<!--
<!--<!--<!--<!--
المسرح لحظة عبور إلى: الذات، إلى الآخر، المستقبل، الافتراضي.
مقدمة:
إذا أردنا أن نتحدث عن المسرح بوعي أكبر، فمن الجميل أن نستذكر ما قاله جبرا إبراهيم جبرا عن المسرح، بأنه "مدرسة الشعب"، ومن الأجمل أن نستذكر أيضا أسئلته الجادة حول هذا الفن حين مضى في تساؤلاته مسترسلا:"ولكن ما الذي لدى المسرحيين أن يعلمونا إياه بالضبط؟ وما الذي نريده من المسرح؟ هل نريد أن نتعلم أم نريد أن نفتتن؟ أنتعلم أم نحلم، أم نضاعف طاقة الحياة في شراييننا، أم كلها معا؟"
لن نجافي الصواب إذا قلنا بأن المسرح وسيلة فاعلة في صياغة الفكر الاجتماعي، وأداة نافعة في بلورة الوعي الإنساني بالذات وبالآخر، ولن نجافي الصواب أيضا إذا قلنا إنه لسان الأمم وضميرها لأن المسرح يخاطب العقل والروح كليهما، كما أننا لن نجافيه أيضا إذا اعتبرناه وصلة بين جيل اليوم وجيل الغد، كما هو وصلة بين جيل الأمس وجيل اليوم، إننا ونحن نصنع مسرحا فإننا نصنع جيلا، ونبني حضارة أصلها ثابت بتراثها، وفروعها ممتدة من حاضرها إلى مستقبلها،
فأبناءنا هم الذين يتلقون ما نتعلمه، و هم الذين يستفيدون مما نعمله، ليقدموا لنا غدا زاهرا، وليس أفضل من أن نقدم لهم كنزا حضاريا نابضا بالقيم بعيدا عن التهريج والسفسفة والسفسطة !
إن الأمم التي سبقتنا في مسيرة التقدم إنما قد أيقنت فضل المسرح على حضارتها؛ وأدركت أهميته كونه أكثر احتكاكا بالواقع وبالمشاهد، عكس الفنون الأدبية الأخرى التي تتخذ من النخبة جمهورا لها، وقد عمل المسرح منذ أزل على حل شفرات الكون بدءا بالفكر الأسطوري، أين كانت الأساطير والخرافات تحكم الإنسان، وتمده بأفكار
لا صلة لها بالعلم، إن التاريخ لا يزال شاهدا على الروائع التي خلفها المسرح اليوناني القديم: من أمثال: إيسيخيلوس(aeschytus) وثلاثيته الشهيرة: "ثلاثية الأوريستيا"، سوفوكليس(sophokles) ومسرحيته: "أوديب ملكا" أعظم مأساة إغريقية، ميناندر (menander) ومسرحية "الأسطورة" وغيرها، كما أنه شاهد أيضا على الروائع التي قدمها عظماء المسرح الغربي الحديث من أمثال: شكسبير(Shakespeare)، بن جونسون (benjonson)، جورج تشابمان (George chapman)، موليير(molièr)، فولتير(voltaire) وغيرهم، وما درجت عليه الحضارات في تبنيها لهذا الفن، لما له من تأثير على مصير الشعوب ومستقبل الحضارات.
