّاخليّة ،وبأنّ العروج في مدرج القدس الأعلى يؤدّي إلى الغوص في مدارج النّفس الأدنى إلينا ،أمّا الرّواية الموالية التّي أعدّها أكثر أعمالي في الخيال العلمي اكتمالا هي رواية :"أمين العلواني"كتبت بين 1999و 2001،ونشرت عام 2007،بدار المعرفة وهي رواية جمعت أشتاتا كثيرة من فنون القول (المذكّرات ، البيوغرافيا ،الشّعر ،التّسجيل بالكاميرا ،المنتخبات الأدبيّة ،القصة ،الدّراسة النّقدية ،إنّها رواية مسلية<!--

أمّا عزّ الدّين ميهوبي فقد أكّد في محاضراته ضمن الرّواية الجزائرية  أنّها في مجال الخيال العلمي لا زالت ضعيفة والمحاولات الموجودة حاليا ضعيفة ،ولا ترقى إلى مستوى التّجارب العالمية كما أنّ الجزائر تفتقر إلى صناعة سينيمائيّة تترجم أدب الخيال العلمي<!-- .وتعتبر روايته اعترافات أسكرام إحدى القفزات الجريئة في هذا المجال ، -وقد عدّها البعض البداية الحقيقية لرواية الخيال العلمي في الجزائر- وهي تتضمّن على حدّ قوله مجموعة من الأصوات ،وعددا من الرّواة لأنّها رواية تضم مجموعة من الرّوايات ،حيث نجد صالح ،أنطوان سالو،إيليسيو الكوبي ،مانويل الإسباني ،سادي اليابانيّة،وأبو رشد الأفغاني يسردون اعترافاتهم ، لهذا فقد تمّ نشرها في بداية الأمر على أجزاء ،وكل جزء يحمل اسم رواية ، -ومنها- رواية "اعترافات3 أسكرام ،أسوار القيامة" ، كما أكد   عز الدين ميهوبي بأنّه قد هدم الأسوار الفاصلة بين الواقع والفانثازيا في الرّواية<!--. وهكذا نكون قد أشرنا ولو إشارة خاطفة إلى بدايات ظهور هذا النّوع الرّوائي في الجزائر.

البنية النوعية في الرواية:

*مفهوم البنية :

إن البناء مصدر بنى وواحد و الأبينة جمع وهي البيوت، ومنه البوان وتسمى مكونات البيت بوائن جمع بوان و هو اسم كل عمود في البيت أي التي يقوم عليه البناء ،و ارتباط الرواية بالبناء ينبع من هذا المعنى اللغوي لأنها تنهض على مجموعة من البواني التي تتعاون لتشكل بنيتها المتكاملة<!--. أما في اللغات الأجنبية فإن الكلمة :Structure"" مشتقة من الفعل اللاتيني Structe"" بمعنى" يبني" أو "يشيد" ،و حين تكون للشيئ "بنية" (في اللغات الأوروبية) فإن معنى هذا أولا وقبل كل شيئ أنه ليس شيئ غير منظم أو عديم الشكل amorphe  بل هو موضوع من التقارب الأولي بين معنى البنية ومعنى الصورة fotone  ما دامت الكلمة بنية في أصلها تحمل معنى المجموع أو الكل المؤلف من ظواهر متماسكة يتوقف كل منها على ما عداه و يتحدد من خلال علاقته بما عداه<!-- .

  هذا من الجانب اللغوي أما اصطلاحا فقد سعى الكثير من الغربيين لتعريف مصطلح البنية و منهم ليفي استراوس و جون بياجييه كما حاول الكثيرمن الباحثين العرب تعريفها من أمثال :الصباغ ، نبيلة ابراهيم، جابر عصفور و غيرهم و لكني لن أنساق خلف هذه المحاولات بل سأكتفي بإيراد أكثرها شهرة ووضوحا، وهو تعريف بياجيه الذي يرى أن البنية هي مجموعة تحويلات تحتوي على قوانين كمجموعة (تقابل خصائص العناصر)تبقى أو تغتني بلعبة التحويلات نفسها دون أن تتعدى حدودها أو تستعين بعناصر خارجية و يحدد بياجييه ثلاثة شروط أساسية لتوفر البنية هي: الكلية والخاصية التحويلية و الضبط الذاتي<!--، ويرى النقاد في حديثهم عن البنى الأدبية أن الأدب أثر فني ينتمي إلى عالم الفن ولكنه إنتاج لعمل ما يفترض مادة أولية تم استخدامها فيه ووسائل فنية مارسها الصانع، وإذا كانت المادة الأولية تختلف بالضرورة عن الإنتاج الأخير فإن معرفة العمل والعلم بالمادة ليس شيئا واحدا، وعلى هذا فإنه يمكن تعريف العمل الأدبي بأنه عمل لغوي من جانب وفني من جانب آخر ركز عليه الفلاسفة و ما يرتبط به من أفكار عن النموذج و الجنس و الشكل ،و يتميز الأخير بكثير من التماسك إذ أنه يبرز الخصائص الشكلية للعمل الفني و علاقته بالأعمال الأخرى التي تنتمي إلى نفس الجنس الأدبي، مع ملاحظة أن الأجناس الأدبية لا تكف عن الحركة الدائبة بفضل العطاءات التي يضيفها كل أديب خاضـــــــــــــــــــــــــــع لظـــــــــروف ثقافية و تاريخية معينة و كذلك تبرز علاقته بالأعمال الأخرى لنفس المؤلف أو في العصر  نفسه لهذا تعتبر البنائية الفلسفية ذات طابع مقارن ،أما بنية النوع فهي على القريب من هذا تدرسها الشعرية لتكشف مجموع العناصر المطردة في نوع أدب معين وعلاقاتها ووظائفها.

