<!--[if !mso]> <style> v\:* {behavior:url(#default#VML);} o\:* {behavior:url(#default#VML);} w\:* {behavior:url(#default#VML);} .shape {behavior:url(#default#VML);} </style> <![endif]-->
<!--<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Tableau Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin-top:0cm; mso-para-margin-right:0cm; mso-para-margin-bottom:10.0pt; mso-para-margin-left:0cm; line-height:115%; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin; mso-fareast-language:EN-US;} </style> <![endif]--><!--<!--
حاجوج وماجوج "مجموعة قصص قصيرة"
صدى الذاكرة
اللعنة !، اللعنة ! .....إنها لا تزال تلاحقني، أصبحت كظلي ؛ أينما ذهبت وجدتها ورائي........، عبثا أحاول أن أتوارى منها: خلف الستائر، تحت الأسرة، على السطوح، وراء الأشجار..،أوصد الأبواب جيدا لكنها تصل إلي، جسدها اللاكائني يمكنها من أن تخترق كل شيء حتى دماغي، هذه الأطياف اللعينة لا أستطيع الهرب منها أبدا، إلى متى تظل تلاحقني وتنغص علي ما تبقى من عمري، لقد صارت تعيش داخلي .
آ، عفوا أنا أعيش داخلها بعبارة أدق !
رحلت السكينة عني لم أعد أجدها حتى في أحلامي، .....ضوضاء ضوضاء،.. وأصوات مزعجة... تأتي من كل جهة، عجيج الذاكرة يزعجني......أسد أذني بيدي وأضغط عليهما بكل قوتي، لكني أسمعها بكل وضوح، صارت حياتي جحيما ….ولا أدري متى الخلاص !
أرسلت نظري في الأرجاء واستسلمت لها، ابتسمَت أخيرا وهي تخترق دماغي بهدوء...كما في كل مرة...؛ حسنا كل شيء على حاله لولا بعض التغييرات الطفيفة....
هذه الشجرة الكبيرة لا زالت في مكانها، عمرها يزيد على المائة سنة أو يزيدون ...، إلا أنها كما هي لولا أنها أصبحت جوفاء، وهذا البيت بأعمدته الخشبية لا يزال محتفظا بهيبته لولا أنه صار خرابا، وهذه الطريق المستقيمة التي تربط الحومة بالعالم الآخر..... لم تتغير أبدا إلا أنها زادت اتساعا....، الأشياء من حولي تؤكد أن زمنا مر من هنا ، لكني لم أشعر به، ولا أجد له أثرا في نفسي إلا هذه التجاعيد الكثيرة في الوجه، وكثير من الشيب في الشعر ووهن في الجسم والعظم يشهدون أني أجهضت تسعين سنة من عمري..، وأصوات الماضي الذي لا يكف يهمس لي ، وكثير كثير من الأطياف......... !
هنا في هذه الحومة الصغيرة تقبع كل ذكرياتي، آلامي، أفراحي، وأحزاني، وكل حياتي، أيامي الحلوة، ولحظاتي السعيدة التي قضيتها مع أحبتي، عندما كان المكان لا يزال عامرا بأشخاص حقيقيين، طفولتي، شبابي، أولادي الذين تفرقوا عني،
لا زلت أذكرهم جميعا، هنا عاشوا وهنا عشت !!!
أذكر تلك الفساتين الجميلة التي كنت أرتديها في صغري أيام العيد وفي مناسبات العائلة ، وأتفنن في إشعال نار الغيرة في بنات الجيران اللواتي كن في مثل عمري، وضفائر شعري الطويلة المزينة بشرائط ملونة، بشرتي البيضاء وأسناني المستقيمة واحمرار وجنتي، وحلوى النوقة التي أتناولها كل يوم خميس على مرأى منهن جميعا فيسيل لعابهن، أتذكر ملامحهن وهي تتشنج ووجوههن تتلون كحرباء في مرج، وأنا أطير كفراشة خرجت من شرنقتها للتو........
لا زلت أذكرهم جميعا هنا عاشوا وهنا عشت !!!