والمسرح العربي وإن كانت نشأته متأخرة عن المسرح الغربي، فإنه قد أدرك أخيرا أهمية المسرح في فهم شعوبه وتطويرها، وصنع حضارته، وأقصد بذلك المسرح المتشبع بالقيم والمبادئ الإسلامية السمحة، ومتجدرا في الهوية العربية الأصيلة متغديا بالتراث الإنساني لهذه الأمة السامية وحالما بمستقبلها، لكننا ونحن نقر بدور المسرح وأهميته في بناء حضارتنا العربية، لا بد لنا أن نضيف سؤالا إلى سؤال جبرا: هل نريد أن نسمو بالمسرح أم نريد أن يسمو المسرح بنا أم الاثنين معا؟
لكي نرقى بالمسرح يجب أن نؤمن بكونه لحظة عبور إلى الذات وإلى الآخر، إلى الافتراضي والمستقبل، وأن نبحث عن الطريقة المثلى التي يعبرنا بها إليها، وأن نجعلها لحظة أبدية تمزج بين متعة الجمال وبين جمال الفائدة، بين منجزات الماضي وإنجازات الحاضر، وبين آمال المستقبل وأحلام الغد، وسأحاول في هذا العرض تقديم مقاربة تتناول أسس مسرح عابر، فاعل، فني، شاعري، عصري تراثي، يستشرف المستقبل وينهل من خبرات الماضي من خلال ثلاثة عناصر أساسة في البحث هي:
-المسرح وعي بالذات وإدراك للآخر: وقد تناولت في هذا العنصر إشكالية المسرح وعلائقها المتشابكة بالذات وبالهوية، بالآخر وبالثقافة أيضا، محاولة أن أغوص في جوانب تمس الواقع والإنسان وترتبط بالمسرح وطرائق تناول هذا الفن للواقع ووسائل فهمه، وتجاوزت ذلك إلى الحديث عن فكرة التطهير التي ترجع إلى أرسطو.
- استيعاب الماضي، فهم المستقبل، ومقاربة الافتراضي:
وقد تناولت فيه قدرة المسرح على فهم الحاضر واستيعاب قضاياه، واستشراف المستقبل، ومقاربة الإفتراضي، وقد تحدثت فيه أيضا عن قدرة المسرح على الإجابة على أسئلة الإنسان، وارتياباته من هذا الكون والعالم، واحتكاك المسرح بالعالم الافتراضي وإفادته من منجزات التكنلوجيا، وكذلك تحدثت عن الخيال العجائبي في المسرح، وحاولت أن أقارب بعض تجارب المسرح العربي في الخيال العلمي، وأشرت إلى ضرورة الاهتمام بالمسرح الرقمي، منوهة بأنه يشبه الضرورة الخطيرة، والشر الذي لا بد منه إذا ما قرن بالرهانات والتحديات الجديدة في هذا المجال.
- المسرح بناء فني وفناء للتواصل والاتصال:
وقد تناولت في هذا العنصر كل ما يتعلق بالقيم الجمالية التي يغتني بها فن المسرح، وتناولت فيه كل ما يتعلق بنجاح التجربة المسرحية العربية: إشكالية النقد المسرحي، والجمهور وعلاقته بالنقد، وإشكالية التلقي، كما تناولت مسألة الإعداد وأهميتها في صناعة المسرح، ووسائل صناعته وغيرها، وتناولت في البحث مسألة رأيتها قليلة التناول في البحث المسرحي وهي ضرورة إفادة المسرح من العلوم الأخرى لخلق بيئة مناسبة للمسرح، واستقطاب الجمهور، وفصلت فيها دون إسهاب، وقدمت بعض سبل بلوغ ذلك، منها: الإعلان، ودراسة الجمهور، وصناعة الذوق المسرحي وغيرها من المسائل المهمة التي تساعد في الوصول إلى مسرح متجدر عربي أصيل جديد متجدد في بيئة مسرحية قابلة لاحتواء هذا الفن واستيعابه.
وقد مهدت للبحث بمدخل تناولت فيه تعريف المسرح، وخصائصه، وأركانه، بإيجاز الإيجاز
فضلا عن المقدمة التي عرفت بها إشكالية البحث والخاتمة التي حوت خلاصة عصارته وأهم النتائج المتوصل إليها، وذيلت البحث بفهرس للمصادر والمراجع، وفهرس للمواضيع، وقد حاولت أن يكون بحثي بعيد عن الحشو الزائد، والإطناب في مسائل كثيرة التناول في البحوث النقدية، وغايتي من ذلك أن لا يكون البحث مملا بالنسبة للقارئ.