الرواية مثلا بالمقارنة مع الأقصوصة أو مع المذكرات و الرواية البوليسية مثلا بالمقارنة مع الرواية العاطفية <!--

و هي بهذا ذات طابع مقارن أيضا ولكنها تركز فقط على العناصر التي تشكل خصوصية العمل الإبداعي كما أن وجود عنصر ما داخل رواية جيدة مثلا لا يدل بالضرورة على أنه أحد عناصر البنية السردية لهذا النوع فقد تحتوي بنية النص على عناصر من جهات شتى وقد تتخلى عن أحد عناصر البنية الأصلية للنوع المصونة فيه، فهي في النص بنية هجينة أو ناقصة تكون بنية خالصة كاملة<!-- ،  لهذا فإنه يفترض أن تكون العناصر المطردة في هذه الرواية هي عناصر من صميم رواية الخيال العلمي؛أي العناصر التي تكمن فيها خصوصية هذا النوع الأدبي.

 

 

 

 

إن رواية "اعترافات أسكرام "قد اتخذت شهرة كبيرة في الأوساط النقديّة الجزائريّة و عدها الكثير من النقّاد أنها تمثل فعلا مرحلة النضوج في هذا النوع الروائي ،لكن إذا أردنا أن نكون أكثر موضوعية ونبتعد عن الأحكام المسبقة فإنه يتحتم علينا أن نكون أكثر جرأة في طرح الواقع النقدي؛ فالبرغم من أن الرواية قد  ترجمت إلى لغات أخرى و تجاوزت الطبعة  الواحدة ، كما أن المؤلف قد استطاع بالنظر إلى إمكانياته تحويلها إلى فيلم سنيمائي ، إلا أنه لا يمكن الإقرار باحتوائها على المعايير الأساسية لرواية علمية، فإذا كان نبيل دادوة قد أفصح عن محاولاته التجريبية من خلال اللغة العلمية، وإذا كان فيصل الأحمر قد راهن على بعض التنبؤات التي تشبه الخيال العلمي؛ فإن هذه الرّواية تنسحب انسحابا خاطفا من الأجواء العلمية و تصب جام ابتكارها على الاستشراف و كأن مفهوم الخيال العلمي عندنا قد اقتصر على الفعل الاستشرافي. و حتى لو قلنا بأنها ذات توجه يوتوبي فإن تفاصيل اليوتوبية مغيبة تقريبا أو بعبارة أدق غير ناضجة الملامح،

لكن بالرغم من ذلك فإن هذه الرواية تغتني ببعض التميز ،ولعل أهم صور هذا التميز  هو الشخصية ؛فعادة ما تكون الشخصيّة في مثل هذا النوع الروائي عند الكتاب الجزائريين  سطحية و بسيطة - الروائيون المتمرسون و المحترفون  في العالم الغربي كثيرا ما يهتمون بالشخصية  حتى في رواية الخيال العلمي - لكن عز الدين ميهوبي في روايته "اعترافات اسكرام" قدم نموذجا متميزا  لبناء الشخصية في رواية علمية جزائرية.

ولقد قرأت الرواية مرارا قصد تحديد عناصرها المطردة التي تحدد بنيتها النوعيّة وفي النهاية توقفت عند ثلاثة عناصر أساسيّة هي: اللغة، الزمن، الشخصيّة مع التأكيد على واقع التفاعل مع العناصر السرديّة الأخــــــــــــــــــــرى و لهذا سيتم الوقوف عندها بالوصف و التحليل بما يقتضيه المنهج الفني قصد اكتشاف خصائصها النوعـــــــــــــــــــــــــــــيّة و لتكن البداية مع الشخصيّة.

 

 

 

-بنية الشّخصيّة المعترفة:

 

عندما يعرّف ألبرت الشّخصيّة يقول: "التّعليم الدّيناميكي في نفس الفرد لتلك المنظومات الجسميّة النّفسيّة التّي تحدّد أشكال التّكيّف الخاصّة لديه مع البنيّة و يقول إنّ الشّخصيّة هي تلك الصّيغة التّي يتطوّر إليها الشّخص ليضمن بقاؤه على سيادته ضمن إطار وجوده"<!--.

 فالشّخصيّة إذن عنصر مهمّ في العمل الرّوائي قد تسمو به أو تنحطّ به ،و لذلك فإنّ حضورها حضورا نوعيّا خلافيا يضمن للرّواية  نوعا من التّفرد ، فكيف كان حضور الشّخصية في هذه الرّواية؟.