تحت هذه الشجرة الكبيرة كنا نجلس أنا وصويحباتي أيام المراهقة، نتحادث ونجتهد في صنع الأحلام، كل منا كان لها عالمها الخاص ، لكن عوالمنا في الحلم كانت تتقاطع جميعا عند رجل وسيم، ثري، وخلوق، وعائلة سعيدة يغبطها عليها الآخرون، كل واحدة كانت تتمنى أن يختارها القدر ويمنحها فرصة إغاظة الأخريات ،كانت أحلاما بسيطة وساذجة، في النهاية تزوجن جميعا وعشن المصير ذاته، لم يكن هناك اختلاف إلا في بعض التفاصيل الصغيرة، كلنا انتفخت بطوننا،حتى كادت تبلغ حناجرنا، وتألمنا في المخاض، دفعنا ضريبة الأمومة وصرنا أمهات، أنجبنا إلى الحياة أولادا كثرا، شقينا وتعبنا لأجلهم ثم كبروا وانطلقوا يبحثون عن مصيرهم، واجهنا قدرنا بشجاعة، وتحملنا آلام الهجر ، لكننا لم نعد نحلم فقد أوصدنا باب الأحلام إلى الأبد...
لا زلت أذكرهم جميعا هنا عاشوا وهنا عشت !!!
في هذه العتبة أجلستني النسوة وألقين على كاهلي أكواما من الأمنيات السعيدة التي لم تتحقق إلا يسيرا منها، لا زلت أذكر فستاني الأبيض، وزينتي،.... كنت أجمل عروس في الحومة كملاك هبط من السماء، زغاريد تملأ الدنيا عويلا، وبارود يزيد المكان ضجيجا، وأبي وأمي يرقصان فرحا، لقد منحني القدر فعلا فرصة إغاظة الأخريات، حصلت على أكثر الأزواج وسامة وخلقا وثراء....كان كل شيء مثاليا، حسنا فلنقل: لولا أنه تركني في منتصف المشوار ومشى على الطريق المستقيمة !
لا زلت أذكرهم جميعا هنا عاشوا وهنا عشت !!!
لا بأس، سأسير قليلا.....، بيتي الجديد كان هنا، ليس بعيدا عن بيتنا كثيرا، على الأقل يفصلهما جدار واحد أفلح بحجب أسرارنا......
لا أعلم إن كنت زوجة صالحة أو طالحة، لكني أعلم أني أنجبت كثيرا من الأولاد، وهاهنا كانوا يلعبون ويضحكون ويبكون ويتشاجرون ويشاغبون، هنا كبروا ومن هنا تفرقوا،
لا زلت أذكرهم جميعا هنا عاشوا و هنا عشت !!!
في هذا الحوش الواسع، كنا نرقص عندما تهدينا الحياة أفراحا، نرحي القمح ونعجن بأيدينا الخشنة كسرة، ونتباهى بأولادنا وأزواجنا،وشبابنا،.. ونشكي همومنا ونفشي أسرارنا، ونشعل نار الحقد بالنميمة ونأكل لحم بعضنا البعض بالغيبة، لكننا في المصائب تتشابك أيدينا كأغصان الشجرة الواحدة تواجه الريح وتصمد في وجه العواصف،
لا زلت أذكرهم جميعا هنا عاشوا وهنا عشت !!!
في هذه الغرفة، فرحت بأول مولود لي، سميته محمد، تحلق النساء حولي باركن لي"يا حليلك" أطعمنني من الزريرة، وأكبرن في أن صار لي رجل أسند ظهري له في المستقبل ! مع السنين ازداد حنقهن فقد صار لي رجال ونساء لكنهن رحلوا في النهاية، اطمأنت قلوبهم وقل حنقهم، لقد إلنا إلى النهاية ذاتها، كلنا ليس لنا من نسند إليه أظهرنا إلا جدرانا متعفنة ورطبة....... !
لا زلت أذكرهم جميعا هنا عاشوا وهنا عشت !!!
على هذه الطريق المستقيمة شيعنا كثيرا من الأحبة الواحدة تلو الأخرى....، اليوم أنا مجرد عجوز طاعنة في السن، نتنة الريح،ذات أسنان رمادية، معوجة القوام، لم يبق لي من كل ما كان إلا صدى الذاكرة، لست أملك غيره،..............
أنا اليوم أعبث بالمكان، أغير تفاصيله كما أشاء، وهذه الحومة لم يبق فيها إلا الأطياف التي تحوم حولي وتنعش ذاكرتي ، ....لقد عرفت أن هذه الحياة كزهرة تتفتح وتذبل بسرعة ، وأن اللحظات السعيدة تمر كلمح البصر، وأن اللحظات التعيسة نشتاق إليها عندما تفارقنا بصفة دائمة، ونبقى نشكو الحنين والقناطير المقنطرة من الأشواق...