وقد اعتمدت في هذا البحث على كوكبة من المؤلفات التي تتناول نظريات المسرح وتياراته وإشكالياته منها: الخيال العلمي في مسرح توفيق الحكيم لـ:عصام بهي، آراء في المسرح، لـ: بيتر بروك، ترجمة وتقديم محمد سيف، أزمة المسرح السعودي، لـ: سيف ياسر مدخلي، نظرية أرسطو طاليس في الكوميديا، لـ: عصام أبو العلا، الناقد والمتلقي، أسئلة النقد وإشكالية الجمهور، لـ: عبد الله غلوم، وعلى مجموعة من المؤلفات النقدية الأخرى ذات الصلة بالبحث منها: بحوث في القراءة والتلقي، فريناند هالين وآخرون، ترجمة وتقديم محمد خير البقاعي، الأدب العجائبي والعالم الغرائبي في كتاب العظمة وفن السرد العربي، لـ:كمال أبو ديب، وغيرها، إضافة إلى الاستعانة ببعض المقالات والبحوث الإلكترونية.
أما عن الصعوبات التي واجهتني فهي تتمثل أساسا في ضيق الوقت في مقابل محاور البحث التي تتميز بالغنى والتشعب لما لها من أهمية في التمهيد لمسرح عربي أصيل جديد ومتجدد، غني بالقيم الفنية والموضوعية؛ إذ لم يتسن لي الاطلاع على الإعلان الذي يخص المسابقة في أوانه -مع الأسف- مما اضطرني إلى العمل تحت ضغط الزمن، ورغم ذلك فقد تم العمل –بحمد الله- وإن كنت أحسبه متواضعا إلا أنه يمكن اعتباره خطوة أولى لمزيد من البحث في حقل المسرح العربي.
وفي الأخير أتقدم بشكري للقائمين على المسابقة الذين فتحوا لنا المجال للتنافس في مجال البحث العلمي المسرحي، مما يعود بالنفع على الحركة المسرحية العربية.
تمهيد:
نستطيع أن نقول إنّ التّعريفات التي وضعت للمسرح، وكذا اختلاف وجهات النظر حول ما إذا كان المسرح فنا أو أدبا، كثيرةً، وفيرةً، ومثيرةً للجدل، لكن يبقى للمسرحية طابعها الخاص في تجسيد الواقع، و في طرح قضاياه، ومعالجتها أيضا، كونها وضعت لتمثل لا لتقرأ، شخصياتها قابلة حتما لأن يتقمص أدوارها ممثلون بارعون أمام متلقي قد يكون في غالب الأحيان متلقيا جماعيا، يشاهد ويتأثر ويتواصل مع الممثلين، قد يبكي أحيانا ويضحك أخرى، وقد يتفاعل مع العرض بحركات وأفعال تعكس مدى تأثره، وقد يصل الأمر به حد استعمال العنف ضد الممثلين على خشبة المسرح، لكن في الأحوال كلها فإنّه من المؤكد أن المسرحية لا تصلح إلا إذا جسدت على الخشبة، وحالما تخرج من إطار العرض فهي سطور على رفوف، ولا يقوم بوظيفته التي وضع لأجلها، كما القطعة الثمينة لا تؤدي دورها باعتبارها زينة إلا على جسد امرأة، وإلا فهي تمكث في ظلام درج خشبي كغيرها من القطع المهملة والقديمة !.