 إنّ الحضور الشّخصيّاتي في المتن الرّوائي يفصح عن تقديم خلافي يجعلها تتميّز كثيرا عن نظيراتها في الرّوايتين السّابقتين ففي إطار السّرد  التناوبي بين كلّ من الكاتب و القارئ عبر تفعيل طريقة تقديمها  فإنّنا نستطيع القول أنّ خصوصيّة الشّخصيّة و فنيّتها في هذه الرّواية موكولة إلى طريقة تقديمها علما أنّ اختيار طرق تقديم الشّخصيّة يعود إلى رغبة  الرّوائي و فكره فهو صاحب الحقّ في الاختيار"فهناك مثلا الرّوائيون الذّين يرسمون شخصياتهم بأدّق تفاصيلها و هناك من يحجب عن الشّخصيّة كل وصف مظهري ،و من جهة أخرى هنالك منهم من يقدّم شخصيّاته بشكل مباشر و ذلك عندما يخبرنا عن طبائعها ،و أوصافها أو يوكل ذلك إلى شخصيّات تخييليّة أخرى أو حتّى عن طريق الوصف الذّاتي الذّي يقدّمه البطل نفسه ( 14 to- description) كما في الاعترافات"<!-- .

و هو ما راهن عليه المؤلّف في هذه الرّواية حيث تحضرنا الشّخصيّة معترفة فالاعتراف هو الخاصيّة المهيمنة في التّشكيل الشّخصيّاتي في الرّواية و هذه الأخيرة هي الوسيلة التّي نتعرّف بها على الشّخصيّة لحظة القراءة كما تجعلنا نتعرّف على وقائع حياتها مّما يوجّه إلى السّيرية الذّاتيّة من خلال شخصية "إيلسيو" التّي تعتبر شخصيّة أساسيّة من حيث أنّها تمثّل الرّواية بأكملها، فهذه الشّخصيّة لا تحضرنا بوصفها عاملا ذا وظيفة ما داخل الحرم السّردي بل بوصفها الرّواية بكلّ وقائعها السّرديّة ،و صحيح أنّ الاعتراف ليس حكرا عليها سواء في هذه الرّواية أم في روايات أخرى؛ فالشّخصيّة السّاردة في رواية" الكلمات الجميلة "تعترف أيضا و لكنّ اعترافها يبدو سطحيّا خاطفا بحيث لا يرقى إلى الخصّيصة النّوعية كما أنّه يمسّ جوانب متقطّعة من حيوات العديد من الشّخصيّات ،و لهذا فنحن لا نكاد نعرف عنها شيئا، حتّى اسمها يتوارى خلف أسوار السّرد العاليّة ،و ذلك ما جعل منها شخصيّة غرائبيّة

أمّا شخصيّة أمين فبالرّغم من أنهّا تبدو تقريبا مكتملة المعالم إلاّ أنّ اعترافها كان عبر وسيط ، خوّله الكاتب للتّصرّف في السّرد و هو مالك الأديب ممّا أفقد الاعتراف مصداقيته كما أفقده حسّه الدّرامي فالقارئ لا يشعر مطلقا بألفة ولا بحميميّة مع أمين العلواني خاصّة في ظلّ هيمنة الضّمير الغائب "هو" مصرّا على الفصل بين أمين و حالات البوح، فأصبح أمين خارج السّرد روحا و حاضرا جسدا ،و مالك خارجها جسدا حاضرها روحا لأنّه السّارد و للسّارد إمكانيّة الظّهور في حالات الاعتراف بصفته متصرّفا في وقائع السّرد فيقدّم ما يشاء ويحذف أو يضيف ما يشاء، و لو أنّ الكاتب أحضره روحا لتغيّر كلّ شيء إذ يمكن اعتبار هذا الحضور شبيها بأنف كليوباترا الذّي لو استطال قليلا لتغيّر وجه العالم، و لو تمظهر أمين تمظهـــــــــــــــرا آخر في الرّواية لتغيـــــــــــــــــــــــّرت معالمها و لكن؟!.

و الشّيء نفسه بالنّسبة للشّخصيّة السّاردة في "الكلمات الجميلة" فالبرّغم من هيمنة "الأنا" على السّرد إلاّ أنّ هذه الأنا قد حضرت في الرّواية بوصفها ضميرا معاديّا جرّد الشّخصيّة من أنانويتها تجريدا شبه كلّي؛ فأصبحت الجماعة هي الأنا ،ذلك أن المتن الرّوائي يعادي إلى حدّ بعيد فكرة الأنانويّة و بذلك فهو لا يروي سيرة ذاتيّة بل حكاية جيل بل أجيال بأكملها، وما ضمير المتكلّم إلا تمثّلا لهذه الأنا الجماعيّة التّي تعكس الرّوح الوطنيّة لهذا فإنّ كلّ شخصيّات الرّواية تتنازعها في الخطاب السّردي.

و هو ما يجعل بونا كبيرا بين النّص الخطاب والنّص القصّة التّي تتبنّى انزياحا سرديّا عميقا و منحرفا مراهنا بذلك على الجانب الجمالي أكثر من مراهنته على لحظات البوح أو القيم الاعترافيّة و لهذا " فانّ الحكاية بضمير المتكلّم كما قال جيرار جينيت  هي ثمرة اختيار جمالي واع و ليست علامة على البوح المباشر على الاعتراف على السّيريّة الذّاتيّة "<!-- في هذه الرواية.