لا زلت أذكركم جميعا ها هنا عشتم وهنا متم وهنا أموت
والطريق المستقيمة التي سرتم عليها ....سأتبع أثركم فيها إلى العالم الآخر، حيث سأحترق في الجحيم مع بعض من أحببت........
أوصدت باب الغرفة بإحكام.......،واتجهت إلى خزانتي الخشبية المهترئة، فتحت درجا كان مغلقا بمفتاح كبير، أخذت حبلا متينا ، لففته حول جيدي في شجاعة، استغفرت الله ونفذت الأمر،..... وأنا أعلم أني أنتحر !
وأعلم أيضا أني سأزهق زهقة أو زهقتين.... بعدها سأكون مجرد جثة باردة، لن يكتشفوا وجودها إلا بعد أن تتعفن.....
حينها سيكسرون الباب، ويدخلون البيت يتتبعون الرائحة الكريهة التي تفوح من جسدي المتعفن، يتقززون من المنظر المقرف، ثم يلفونني في أوقية ويحملونني إلى مكان حفظ الجثث، ...ألبث هناك ما شاء الله لي، ثم أنقل إلى مثواي الأخير، ستحظى الصحف اليومية بخبر مثير للشفقة، سيقرئه بعض قراءها الأوفياء ويتأثرون للخبر، وتقفل الحياة حادثة موتي بأحداث أخرى أكثر مأساوية، لكن المفرح في الأمر أن هذه الأطياف ستحترق لتصير رمادا يذريها الزمان.... !!!
عرس في مأتم
لم يكن صباح هذا اليوم عاديا أبدا؛ لقد كان مختلفا عن كل صباح طلع على القرية...، بدأ الأمر كله عندما استيقظت من نومي مذهولة مفزوعة، أذكر أن الساعة كانت تشير إلى الخامسة صباحا، منبهي المعدني الصغير الذي على طاولتي أخبرني بذلك....،كان هناك صراخ قوي ونواح ونذب تقشعر له الجلود أيقظني بهذه الطريقة البشعة، فتحت عيني وقفزت من فراشي، لم أكن قادرة على أن أنظر هل طلعت الشمس بعد أم لا، لكن كنت متأكدة بأن روح ما تصعدت إلى السماء، وأن مصيبة كبيرة حدثت في بيت من بيوت القرية، ومن قربه أحسست لبرهة أنه في بيتنا،اتجهت بسرعة إلى طاولة خشبية موجودة في زاوية من زوايا غرفتي ...،أخذت من لفافة القطن المرمية بين الفوضى التي تملأ فراغ الدرج الخشبي ودسستها في أذني، لم أنس يومها أني أعاني من فوبيا النذب والنواح ! و جريت نحو الخارج، عندما كنت أهبط السلالم كنت أشعر أني أهبط إلى الجحيم على درجات أوزيريس، وفي قاع الجحيم رأيت أمي مسودة الوجه مربدة، نظرت إلي بعينين شاحبتين، كانت تخاطبني بلغة العيون وكأنها تقول :آه يا صغيرتي إننا جميعا في هذه الجحيم مدنسين برائحة الخطيئة، لا يوجد طاهر بيننا...أجل يا صغيرتي كلنا مدنسون وكلنا ارتكب الخطيئة، خطيئة الحياة التي تتنفس بين ظلوعنا ولهذا يجب أن نموت
الموت وحده يطهرنا
جريت نحوها وسألتها،
أمي، ما هذا الصراخ ؟
- ماتت، قضت نحبها المسكينة..
قاطعتها
-من يا أمي؟، انتظري أظن أني عرفت .... هل هلكت عجوز النحس التي تعتكف أمام بيتنا تعد علينا الخارج والداخل، أرجو ذلك....
نظرت إلى ملامح وجهها فعرفت الإجابة ليست هي مع الأسف... آ لا شك إذن نتقت تلك البدينة جارتنا نسيبة، لا تكف تتنصت علينا و تنشر غسيلنا الذي لم يجف بعد بين نساء الحي.....، لا، ليست هي، حسنا لا شك أنه ذلك "الطويل بدون خصلة" الريبوح الذي يظل متسمرا في الطريق يغازل فتيات القرية ويزعجهن، لم أكف عن الدعاء عنه يوما...، أمي إذا كان واحد امن هؤلاء الثلاثة فصدقيني لن أخفي ابتسامتي شماتة في موته، لأنهم كالعشب الضار يجب أن يقلع حتى تستعيد حومتنا وقارها وهدوءها
صرخت أمي توقفي عن هذا الهراء .....