إن قيمة النّص المسرحي إذا ليس في ذاته كوحدة لغوية فحسب، ولا في عناصره الفنية التي يتضمنها، بل في تجسيده وعرضه على خشبة المسرح، نحن لا نستطيع أن نحكم عليه قيميا إلا من خلال انتقاله من المكتوب إلى المعروض، ومن المقروء إلى المرئي المسموع، ومن الذهني إلى المحسوس، وهنا يتجسد استقلالها كجنس أدبي قائم بذاته له خصوصياته وعناصره وعالمه الخاص، ويعرف المسرح على هذا الأساس أنه ذلك «الجنس الأدبي الذي يتميز عن الملحمة أو الشعر الغنائي مثلا بأنه خاص بقصة لتمثل على خشبة المسرح»([1])أو هو: «مؤلف من الشعر أو النثر يصف الحياة أو الشخصيات أو يقص قصة بوساطة الأحداث والحوار على خشبة المسرح»([2])
وبذلك فإنّ المسرح بوصفه فنّا أدبياً يتميّز عن سائر الأجناس الأدبية الأخرى؛ إذ إن أحداثه تجسد على خشبة المسرح من قبل أشخاص حقيقيين أو شبه حقيقيين صوتا وصورة، ويعتمد على الحوار الذي يجري بين أشخاص العرض في تصوير الواقع المسرحي، عكس الآداب الأخرى التي تعتمد على اللغة والوصف في التّصوير، ممّا يجعل الأحداث ترتسم في أذهاننا من خلال كل تلك الجزئيات التي تندغم في السياق العام مشكلة متن الحكاية وصورتها، فــ«في الملحمة والرواية تمر جميع الأحداث عادة أمام أنظارنا، وتتوضّح الأطر، وملامح الشّخصيات والدّوافع المحركة، ونستمع إلى الأحاديث وندرك تلازم الجزئيات في السياق العام، أما في المسرحية فإنّ الأشخاص وحدهم يقومون بالعمل المتجلي من خلال طباعهم، والمترجم عنهم بأقوالهم ومواقفهم، وليس فيها شيء من السّرد الموضح، أو الممهد أو الملخص، بل كل ما نتوصل إليه هو ما نستنتجه من الحوار أو مناجاة النفس، أو الملامح، أو النبرات أو تفاصيل المسرح، وزخارفه، [...] ومع ذلك فإن الشعور الذي نحس به هو أن ما نراه أمامنا هو الحياة، أو جزء من الحياة النابضة بالنشاط، وهذا ما يميز المسرح عن سواه من الفنون الأدبية الأخرى»([3])
وتتميز المسرحية ببنية فنية خاصة تتكون من عدة عناصر أساسة في تشكيلها، إذ
|
«تتكون المسرحية عادة من ستة عناصر، وهي العناصر نفسها التي أوردها أرسطو في حديثه عن المأساة: 1- الحبكة أو عقدة القصة 2- الشخصيات المسرحية 3- الفكرة 4- الحوار 5- الموسيقى 6- المشهد.
تمثّل الحبكة أو عقدة القصة البنية الإجمالية، وتتكون من سلسلة من الأحداث تتطور في المسرحيات التقليدية حسب نهج مألوف. والحبكة أهم عناصر المسرحية. والمادة الأساسية التي تعتمد عليها الحبكة هي الشخصيات التي تتطور الأحداث من خلال حوارها وسلوكها. وكل مسرحية مهما كانت فكاهية تنطوي على فكرة، توحي بها الكلمات التي تتفوه بها الشخصيات. وتشتمل الفكرة على المعنى الإجمالي للمسرحية، الذي يسمَّى أحيانًا الفكرة الرئيسية أو الموضوع. ويتم التعبير عن الأحداث والشخصيات والفكر من خلال الحوار. والعنصر الخامس من المسرحية هو الموسيقى، التي إما أن تكون على شكل موسيقى تصاحب العرض، أو تنتج من إيقاع أصوات الشخصيات وهي تتحدث. أما العنصر الأخير فهو المشهد، ويعني الجوانب المرئية من المسرحية كحركات الشخصيات وملابسها والإضاءة وغيرها « ([4])
ويعتبر عنصر الصراع في المسرح جوهر العمل المسرحي وروحه، وبدون صراع يبدو العمل ميتا باليا، يفتقر إلى الحياة والمتعة.