 أمّا شخصيّة إ"يلسيو" فنستطيع أن نقول إنّها شخصيّة ذكيّة لأنّها حاضرة جسدا وروحا إذا لا يستطيع أحد منّا تغيير شيئ من اعترافها ،وحتّى الكاتب ذاته عليه أن ينزوي خارجا ليسمعها كلمة كلمة بعد فعل الكتابة، وهي تحكي وقائع حياتها ،و ضمن هذه الاعترافات فهي تعرّفنا بطريقة غير مباشرة أو مباشرة بالشّخصيّات الحاضرة ،و لذلك فإنّ الحكاية بضمير المتكلّم هنا هي علامة على البوح المباشر و على الاعتراف، كما أنهّا ذكيّة لأنّها استطاعت إخفاء حقيقتها، استطاعت إخفاء كونها مسكونة بأنا طيفيّة تتجلّى لنا فقط عبر  التّأويلية التّي تظهر لنا حقيقة هذه الأنا  المتجاوزة هي الأخرى للذّات الفرديّة إلى الذّات الجماعيّة و نحن لا ندرك تلك العلامات المختفيّة في خلايا السرد إلا عبر تفعيل ليزريّة القراءة من الوعي الحاضر حضورا فاعلا .

و القول نفسه ينطبق على الشّخصيّات الأخرى المعترفة فالسّرد إذا في هذه الرّواية يحتضن السّيريّة و لكن بشكل مغاير على المألوف الذّي يقدّمه السّير ذاتي لأنّ لها وجهان الوجه الأول ظاهر جلي و مستقل نسبيّا وهو متعلق بشخصيّة إلسيو المتخيّلة و الوجه الثّاني خفي متواري ومتعلّق بهذه الشّخصيّة ووقائع السّرد من جهة وبالمرجعيّة الثّقافيّة و السّياسيّة للكاتب من جهة أخرى و هو ما يقدّم شكلا أدبيّا  ينفصل فيه ظاهريّا خطاب الخيال و خطاب الواقع.

لقد استطاعت تكنيكيّة الاعتراف أن تكشف اهتمام السّارد الكبير بوضع الشّخصية وحضورها داخل المتن الرّوائي فقد آثر أن يكون خارج السّرد على أن يرهقها بتوجيهاته ،أويكبت اندفاعها البوحي بما يملكه من قيم سلطويّة ،وكلّ  شخصيّة إيلسيو بوصفها شخصيّة أساسيّة  لتولي قيادة القطار السّردي و جعلها نائبة شرعيّة له في السّرد و في عرض الحدث الرّوائي و لأنّها قبل كل شيئ صاحبة السّرد ،و لهذا فإنّ التّقديم المباشر للشّخصيات و عبر آلية الاعتراف قد هيمن على الرّواية مما جعل التّقديم الغير مباشر عن طريق الحوار و الحلم وغيرها من الآليات تنحصر لأجل التّقديم المباشر،وبهذا حدّدت نمطيّة الصّناعة ذات العلاقة بالتّشكيل الشّخصياتي في المتن و فضلا عن تحديد هذه النّمطيّة فقد جعلت الشّخصيّة تنمو في الوسط الاعترافي نموّا طبيعيّا وخاضعا للميقات الزّمني و تأثيراته على الحياة.

إنّ هذا الاهتمام النّوعي بطريقة تفرديّة في التّقديم يتجلّى لنا في وحدات الخطاب السّردي المتكاملة بدءً بالخطاب العنواني  "اعترافات3 أسكرام أسوار القيامة" حيث نلاحظ الغياب الفعلي للشّخصيّة في مقابل حضور فعل الاعتراف، و صورة الغياب والحضور تكشف عن تملّق دلالي لأنّ كلّ من الغياب و الحضور هما شيئا واحدا و لا يفترضان الجدليّة في أكثر الحالات التّأويليّة لأنّ الشّخصيّة هي الاعتراف لأنّنا نتعرّفها بل نتحسسها من خلاله و حضور الصّفة يضمر حضور الموصوف ؛لذلك فإنّ الخطاب يركّز على الفضاء المكاني والزّماني الذّي يحتضن البوح حيث يستهل به استهلالا "المكان فندق أسكرام بالاس.

                      31 ديسمبر 2039

                      الساعة 21:03 "<!--

 فهذه المعلومات قد تزعّمت الكتابة على رأس الصّفحة "5" وحتّى تهيّئ القارئ لاستقبال هذه الاعترافات فقد وضفت ساردا خارجيّا مؤقّتا يفتتح السّرد بنوع من الوصف الاستهلالي ليضعنا بذلك في عمق التّجربة السّرديّة ،و محيلا على واقعة الاعتراف يقول " و أمسك بعصاه ثمّ اتجّه نحو الكرسي المعدّ للمختارين هذه اللّيلة ليعلنوا اعترافهم أمام الحاضرين ،بعض من في القاعة صدر يكرّر اسم الكوبي ففهمت أنّ  له شهرة ما  ،ربما لم يسعفني الحظ في معرفته لكنّني شعرت  وهو يتقدّم بخطى بطيئة  أنّ للرّجل تاريخا كبيرا "<!--

 ومن هذا التّقديم يفصح الكاتب عن تجربة التّخيل التّي ترحل بالقارئ إلى المستقبل القريب كما تفصح أيضا عن الفعل التّنبؤي الذّي نجده قد ركّز و احتفل احتفالا كبيرا بالقيمة الانتمائيّة بالرّغم من كونه لم يتعدّ الصّفحة والنّصف حتّى كأنّه لم يتوان عن تعزيز هذه الانتمائيّة عن طريق الوصف الذّي حسن واستوى مضمرا دلالاته التّحتيّة التّي تتكشّف في القول الشّعري ذلك أنّ " أحسن الوصف ما نعت به الشّيئ حتّى يكاد يمثّله عيانا للسّامع "<!-- .