إنها سامية بنت جارنا الطيب، ماتت موتة فجائية، سمعت أنها هلكت بسبب سكتة قلبية،
- مسكينة ! نحن نرفض الموت، لهذا تعلمنا أن نرده إلى الناس الذين نراهم أهلا له، لم أكن أريد أن أعلم الحقيقة أن الطيبين أيضا يموتون........
عندما تسمعين بأن أحدا تعرفينه قد مات، تشعرين للحظة أن الحياة قد توقفت تماما، وأن كل شيء قد انتهى، وكأن شعور الموت هو شعور بالنهاية الأبدية، جميعنا نعرف هذا الإحساس الغامض الذي يعترينا لحظتها، إنه موت مؤقت للحياة التي لا زالت فينا، لكن سرعان ما تستعيد الحياة نشاطها وتصبح أكثر التصاقا بنظام الكون والوجود
لا أنكر أن الخبر فاجئني وأحزنني أيضا، لكن الحياة علمتني أن أكتم انفعالي، وأهون الأمور، تحت شعاري المفضل: هونها تهن،
كنت أعلم جيدا أن الحياة لا ترحم حزينا ولا متألما، هي فقط تحترم القوي الذي لا تقدر على إغاضته، فاحترفت البلادة، مثل جميع الأذكياء الذين عرفوا كيف يستفيدون من دروس الحياة،
لكن أمي وللأسف لم تكن من أولئك، لقد كانت طيبة جدا لدرجة أنها قالت وفي عينيها حسرة: ماتت المسكينة ولم تفرح بشبابها، وردة لم تكمل تفتحها بعد لتذبل.... !
- هوني عليك يا أمي، الموت لا يهمه أن نتفتح أو نذبل الأمر عنده سيان، كل ما يهمه موعد الحصاد !!!
نظرت أمي إلي نظرة غريبة مشحونة بالعتاب واللوم، أعرف أن سذاجتها لم تسمح لها بأن تفهم ما قلت، لكني متأكدة بأنها تعرف بأن الكلام الذي قلته غير مقبول في معجمها
"مسكينة تخلفت من ناس زمان"، لا يمكنها أن تهضم أفكار بنات العصر البليدات... !
المهم أسرعنا وألقينا على أجسادنا قماشا أسودا يستر ما تسلل من مفاتننا النسائية، و هرعنا إلى المأتم لنشارك فرقة الأركسترا عزفها المؤثر الذي يجعلنا نضحك داخل أنفسنا سخرية من دناءة النفس الإنسانية، أقصد أنا أضحك، أمي كانت متشبعة بمبادئها لدرجة أنها استلمت من فورها إلى سحر الطقوس التي تتفنن النسوة في تأذيتها وبادرت تجود بدموعها مغزارا ومهدارا مسكينة أنت يا أمي !
كان الباب مفتوحا على مصرعيه، كما هي العادة في المآتم، عندما دخلنا الباب الخارجي قابلنا حوش كبير كان هناك نساء كثيرات، ظننت لوهلة أننا في أرض لمحشر، أحسست أن رجلاي ترقصان من الخوف، سارعت إلى الاختباء في ركن من أركان البيت، وبدأت أستمع بدقة وخشوع زائدين إلى تلك الطقوس المملة: نساء تصيح كديكة مبحوحة، وأخرى تتظاهر بالإغماء فتلقي بثقل جسمها على أكتاف أعدائها استثمارا للفرصة التي قد لا تتكرر إلا بعد أشهر، أين يأتي الموت ملثما ليخطف واحدة أخرى....فتيات تؤبن، ، وقفات، وجلسات، حركات غريبة، روحات وجيات، المنظر بمجمله يبدو كأنه رقصات عشوائية لنساء مصروعات .....،وفي وسط هذا الكرنفال قليل من الدموع الساخنة تسكب في صمت في إحدى الزوايا المظلمة دون أن يهتدي إليها أحد أو يحس بمرارتها..