والمسرح أيضا فن يتميز بالديناميكية العلامية، إنه يرفض بطبيعته السكون، ويعتمد التفاعل بين الجمهور وبين مؤدي العرض، لهذا فهو ينتقل بهؤلاء إلى عوالم قد يتوقعون أنهم يعيشونها، أو سيعيشونها، وتفتح لهم فصوله الأفق واسعا شاسعا لينطلقوا في مسارب الحياة ومتاهاتها، وتقدم لهم من أحداث الماضي ومنجزات الحاضر الوعي بأنفسهم وبمن حولهم، وتمكنهم من إدراك المستقبل وفقا للخبرات الراهنة، لهذا فإنه يعتبر حقا لحظة عبور إلى الآخر، وإلى الذات، إلى المستقبل والافتراضي،
إن المسرح لا يقدم لنا إجابات نموذجية حول كل ما نراه أوما نتخيل أنا نراه، بل إنه يعلمنا أن نسأل أسئلة نموذجية، إنه لحظة إلى الاغتراب إلى الارتياب، إلى الوعي، إلى التعايش، وإلى الحياة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معاني، لأنه ببساطة المسرح هو الحياة ذاتها.
لكن أن يكون المسرح حياة فيجب أن يغتني بألوانها وبمثيراتها، إذ لا يجب على سبيل الإلزام إغفال جانب الجمال فيه، إنه في النهاية فن والفن لا يكون فنا إلا بالجمال، وبالإمتاع، وجمال المسرح في احترافه للإثارة، وفي تصوير الواقع بكل ما فيه من نبض وهيجان. أن تجعل تلك الخشبة تختزل الحياة في ساعة أو ساعتين من الزمن أمرا ليس بالسهل، فكما يقول "بيتر بروك:((في الحياة تبدو الفوارق بين ما هو حي وما هو ميت واضحة، غير إنها في حقلنا تختفي وراء الحجب)) ([5])، لكنه ليس مستحيلا أيضا؛ نحن نستطيع مع بذل مزيد من الجهد أن نجعل الحياة بكل ما فيها من فتنة وإثارة ترقص على ذلك الإطار المستطيل الشكل، فتغري جميع الحاضرين وتسلب لبهم وألبابهم.
وحتى يحقق المسرح ذلك فلا بد له أن يستعين بكل الإمكانات الإبداعية التي تسمو به إلى الفنية الحقة، ويسعى للجديد والمبتكر، وهو في ذلك ينهل من كل المنجزات النقدية والعلمية التي يفرزها العصر باستمرار ويتفاعل معها متأثرا ومؤثرا، ونستطيع أن نقول إن اتجاه المسرح نحو الافتراضية الرقمية لهو من صميم هذا التفاعل؛ خاصة فيما يتعلق بالمتلقي الذي أصبح مشاهدا منتجا وفاعلا في الفعل المسرحي الإبداعي؛«فإذا كان الشعر والرواية قد استطاعا تجاوز الصورة النمطية لطبيعة عناصر العملية الإبداعية وهما أبعد من المسرح من حيث الاحتكاك بالمتلقي، فإن المسرح أولى منهما في تجديد طبيعة العلاقة القائمة بين عناصر العملية الإبداعية فيه؛ لأنه شديد القرب والاحتكاك بالعنصر الأهم، وهو المتلقي، الذي بعثت فيه التكنلوجيا الحياة، في تطبيق حي وحقيقي لمقولات ما بعد البنوية سواء سعى التكنلوجيون لذلك أم لا»([6])
إن المسرح الافتراضي، والمسرح التفاعلي هما وليدا الإصرار الذي يلح به هذا الفن على احتواء الإنسان بكل منجزاته والإفادة منها، وفهمها والتنبؤ بمستقلبها، وقبول رهانات العصر، وقهر سلطة الزمن، مؤكدا بذلك أنه لن يكون إلا لحظة عبور ما بين الفن والحياة.