و هذا ما نلمسه في قوله :"و نزع قبّعته و بانت سمرته التّي زادتها الأضواء ألقا ابتسم و نظر في جهة صاحب الفندق وقال:

- هل تأذنوا لي في تدخين سيجار كوبي تعوّدت تدخينه في مثل هذا الوقت من اللّيل"<!--.

 لقد كان الاعتراف مرآة عاكسة لشخصيّة إيلسيو الجريء الذّي كان يمارس فعل البوح متجاوزا كل الطّابوهات " قال لي إيناسيو صاحب الحانة لا ترفع صوتك.. إنّهم يمرّون من هنا، للشّوارع عيون و للجدران آذان فصرت أضحك منه و أصرخ حتّى شعرت و كأنّ حبالي الصّوتية تمتدّ في ساحات و شوارع هافانا "<!--  فضمير المتكلّم الذّي يجسّد هذا الفعل يفعّل الموقف الاعترافي، و يكشف على النّزعة الاندفاعيّة في الشّخصيّة، كما أنّ الكاتب قد استطاع في ظل سيطرة "الأنا" التّي لم يستطع مواراتها أن يخفي الأنا الطّيفيّة التّي تتضخّم في الوسط الجماعي بعد أن تلبّست قبل بشخصيّات الرّواية ممّا يكشف لنا أن الغايّة  السّرديّة المرتبطة بالمرجعية التّاريخية لا تحتفل بالشّخصيّات لذاتها، ذلك أن الغائيّة السّردية ارتبطت بفكرة أنّ السّرد يحيل على حقبة زمنيّة تاريخيّة و بذلك فإنّ الشّخصيّة تتأطّر في ذلك الفضاء و نستحضر من خلالها مجريات الأحداث ،و الوقائع التّي تناولها السّلطة بحجّة أسطورة السّلالة الثّوريّة وبهذا فإنهّا –الشّخصيّة- تستدعي القيام بوظيفة رمزيّة من أعماق التّاريخ يتمّ الاستحضار لبلورة أجواء الحاضر و مناقشة قضايا المستقبل ] وهذا يفصح عن كون الظّرف المعاش سابقا بسلبيّاته هو ما يتجلّى على مستوى الرّاهن<!--.

و بهذا فإنّ الفعل السّردي الذّي يمارسه الكاتب يجسّد المسلمة التّي صاغها جوته في قوله " أنّ التّاريخ البشري يحتاج إلى من يعيد كتابته من وقت لآخر مما يجعل التّاريخ قابلا للتّجدّد<!--

-إنّ المتن السّردي يفصح عن هذه المناقشة من خلال التّغرير بالشّخصية التّي تشتغل على الإيهام فنحن نعرف من خلال حديث إليسيو عن نفسه أنّه أب لطفل أسماه آرثر حيث تقول مارغيتا عندما تكون على فراش الموت " آرثر ريمبو هو عربون الحب الكبير الذّي لم يرحمه الموت"<!--  و لكنّ القاضي عند تقديمه لهذه الشّخصيّة المعترفة  ينفي هذا بقوله " متزوّج و أب لطفلة " هكذا نجد أنّ  السّرد يموّه في تقديمه للشّخصيّة تمويها ينفي الوجود الحقيقي لها ،و يكرّس للضّمير أنا الّذي ينمو في الوسط الجماعي مستحضرا المرجعيّة الواقعيّة والتّاريخيّة ومندغما فيهما،وهو بهذا ينفي الشّكل النّمطي الذّي قد يعرقل الأفق التّأويليّة .

و يتجلّى هذا الطّرح أيضا في تقديمه للشّخصيّة المرأة التّي تأخذ مركزا<!-- بؤريا في الهيكل الثّيماتي للرّواية فالحقيقة التّي تخفيها بعض الشّخصيّات ومنها شخصيّة إليسيو تكشف لنا أنّ الغاية السّردية المرتبطة بالمرجعيّة التّاريخيّة لا تحتفل بالشّخصيّات لذاتها برغم التّقديم المباشر كآليّة مهيمنة ، "<!-- .

فعندما يعرّف إليسيو بدوره بفلورا يقول  هي " امرأة فوق الثّلاثين قليلا " ولكنّه فيما بعد يقول" فيحمّر وجهها لأنّها لم تتجاوز الخامسة و العشرين،<!--.

 ذلك أنّ العنصر النّسائي هو الآخر يندغم في هذه المرجعيّات المختلفة التّي يكتسب منها  واقعه الدّلالي

في النّص لم يكن الاعتراف حكرا على شخصيّة إيليسيو بل نجد شخصيّات كثيرة تعترف و تبوح بأسرارها ومن هذه الشّخصيات نجد شخصيّة إيناسيو صاحب الحانة الذّي يقول " اسمع يا إيليسيو في السّنة الأولى للثّورة قلت مازلنا في البداية فلن نحكم عليها وفي العام الثّاني رأيت بعض أصحابي يحلقون لحاهم إيذانا بانتصار الثّورة [..].قال لي و هو ينفث سيجاره البني نحو سقف الحانة الخشبي الداكن.