وبينما نحن كذلك إذا بامرأة سمينة، فارعة الطول، تدخل البيت، حل صمت رهيب، رفعت رأسي إليها ونظرت جيدا، وفي عقلي ألف سؤال من تكون هذه وما سر هذه الهيبة، حاولت خنق فضولي فالموقف لا يسمح بالسؤال، وقفت المرأة تفحصت المكان ولم تلبث غير يسير حتى قبضت على فراغ في الحوش، تقدمت وألقت عبايتها، وجلست القرفصاء، خلعت خمارها وبانت خصلات بيضاء من شعرها، وسرعان ما بدأت بالصراخ والعويل، ودموع تسيل، أتت على محاسن المرحومة كلها فلما أنهتها بدأت باختلاق البعض الآخر، لا أنكر أن صوتها كان جهوريا صداحا كل من في الحوش أخذ بالبكاء، كان الأمر رهيبا، فيم بعد عرفت من أمي أنها ناذبة فحلة
يال المهزلة
غادرت المرأة من فورها أحد النسوة من أقارب الميت أبهجنها بكيس صغير، تنفست الصعداء أخيرا حل هدوء..لكن ما إن فعلت حتى دخلت أخرى كانت تستعجل الخطى رأيتها تبحث بعينيها عن أم الميتة وما إن وقعت عليها حتى بدأ الهندك والمندك، ألقت بكامل جسدها على الأرض وأخذت تصيح وتنوح وتتقلب ككبش مذبوح وهي تنظر بطرف عينها إلى الأم المفجوعة، أحدهم أخذها من هناك ربما أرادها المعزون، فوقفت المرأة كما لم تبك من قبل، وأسرعت إلى مجلس قريب تتحدث وتضحك وتقص من الأكاذيب... يالها من تمثيلية
الشيء الذي يعزينا في مصابنا، هو أن الأمر لم يدم طويلا، فما هي إلا لحظات قليلة حتى علا اللغط والسخط، وطغى الهرج والمرج، سمعنا أفواه تتشدق، وأصوات تتملق، وما لبثنا غير يسير حتى علت ضحكات وكثرت الغمزات، ورأينا أياد أليمة تعد اللحم، وأسنان تمشمش العظم، وألسنة تلحس الشحم، وأطباق من الكسكي مزينة بخضر يبدو من منظرها أنها طازجة توضع أمامنا في سخاء مبالغ فيه، اعتدلت النسوة في جلستهن، أراهن أن كل واحدة من الحاضرات نست من تكون في تلك اللحظة، اتجهت العيون إلى الطعام.....الطعام أولى الأوليات في المآتم، وبدأ الذم والمدح، لذيذ هذا الكسكسي، أخرى لكنه جاف بعض الشيء، أخرى: في عزاء ابن خالتي كان الكسكسي ألذ لقد كان المرق أكثر إداما وكان أبيضا وصاحت واحدة بأعلى صوتها اللحمة لم تعطوني اللحمة نصيبي، وهرولت واحدة من أقارب أهل الميت لتسكتها ولتحافظ على ما بقي من مهابة المأتم، أحضرت في يدها كسكاسا كبيرا فيه كل ما تبقى من اللحم، خذي لحمتك وما إن امتد يدها إلى لحمة كبيرة حتى تدافعت أيادي لمجلس لتظفر بما هو مماثل....، شعرت وأنا أرى ذلك المنظر أنهن صقور تتدافع على فريسة، بعد أن ملأن بطونهن بطعام دسم منحهن الطاقة لأجسامهن ها هن يبدأن في سرد قصصهن وقصص أمهاتهن وأجدادهن، وتحول المجلس إلى مربع للنميمة والغيبة، وطار الذكر والترحم دون عودة، أما أنا فلم أجد من هذه الفوضى العارمة لجسدي النحيل مكانا، فلم يكن مني إلا أن اجتهدت في تكميش أطرافي حتى أحسستني سأختلط في بعضي...إنه عالم النساء إنهن يستطعن بمهارة أن يخلعن عن الموت ثوبه الأسود في سويعات قليلة ويجردنه من قتامته وهيبته، لم يعد لهادم اللذات ثوبا أسودا لقد صيرنه بثوب ذي ألوان زاهية بديعة....، سبحان الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، "والله إن كيدكن لعظيم حقا.