1- المسرح وعي بالذات وإدراك للآخر:
عندما نكون بصدد الحديث عن الذات أو عن الآخر سواء في دراستنا للأدب أو في العلوم الأخرى، فإننا نتحدث عن الإنسان، ولقد قال أحد الفلاسفة القدماء: ((أعظم أمر يبحث عنه الإنسان هو الإنسان))، لأن هذا الكائن البشري من فصيلة متغيرة الطباع، إنه عبارة عن تحول مستمر وتغير دائم، زئبقي الظهور، هلامي الحضور، وإذا أردنا أن يكون المسرح طريقا إلى الإنسانية، فكيف نعبده إليها؟ وكيف نمر نحن عليه؟
قد تكون الإجابة شائكة ومتعددة، وقد لا تتسع في مثل هذا المقام لنسرد تفاصيلها، لكننا سنكون موقنين أنه طبعا لن يكون مسرحا عشوائيا، ولن يكون مسرح دمى تملأ الفراغ على الخشبة، وأجساد تشغل الكراسي في قاعة العرض، يجب أن تكون خطواتنا مدروسة، وأفعالنا محسوبة وقراراتنا واختياراتنا منتقاة بدقة.
«إن المسرح فن يؤكد نفسه "في الحاضر" وهذا ما يجعله مقلقا، فالمسرح هو (الرقعة التي تقع فيها المجابهة الحياتية، إذ يخلق اجتماع مجموعة كبيرة من الناس في مكان واحد قوة كبيرة، وهي القوة التي في الحياة اليومية لكل فرد والتي يمكن فرزها واستيعابها بوضوح»([7]) وتبدأ العلاقة بين المسرح والواقع، أي بالإنسان، في اللحظة الأولى التي يحمل فيها أحد قلمه ويبدأ بتأليف نص مسرحي، إنها تعتبر النواة الأولى لهذه العلاقة السريرية بين الإنسان وذاته، وبين الإنسان وأخيه الإنسان
فعندما يكتب المؤلف نصا، فإنه يصقل مرآة، وقصة المرآة ترجع إلى كون الأدب عموما هو مرآة لهذا الكون ولمظاهره الكثيرة والمتنوّعة، إنّه يمهّد للوعي بالذّات، وإدراك الآخر مهما كان هذا الآخر مختلفا عنا أو مشابها لنا، و إذا كانت الرّواية تنتسب بكثرة إلى الحياة لما فيها من الوصف والسّرد، فإن المسرح ينتسب إلى الواقع، بكل ما يوجده هذا الواقع من مظاهر وأحداث ونزاعات، وتشوّهات، وتموّجات، وبناءً عليه فإن المسرح هو "مرآة الحقيقة" بالنسبة لمحاولة فهمنا لذواتنا، وفهم الآخر المختلف عنا، ويستحيل في مجمل الأحيان أن تقول هذه المرآة غير الحقيقة إذا ما سألناها عن المعنى العام للحياة، أو المعنى الخاص للإنسان الذي يصنع هذه الحياة.
ونحن نجزم أننا إذا أردنا أن نعرف شعبا وندرك من عاداته وقوانينه كمنظومة اجتماعية فما علينا إلا أن نحضر مسرحه ونشاهده، إن تلك الشخصيات التي تشطح على خشبة المسرح إنما هي عناصر من تلك المنظومة أو تلتحق بها؛ فهي تتلبس شخصيات من عمق الواقع المعيش، إن المسرح في وصفه للأنا والهو لا يجب أن يشتغل على العموميات فقط كالسياسة، أو قضايا الحكم والسلطة؛ إنه يغوص في أعماق المجتمع ليقبض في كل مرة على لقطة من لقطات الشارع، حيث يعيش الناس بمختلف طبقاتهم وتكثر معاملاتهم ونزاعاتهم، ويتوغل داخل الأسر ليخرج لنا من أضغانها و عاداتها، ويكشف لنا من خباياها وأسرارها؛ إننا ونحن نشاهد المسرح بمآسيه وملاهيه، نضحك من أنفسنا ونبكي عليها أحيانا، و بين هذا وذاك فنحن نخضع للتطهير الذاتي بشعور أو بغير شعور منا.