- في اليوم الثّالث فرح النّاس بانتصار الثّورة و كنت منهم فرقصت في كل الشّوارع و أقمت ثلاثة أيّام على شاطئ هافانا مع بعض الثّوار و عدد من النّساء الجميلات اللّواتي كنّ ينظرن إلينا نحن الذّين نرتدي بزّات خضراء و نضع قبعات بأشكال شتّى و كأنّنا ملائكة<!--.

 و فضلا عن شخصيّة إيناسيو نجد السّجناء فهؤلاء بدورهم يقومون بالاعتراف:" كلّ سجين وراءه قصّة، وكل قصّة هي اعتراف إنسان لم يكن يعرف أنّ النّهاية أحيانا تكون مؤلمة جدّا "<!--

إلاّ أنّ جلّ هذه القصص يرويها إيلسيو على لسانه، فهو نادرا ما يفسح لها المجال لتواجه القارئ مباشرة باعترافاتها، يقول إليسيو معترفا " فهذا لويس فيفير مدير فندق متّهم بالتّعاون مع جهات أجنبيّة قال في يوم ميلاده السّتين، إنّ أمّه المطلّقة كانت تواعد السّياح الأجانب من أجل ضمان قوت أبناءها الأربعة، ولم تكن تخجل بذلك أمامهم بل إنّها أحيانا تطلب منهم البحث عن الرّجال الشّقر في المدينة ،و استدراجهم نحو البيت فكانت تتبرّج بأجمل ما تملك من مساحيق و هي السّمراء لإثارة هؤلاء الأجانب<!--.

و إذا كانت هناك شخصيات معترفة فإن هناك أخرى تقبع ساكنة فيضطّر الاعتراف إلى تقديمها تقديما مباشرا عن طريق الوصف ، أو غير مباشر عن طريق الحوار .

فعندما يقدمها تقديما مباشرا فإنّه يلجأ إلى وصفها، و من ذلك ما يقول عن أوليفيرا " كان أوليفيرا قليل الكلام يعتني بمظهره و لا يحب معاكسة الفتيات ،و كان بارعا في لعبة الشّرطرنج، بل إنّه فاز ببطولة الجامعة أكثر من مرة"<!-- .

فمن هذا الوصف يتبيّن لنا  كون هذه الشّخصيّة تحضر في المتن الرّوائي بصفتها جدّية متّزنة محترمة و ذكيّة جدّا، كما نتعرّف على شخصيّة القاضي من خلال حديث أوليفيرا الذّي يقول " و نصف مرتادي حانة كاستيلا مرّوا من هنا ، من هذا الكرسي الذّي تجلس عليه إلى القاضي سيفيرو أريناس severo irenas الذّي نطلق عليه اسم المطرقة العادلة ،و منه إلى السّجن الذّي لا يدخله إلا الرّجال الخونة<!--.

  أو من خلال حديث رجل المخابرات ذو النّظارات السوداء:" أنت شاعر لكن القاضي سيفيرو يضع نظّارات يتشابه في عينيه كل البشر" .

 

أمّا عندما يعرّفها عن طريق الحوار مقدّما إيّاها تقديما غير مباشر فإنّه يتعمّد وضع بعض العبارات التّي تحيل على بعض جوانب الشّخصيّة ، " قال القاضي و هو ينظر إلى ساعدي الأيمن بتعجّب كبير.

- ما هذا الوشم الذّي تضعه على ساعدك؟

- وشم لتشي غيفارا

- أنت عدو الثّورة- تضع صورة أرنستو تشي غيفارا على ساعدك.

- أنا لست عدوّا للثّورة ــ و كلّ من قال هذا فهو يريد توريطي لا أكثر و لا أقل،أنا شاعر.

- أنت شاعرــ أنت ضد الثورة

...............................

- وهكذا فإنّه وبالرغم من أن شخصية "إيليسو"هي أكثر الشخصيات اعترافا لأن اعترافها هو الرواية بأكملها إلا أن الشخصيات الأخرى التي يمكن اعتبارها شخصية ثانوية تحظى داخل الاعتراف الإيليسيوي بفرصة لتمارس بوحها المشحون بالألم،

إن الاعتراف الذي يمارسه إيليسو لا يعرفنا بالشخصية فقط إنما يفتح لها المجال أيضا لتنمو، وبذلك فإن الشخصية في الرواية ليست ثابتة إنما هي تتغير طبقا للعامل الزمني و هي بذلك تقدم صورة جذابة للسرد الاستشرافي فالبرغم من أنّ الزّمن الذّي تنمو فيه الشّخصيّة هو زمن المستقبل إلاّ أنّ الكاتب استطاع تقديم الشّخصيّة تقديما يلمّ نسبيا بالجوانب النّفسية و الجسميّة للشّخصيّة، وهذا ما يميز البناء الشّخصياتي في الرّواية بالنّسبة لهذا الفنّ الرّوائي لأنّ القلائل من يحترفون الاعتناء  بجوانب الشّخصيّة في رواية خياليّة علميّة يقول إيليسيو واصفا هذا التّغير " تغيّرت ألوان النّاس وتغيرّت تسريحة الشّعر يبدو أنّني أنا الذّي تغيرّت و ليس الشّارع و النّاس سرت مع الشّارع الطّويل ليس معي غير حقيبة.."<!-- ويقول " شعرت أنّ أوليفيرا الذّي يكلّمني بهذا الحبّ الكبير الذي قابلني في مكتبه قبل عشرين عاما"<!--.