وتساءلت كيف نملك نحن معشر النساء هذه القدرة العجيبة على ترويض الوحش الكاسر الذي يرقد داخل الموت بهذه البساطة، ونعجز عن ترويض أنفسنا التي تزمجر غيرة و تعوي غلا وحقدا، لكن لم يتسنى لفكري المتعب أن يبحث عن إجابة تطفئ نار الحيرة التي تشتعل داخلي في تلك اللحظات، وبينما أنا في أخذ ورد إذا بامرأة غامضة تتقدم نحوي بخطوات ثابتة، كنت أحس وهي تقترب مني أنها في منأى عن كل ما يحدث حولها، كانت تقترب وتقترب ثم تقترب حتى شعرت بأنها ستلتصق بي، جلست إلي وقد قابلتني بجنبها ووجهها، وأخذت تتفحصني بنظراتها الثاقبة، الشعر، الوجه، اليدان، النهد، الخصر، الأفخاذ وصولا إلى بنان رجلي، ثم انتهت أخيرا بابتسامة ذكية توحي بالرضى التام منحتني بها راحة وأمانا...بعد أن كنت في أمس الحاجة إليهما في ذلك الموقف المحرج
وضعت يدها على رجلي واستندت إلي في محاولة بائسة للاقتراب مني، ثم أخذت تحدثني عن أخيها العازب، كم له من المال، وماهو عليه من الجمال، تحدثني عن طيب الخاطر وصفاء القلب، وعن حنانه، ورجولته المكتملة....، ومتعت حواسي بفارس الأحلام وهو يتشكل أمامي صورة وصوتا، ثم فاجئتني بطريقة منعتني بها أن أستفيق من حلمي الجميل بسؤالها الصارم: هل تقبلين أن تكوني عروسه؟
لقد كانت المرأة بمهارة تفوق مهارة أركسون ميلتون في الإقناع والإيحاء، حيث إني بادرتها بالإجابة من فوري ومن دون تفكير نعم !. وأنا أعترف في قرارة نفسي بأن النساء يجدن القيام بالتنويم المغناطيسي باحترافية حتى وهن في حضرة الموت !
انتهت الجنازة نفضنا أيدينا من البكاء والعويل، وعاد الهدوء إلى الحومة أخيرا، أما أنا فقد ظفرت بزوج وسيم وثري لم أكن لأحلم به في حياتي، وما هي إلا بضع شهور حتى تم العرس وزفني أهلي إلى بيتي الجديد، وكنت كلما سألني صديقاتي، أين ظفرت بهذه الحبة الفريدة، كنت أجيب بدون تردد:" عرس في ماتم !"
صدى الخطيئة
-
قرية بأكملها تتحول إلى خراب، بعد أن أحرقت صواريخ الليزر "HE3"كل معالم الحياة فيها، وقد أفادت السلطات المختصة أن هذه المحرقة التي تعد الأولى من نوعها قد قضت على كل سكان القرية...،هذا وقد أفاد المصدر ذاته أنه لم ينج من هذه المحرقة إلا طفل صغير، كان قد وجد تحت الشجرة في حالة حرجة جدا، وقد نقل إلى المستشفى أين أدخل العناية المشددة، علما أن الأطباء قد أكدوا أن الفحوصات الأولية تثبت فقدانه لذاكرته إثر الصدمة....جريدة السلام،ع96، سنة3030م |
- آي...........
- أو أو.............
- أو أو...............
- هل من أحد هنا؟
- هل من أحد هنا؟
- فليجبني أحدكم !
- فليجبني أحدكم !
ها أنا أسير في الخراب، لا شيء غير الفراغ ورائحة الخطيئة....،يحاورني الصدى ويؤنسني السراب.....،ولا أثر للحياة في قريتي المنسية..... !
مشيت وخلتني أعرف نفسي، أركل الحصى بقدمي ويدي في جيبي، كأني عدت إلى النهاية وانطلقت منها...،بعد كثير من التسكع دخلت البيت الذي أظنني أعرفه أيضا، نعم المكان ذاته، لكن البيت مختلف، شيء فيه يشوه منظره، إنه يبدو مهجورا خاليا من الحياة.......، لكن لا بأس هناك ما يجمعنا رغم هذه الوحشة، كأنه جثة باردة وأنا قلبها، كلانا ميتان، كلانا مرآة لمأساة حدثت هنا ذات يوم،......كان الباب مفتوحا على مصراعيه لأنه لم يكن موجودا أصلا، عندما وطأت عتبته أطللت برأسي إلى الداخل وصرخت بأعلى قوتي ليؤنسني الصدى: هل من أحد هنا؟ كان الصدى مضيافا لبقا فرد علي بسرعة بضاعتي، لم أهتم، .........اصطدمت الخفافيش بوجهي وهي تغادر البيت مذعورة.......، دخلت البيت، عانقتني خيوط العنكبوت بكل حميمية، وغطّاني الغبار المتصاعد بسبب خطواتي، أحيانا كان يتسرب إلى مداخلي التنفسية ..أسعل بقوة فيكتظ المكان ضجيجا، تجولت هنا وهناك أبحث عن أثر للذكرى لكني لم أعثر على نفسي بين كل هذا الحطام، لم يكن هناك وجود لشيء غير جدران تصلي بعضها شبه قائم وبعضها راكع والبعض الآخر خر ساجدا ! لا أبواب، لا نوافد، يبدو أن النيران التهمتها، كثير من الرماد، وسقف على وشك أن ينهار..... !