وفكرة التطهير التي ترجع في الواقع إلى أرسطو، إنما هي تعود لكون المسرح يشرح ويكشف ما بداخل الإنسان، ويتناول الظواهر ذات القيمة في المجتمعات إيجابا وسلبا، فيفتح أعيننا على ما غفلنا عنه، أو تجاهلناه، أو اعتدنا عليه حتى صار بقبحه مألوفا. أو بطيبه ما صار في حكم العادي، إننا نرى أنفسنا بوضوح في المرآة فنسخر منها أو نبكي لأجلها، وإذا نحن بلا شك سنتطهر، وفي الوقت نفسه نعي أنفسنا.
والواقع إن فكرة التطهير وفكرة الوعي متلازمان، التّطهير هو ردّة فعل تُجاه وعينا بشيء، إنه يلي الوعي، تجاه ظاهرة قابلة للتّغير في أنفسنا وفي الواقع، إذا عرفت نفسك استطعت أن تعرف غيرك انطلاقا من اختلافك معه، كاللّون الأبيض لا يدرك إلا بوجود الأسود، إن الأمور تعرف من تباينها بالتّقابل، يقول بن فينيست في معرض حديثه عن اللغة: «الوعي بالذات لا يمكن أن يشعر به المرء إلا عن طريق المقابلة، فأنا لا أستعمل أنا إلا بالتوجه إلى شخص فيتضمن خطابي أنت»([8])
لهذا فإن لحظة عبورنا إلى ذواتنا تستلزم ضرورة لحظة عبورنا إلى الآخر، المختلف عنا، إنّنا نعرف ماذا نحب وماذا نكره وعلاقتنا التي تحكمنا بالآخر وموقع الصّراع، ومواطن التشابه والاختلاف ممّا يقدمه الممثلون على خشبة المسرح، وإذا وجدنا غير ذلك فلن نتردّد في الحكم كون هذه المسرحية أو تلك تفتقد إلى الحياة، لأنّ حياة المسرح تنبض بتصوير الواقع كما هو وتتغذى عليه، إنه لا يملك الخيار في تصويره مشوها، لكنّه يملك الخيار في كيفية تقديمه لنا، فإذا قال رئيس الولايات المتحدّة الأمريكية إنّه سيأكل تفاحا على العشاء، فعلى طباخي القصر أن لا يقدموا غير ذلك، لكن بالطريقة التي يرونها مناسبة، واحتكاما إلى الذوق وإلى الخبرة
- إن فهمنا لذواتنا ليس بموجب الإقرار بواقع الحال كحقيقة قارة، إن فهم الأشياء يعني السعي المستمر لخلخلتها وزعزعة المستقر والثابت فيها بما يخدم صالحنا العام، والمسرح سواء كان شكلا من الكوميديا أو التراجيديا، فلا شك أنه يضج بالدراما التي تثير الانفعالات وتهيجها، بما يسمح لنا أن نتغير؛ وإذا كنا نقر أن النفس الإنسانية تميل بطبعها إلى المصضحك، وتستعذبه وتستجيب له لموافقة الطبع فيها، فكما يقول أرسطو طاليس: «لما كانت التسلية وكل ضرب من ضروب الاسترخاء، والضحك أمور لذيذة، فإن الأشياء مضحكة –أساسا كانت أو كلمات أو انفعالات- هي لذيذة لا محالة»([9])
فإن كل شكل مسرحي قابل لإثارة أي نوع من الانفعالات فهو قادر على ممارسة التطهير، و«الانفعالات[حسب أرسطو طاليس] هي كل التغييرات التي تجعل الناس يغيرون رأيهم فيما يتعلق بأحكامهم، وتكون مصحوبة باللذة أو بالألم، مثل: الغضب والرحمة، والخوف، وكل الانفعالات المشابهة وأضدادها»([10])