و يمكن أن نقول أنّ الزّمن و الشّخصيّة أكثر العناصر الثّلاثة تحديدا للبنية الرّوائية و بالرّغم من ذلك فإنّ للنّسيج اللّغوي خصوصيّة أيضا و هذا ما سنعرفه في العنصر الموالي.

 

2-البنية اللّغويّة من التّمازج إلى التّزاوج

 

و بعد حديثنا عن نمطيّة الشّخصيّة المعترفة كبنية أساسيّة في تشكيل البنية الشّرعية للرّواية ننتقل الآن للحديث عن خصيصة اللّغة الشّعرية و نستهل ذلك بقولنا أنّ الرّواية قد حاولت الارتقاء بلغتها عنة طريق المراوحة بين اللّغة المباشرة والانزياحيّة فقد زاوج الكاتب بين اللّغة المباشرة البسيطة التّي تتسم بالتّقريريّة وبين اللّغة الاستعاريّة الكنائيّة، وبهذا فإنّها تنقلنا من شعريّة التّماثل في البنية الدّلاليّة حيث الدّال فيها يقابله المدلول إلى شعريّة الاختلاف في ظل اللّغة الاستعاريّة الكنائيّة ،و تواجهنا هذه الظّاهرة بدءً بالعنونة الثّنائيّة (اعترافات 3 أسكرام ، أسوار القيامة) فالمقطع الأوّل يمثّل اللّغة المباشرة التّي تضعنا في عمق الفعل السّردي لأنّ الرّواية عبارة عن صرخة اعتراف يمارسها إيلسيو في فندق أسكرام بالاس أما العنوان الرّئيسي أسوار القيامة فهو يتبنىّ استعاريّة اللّغة التّي تنقلنا إلى الوجه الآخر الذّي يخفيه السّجن على اختلاف صُوره و تباين حضورها ؛حيث تتّخذ الرّواية من كلّ مكان محاط بالجدران العاليّة سجن حتّى و لو كان هذا الجدار هو جدار برلين، لأنّه في رأيها تسييج للمحبّة تسييج للحريّة و قضبنة للإنسانيّة ضد الانتفاضة والتّمرد.

أمّا في المتن السّردي فإنّ هذه المراوحة تمثّلت على وجه الخصوص في المزاوجة بين اللّغة الشّعريّة  ذات الطّبيعة الانزياحيّة و بين اللّغة النّثريّة المباشرة ،و إن كانت الثّانية أحيانا تحتضن في ثناياها لغة شاعريّة أدبيّة و بهذا فإنّ الكاتب في تعامله مع النّسيج اللّغوي يمارس لعبة التّشكيل ف "تجشتاين يشبه اللّغة باللّعب الذّي له قواعد يجب معرفتها حين ممارسة وظائف اللّغة لهذا فإنّ الكاتب ينتقل من لعبة إلى أخرى تجسدها الشّخصيّة المعترفة ليس فقط من الوظيفة التّواصليّة إلى الوظيفة الشّعريّة بل إنّه يمارس ضغوط داخل هذين الوظيفتين نفسيهما "<!--

و لقد كان لحضور اللّغة الشّعريّة أثرا كبيرا على تحديد نوعيّة العمل السّردي في جانبه اللّغوي و هذا الأمر ناتج بالضّرورة من هذه الضّغوط التّي تمارس داخل الوظيفتين ،و بالرّغم من أنّ الكلمات الجميلة قد احتفلت بالكلمات الجميلة ،في حين وظف أمين العلواني النّمط الشّعري، إلاّ أنّهما لم تستطيعا  خلق هذه الخصّيصة النّوعيّة فالشّعر في أمين العلواني فضلا عن  لغته البسيطة السّطحيّة لم يستطع أن يتكيّف تكيّفا فعليّا مع العناصر السّردية الأخرى كما لم يستطع الاندغام مع البنيّة الدلاليّة الروائيّة، أمّا الشّعر في هذه الرّواية فإنّه قادر على البوح الذّي عجزت عنه اللّغة البشريّة، فأكمل بذلك النّقص الذّي صنعته الهرولة السّرديّة التّي يحسّ بها القارئ فور  تلقّيه للاعتراف، و هذه الهرولة في الحقيقة ليست نتيجة الاقتضاب السّردي إنمّا هي نتيجة الرّغبة في ارتداء اللّثام  التعبيري الذّي يخفي الكثير من القيم الشّعوريّة و بالتّالي تحقيق التّفرد، فقد " حاول الكاتب أن يجدّد الطّاقة الابداعيّة داخل السّرديّة كما حاول  كتابة التّاريخ برؤيا القلب و نشوة  اللّغة. يرفع الكتابة الشّعريّة إلى مستوى لم نعرفه قبله في السّرد، حيث نرى قلق الانسان و تعطّشه و تساؤله، أمواجا تتصـــــــــــــــــــــــــادم مدّا وجزرا  في حركة من الغياب و الحضـــــــــــــــــــــــــــــور في أبديّة من النّور، و لأجـــــــــــــــــــــــــــــــــــل هذا فقد اتحّد بالخطاب الشعري الذّي يحقّق غائيّة التّشكيل اللّغوي فمزج  بين النّثر و الشّعر<!-- ".

 

إنّ القارئ يلاحظ أنّ حضور الصّوت الشّعري  مرتبط غالبا بالحالات الانفعاليّة المتأزّمة، و المواقف المؤثرّة، فعندما كان إليسيو في الزّنزانة قرأ شعرا لأرنستو الذّي يقول فيه : إذا طلب منك الطّفل.