تساءلت في سذاجة أين ذهب الجميع؟: أمي، أبي، إخوتي، وجيراني، أحسبهم قالوا لي أنهم كانوا يعيشون هنا.....،لا أحد في القرية.......، خرجت من وسط الحطام إلى الخراب وتجولت من جديد في أرجاء المكان الغابر..... رأيت الطير يأكل من رأسها ! ابتسمت.......وعدت إلى السؤال من جديد ترى كيف كانت تبدو قبل ثلاثين سنة، لا بد أنها كانت كجنة سبأ، كان هنالك أصوات كثيرة، ضجيج الحياة يملأها، وهناك أطفال يلعبون ويمرحون، غير مهتمين بما ستفعله بهم الأيام، أتخيل أنه كانت هناك بعض الزهور، وفراشات تحوم بالمكان، المنازل أضواءها مشتعلة في الليل تفوح منها رائحة الطعام، تفوح منها رائحة الحياة وتنتشر في الأرجاء، أتخيل أنه في إحدى البيوت كان هناك فتى مهمل لا يحب حل واجباته المدرسية، لا يحب المدرسة إنه يعشق الحياة مثلي، يريدها ضوضاء وفوضى يخاف من الصمت، ومن الهدوء.....، الهدوء دائما يأتي بالعاصفة...، تخيلت أن هناك امرأة حامل تعد بأصابعها أياما تفصلها عن المخاض، تحلم بمولود ذكر....، يوم المحرقة تفجرت بطنها إلى قطع وصار الجنين رمادا!، تخيلت أن أشعة الشمس كانت تداعب أطراف العجزة المتصلبة وهم يسدون عتبات المنازل، وأنهم كانوا يستمتعون بها تدغدغ آلامهم ، وأنهم كانوا يبتسمون عندما يجترون ذكرياتهم كل يوم وهم يحمون أجسادهم يخافون أن تبرد وأن تموت الذكرى.........تخيلت أنه كان هناك أناس كثيرون في هذه القرية يحلمون ويعملون لأجل أحلامهم لكن الخطيئة قتلت أحلامهم...قتلت الحياة !!!
تابعت المسير نحو الهاوية .......، قررت أن لا أتوقف أبدا الوقوف يتعب رجلي ويزعج ذاكرتي المفقودة....... على إحدى الصخور التقطت عيناي قطعة ورق......،أسرعت إليها رفعتها، قلبتها، نظرت إليها عن كثب...........صفحاتها كانت بالية.....نظرت إلى التاريخ..كان سنة"22يوليو 3030 م" أي قبل ثلاثين سنة من وفاتي !، حاولت أن أبحث في وسط هذا الرفات الذي يتطاير من بين يدي عن حروف تقرأ.....قلبت القطع.........فجأة عثرت على مربع صغير كان قد سلمت بعض كلماته..."قرية بأكملها تتحول إلى خراب، المحرقة أبادت سكان القرية عن باكرة أبيهم، لم يسجل وجود ناجين ما عدا طفل صغير يقبع الآن في العناية المشددة، الطفل فاقد لذاكرته..." هذا ما استطعت لملمته من تلك الكلمات المبعثرة بين القطع....، قلبت قطعة أخرى، وجدت صورة الطفل كانت مشوهة جدا، لكني استطعت أن أتعرف عليها إنه يشبهني ، ابتسمت إنه أنا !...حسنا هو ليس صورة طبق الأصل عني فلنقل أن الزمن غيرني أصبحت أكثر ضخامة....أصبح لي شاربان وعضلات مفتولة وصدر عريض وذاكرة مفقودة... قبضت على الذكرى بسرعة ووضعتها في حقيبتي، وأسرعت أخرج من الخراب بخفي حنين !