- ونستطيع أن نقول إن فهمنا لذواتنا وللآخر لا يفترض صورة محددة، إننا نجول في الآفاق بحثا عن الواقع، و عن الممكن وعن ممكن الممكن، من الكتابة الواقعية إلى الخيالي، للتاريخي، في الماضي والحاضر، واستشراف المستقبل، ومن فيض الحرية إلى أفق الافتراضي الساخر أو الارتيابي، المغرب والاغترابي أيضا، وكلها تعود لنا بالنفع في تحديد هويتنا أو إيجادها، فالهوية ليس طريقا مستقيما دارجا، إنه يتغير ويتلوى بفعل الزمن، وبفعل الإنسان، الطريق التي توصلك اليوم إلى ذاتك وهويتك قد تضلك غدا عنها، يقول أكتابيوت ردا على سؤال حول هويته: ((هويتي؟ إن هويتي متغير مستمر، تنقل مستمر، وهي تتغير تباعا، وقد تكون هذه التغيرات غير تعسفية بل وتخضع لمنطق ما، غير أن هذا المنطق غامض، من الصعب تمييزه بوضوح)) ([11])
إنك يمكن أن تعرف قيمة وطنك إذا ما أطلت النظر إلى الغريب، أو عابر السبيل أكثر ما تراه في رموز تشبعت بالقيمة الوطنية حتى أثخنت وأتخمت، «فالخروج عن المألوف يعني أساسا الخروج عما هو معتاد مجتر ومكرور، عما لا ينفك عن الوجود إلى الخارج-عن العادة، إلى غير ما نحن عليه، إنه الخروج عن الحضور والتطابق والهوية نحو ما هو مخالف، نحو الغريب الذي لا هوية تحده وتحدده، ونحو الرحالة وعابر السبيل الذي يعيش في الهامش على حدود الفضاء»([12])، ثم يكون الارتداد إلى المألوف والواقعي، وما هو تحت حكم العادة والمألوف، كما الشلال فليعلو كما يشاء فإن مرده إلى البحيرة أسفله
إن أولئك الذين يسبحون في عوالم السحر وهم يصنعون المسرح، أو ما وراء الواقع، أو الذين يكتفون بنسخ الواقع كلهم سواء، إن هدفهم النبيل هو سعيهم لفهم الإنسان وما يحيط بالإنسان، وإذا تطلب الأمر لذلك فإنهم لا شك سيستعينون بالخوارق و باللامعقول لإيجاد صيغة تطابق ما هم بصدد البحث عنه،
لكن ونحن نرسم الواقع أو نشرح الإنسان، فإننا لا نسعى إلى تقديم صورة طبق الأصل عنه نكتفي بإسنادها إلى جدار صلب ثابت لا يتحرك، إننا نريد أن نرسمها بطريقة مغايرة تجدب الأنظار وتحثهم إلى تقبل الجديد واعتناق التغيير، وتقبل الآخر والتمسك بالهوية، إن الأسئلة التي قدمها المسرح على مر العصور، هي أسئلة تنغمس في الواقع تبحث فيه عن أجوبة قابلة لإعادة صياغة الفكر، وتعديل السلوك، وتقييم الخلق الإنساني وتقويمه، إن الهوية الإنسانية ليست ثابتة، إن قيمها تتغير مع تغيرات العصر، والبحث عنها يتطلب منا مرونة وقابلية للذوبان، إننا نذوب لأجل أن نجد صيغتنا الأصل، كما المعادن تنصهر في النار لتصبح خالصة، يقول عبد الفتاح كليطو: (( إذا أراد المرء أن يتجدد فما عليه إلا أن يغترب، أن يبدل مقامه، أن يغرب كما تغرب الشمس)) ([13]). وهذا هو دور المسرح أن يعلمنا كيف نذوب وكيف نتح