أن تروي له حياة سجين قل له هناك أشياء أخرى أكثر جمالا ...

مثل الأزهار التّي تظهر آلاف الألوان

أوّل الأشياء أن تظهر له السّماء

و الفراشة و الموجة

و الفستان الأبيض

على النّوارس

عندما يبكي الطّفل الصّغير

عليك أن تروي له معنى الحياة....

حياة سجين ......

قل له توجد أشياء أخرى جميلة جدا.....

الوردة البيضاء

النّجمة البيضاء

............... <!--"

و هكذا يستمرّ الشّاعر في وصف حياة السّجين بطريقة يستطيع بها أن يتجنّب الحديث المباشر عن السّجن و حياته المأساويّة، و أجواءه الجنونيّة، و قد استعمل الطّفولة ليتمثّل السّجين بها فيكون عاجزا عن فهم  هذا السّجن، و عدم تقبّل الحقيقة المبكيّة، و بذلك يتصابر محاولا تجاوز المواجهة مع حقيقة المصير الذّي ينتظره، و في الوقت نفسه فإنّ القارئ  يفهم همسات الشّاعر التّي تكون أكثر تأثيرا منها لو تمثلت  باللّغة االسّرديّة العاديّة، و لهذا فإنّه يختتم شعره بقوله :

 

" لكن لا تقل للصّغير.

ما معنى حياة السّجين<!-- "

و عندما يشعــــــر إليسيو بالعشق الأوّل يدغدغ شغاف قلبه يستنجد أيضا بالطّاقة الشّعرية التّي تستطيع ترجمة إحساسه  فيقول :

" قبل  سان فالنتاين كان الحب .....

فمادا يفعل سان فالنتاين اليوم في هافانا ؟

يأتي ليحمل شيئا من حبنا الموعود بالحدائق الأبديّة

يأتي فيرى شعرك المسدول كشلاّلات تهزأ بها الرّيح "

...................................................................................................<!-- "

و عندما مات "بيترو "صديقه في السّجن و في اليوم السّابع من رحيله وقف في السّاحة و أخذ يرمي سهام الشّعر التّي اخترقت قلوب كلّ الحاضرين ، كما اخترق  الكثير منها صدر القارئ، يقول : " و قلت للسّجناء : " اسمعوا بترو يكلمكم من قبره "، و أحسست كأنّ السّاحة بلغت ساعة القيامة، قلت بصوت فيه كثير من الحزن:

 ليتكم كنتم معي ..... ليتني أحملكم في القلب

أمشي كأمير من أساطير الزّمان المنتشي.

بالثّورة الحبلى

بأبطال يموتون بعيدا .....

يموتون و يأتون مع الموج الأخير

و يلوذون بصمت هو كالموت و أقسى من حكايات الهزيمة.

[ و بعد الانتهاء من إلقاء الشّعر يقول ] : "  صفّق من في السّاحة، و بكوا طويلا بينما دلفت إلى الباب الذّي يؤذّي إلى الزّنزانة التّي صارت البيت الذّي أحب  .......<!-- ".

و هكذا نلاحظ كيف أن الهرولة السّردية سرعان ما تتوقّف عند دفقات شعوريّة تترجمها اللّغة السّرديّة  مانحة للحلم حق البوح بالانفعالات النّفسيّة و سردها، و كأنّها بذلك تعترف بقصور اللّغة العاديّة عن احتواء الموقف العاطفي الانفعالي.

و بالموازاة من هذا الحضور الشّعري نجد اللّغة البسيطة تتّكئ أحيانا على الثّنائيّة اللّغويّة  كمعادل  لغوي للتقريرية ، فنحن نجد الشّخصيّة المعترفة تتكلّم أحيانا بلغتين  في الموقف نفسه و كأنهّا تعتمد التّرجمة كما في قوله " و أصرخ : " سقط جدار برلين فمتى سقط جدار " كا ستيلا " ؟ كنت أصرخ وحدي  في الشّارع كالمعتوه : Patriamuerte   " . Patriamuerte    " <!--" و كثيرا ما تعمّد و ضع الأسماء باللّغتين  مثل : ميغوال فارسيا garcie miguel ، سيفير و أريناس. Sevetoarenas ميغال ماتاموروس :Matamoros  Miguel ، و غير ها و كأنّها بذلك تعطي اعترافها شرعيّة و مصداقيّة فضلا عن المباشرة والتسجيل.

إنّ هذا النمط  من الكتابة  قد سعى إلى احتواء التّنوّع الكلامي ، فقد حاول الكاتب : " أن يؤسلب الجنس الرّوائي عن طريق أسلبة  لغتها  [بوساطة] الشّعر فإذا كانت فكرة اللّغة الشّعرية الخالصة لغة الآلهة قد ولدت على أرضيّة الشّعر بوصفها فلسفة طوباويّة لأجناسه ، فإنّ فكرة وجود اللّغات وجودا حيّا ومشخّصا من النّاحية  التّاريخيّة ألصق بالنّثر الفنّي و  قريبة منه "file:///H:/%D9%84%D9%84%D9%81%

0 تصويتات / 452 مشاهدة
نشرت فى 10 سبتمبر 2017 بواسطة akilameradji

أَبو فروة الظريف

akilameradji
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,876