حاجوج الحب
بدأت قصتي عندما أحسست ذات صباح بشيء دافئ يسري في جسمي، شيء يتغير بسرعة....كما في الحلم، أدخلت يدي تحت ثيابي وتحسست بحذر، مررت أطراف أصابعي على عضلات جسمي التي بدأت بالبروز....، وعلى كل الأشياء الغريبة التي بدأت تغزو جسدي دون استئدان !...، وما إن انتهت جولتي الاستكشافية حتى أدركت بمحض صدفة بائسة أني صرت أهلا للحب !
استبشرت خيرا ورقص قلبي فرحا.....وكنت قد سمعت عنه في الأساطير، وفي حكايا جدتي، وقرأت عنه في صفحات الكتب وقصص الخيال، وألف قصة وقصة في رحابه كانت قد تلتها بخشوع على مسامعي فتيات كن قد سبقنني بالتجربة !!!
لم أتمهل ولم أتردد لحظة، أسرعت أبحث عن الحب في أحلامي، وفي الشوارع، وبين الأزقة، وفي الأطلال الغابرة، وفي عيون كل شاب مكسور، و كل قلب مغمور، وفي كل عقل مخمور، بحثت وبحثت دون كلل أو ملل، أثناء رحلتي في البحث عنه، مرت بي حيوانات ترقص للرذيلة، وسمعت كؤوسا تضرب نخب الخطيئة، لكني كنت كفرس برية لم تجد مروضها...، أخذت أقلب صفحات حياتي الواحدة تلو الأخرى والأخريات، لا داعي للقراءة، كنت أعلم أن القراءة ستؤخرني عن ضالتي وستشغلني عنها بعض الوقت !، كان علي أن أسرع إليه، أن أسرع إلى الحب؛ ذلك الكائن السحري الذي نحس به ولا نراه، ولكننا نعرفه ونعرف أيضا أنه يعيد للعجزة شبابهم، ويعطي العين بريقا، والوجه نظارة والقلب دقات متسارعة !
ومرت الأيام سريعا، والسنين...، وحدث أن صادفت ذات مساء رومانسي حبي الأول، كان ساحرا كألعاب الخفة، جذابا كحيوان، ممتعا كغزل البنات،... تقدم مني بثبات تفحص جمالي بعين "كولومبوس"، دار حولي مرات عديدة كأنه يعد أنفاسي التي كنت أحبسها داخلي، ثم وفي حركة سريعة لم أتوقعها بلع ريقه، ثم ابتسم وأعجلني بقوله وهو يبسط يده إلي: "هات يدك، تعالي معي سآخذك إلى الجنة الموعودة"
عندما سمعت كلامه الذي يقطرا عسلا، غشيتني غشاوة، أحسست أن كل أطرافي ترقص رغما عني، أصبحت في لحظة ككلب جائع رأى قطعة لحم نيئة فلوح بذيله، ودون تفكير رميت يدي في يده، أذينا طقوس الحب لساعات...، ثم سرنا معا باتجاه الجنة...
مشينا طويلا لكننا لم نصل إليها حيث إنها كانت تبتعد عنا أكثر كلما اقتربنا منها، وكانت تتوارى خلف آكام الأكاذيب، وتلال الوعود الزائفة ....، وشيئا فشيئا بدأت رغبة السؤال تتسلل إلى عقلي المخدر، وكنت بين الفينة والفينة أردّد السّؤال ذاته: متى نصل إلى الجنّة، لكنّه كان يتهرب من الجواب في كل مرة بابتسامة ساخنة ثم يستمتع بوجنتي وهما تذوبان حياء، ثم نواصل المشي كأن شيئا لم يكن...
لكن الطريق كانت طويلة طويلة جدا، أحسست بالتعب الشديد يوهن جسمي الناعم، وتورمت رجلاي، وتوقف عقلي عن التفكير بالمرة، ...أخذ شيطان الغضب يرقص في صدري بملابسه الداخلية النتنة، تهيجت و صحت به :"أين جنتك اللعينة لقد تعبت"
عاد إلى ابتسامته الماكرة من جديد، هو يعلم أنها سلاحه السحري، وببرودة أعصاب كما في كل مرة كان يجيبني" لقد اقتربنا أغمضي عيني