موقع ياسرالجدي

موقع شخصي يحمل مقالات متعددة في شتى العلوم

قد تجد مبررا للخوف من الإسلام في الغرب؛ لأنه لا يستند إلى الخوف من حركات إرهابية تنشأ ثم تتلاشى عبر التاريخ ، فكل الملل وكافة المذاهب الفلسفية التي انتشرت انتشارا واسعا عبر العالم خلال القرنين الماضيين شهدت هذا النوع من الحركات السرية التي تتبنى العنف طريقا والسلاح وسيلة لنشر أفكارها. لا يمكن ، إلا لشخص سطحي ، أن يعتقد أن ما يقلق ا...

لغرب من الإسلام هو تلك الحركات ، إذ لم توجد تلك الحركات عبر الألف وأربعمائة سنة الأخيرة ، ولم يقم مسلم واحد بعملية إرهابية في أوروبا العصر الوسيط.. ومع ذلك فإن الخوف من الإسلام كان على أشده لأسباب أخرى ، بعضها ديني وبعضها سياسي وبعضها اقتصادي.. فالخوف من الإسلام بدأ منذ لحظة أن سيطرت جيوش المسلمين على طرق التجارة في العالم القديم وحوصرت أوربا بدولة المسلمين التي امتدت على رقعة بلغت نصف مساحة العالم القديم وتحول البحر المتوسط من بحيرة رومانية إلى بحيرة إسلامية.

والبعض يفسر المكتشفات الجغرافية الأوربية مطلع العصر الحديث ، بأنها ليست سوى نتائج سعي دؤوب من الأوربيين للبحث عن طرق للتجارة بين أوربا والهند والصين بعيدا عن الطرق القديمة التي أمست تحت سيطرة المسلمين دون استثناء.

على العموم فإن الخوف من المسلمين في أوربا إنما يسكن في ضمير وروح الحضارة الأوربية ، منذ عهود بعيدة ولأسباب ترجع لمواجهتهم جيوش المسلمين العرب ثم الأتراك في عدة مواجهات فاصلة سيطرت على أحداث العصر الوسيط. ولا يمكن أن يفسر لنا البعض هذا الخوف ببعض المظاهر والأحداث هنا وهناك ، أو لوجود القاعدة أو الحركات الفلسطينية ، فكل هذه ليست سوى مناسبات لظهور ما هو موجود فعلا في بنيان الحضارة الغربية من عدم ارتياح تجاه الإسلام والمسلمين.

ولا يمكن التغلب على تلك المشاعر في الموروث الثقافي الغربي إلا بجهد هائل من المسلمين بغرض الطمأنة ، وجهد مواز من قبل الغرب للتغلب على مخاوف لم يعد لها أساس ، بالإضافة إلى الحاجة لتغيير سلوكيات الغرب الذي يستغل تلك المخاوف الدفينة لصناعة عدو وهمي لشعوبه لاستنهاض هممها ، دون أن يبالي بنتائج ذلك على السلام العالمي والعلاقات بين الشعوب.

كل هذا مفهوم ، غير إن ما لا نفهمه هو هذا الخوف الذي يحمله بعض من المصريين من الدولة الدينية الإسلامية ، وكأن تلك الدولة كانت موجودة ، وها هي تهدد بالعودة. ولا يأتي الاندهاش من هنا لمجرد أن هؤلاء يحملون تلك المخاوف ؛ فلا يمكن لنا أن ننكر على فريق من المصريين قلقهم مما يعلن عنه البعض هنا وهناك من أراء شديدة القسوة والتي تشي عن عدم إدراك لحقيقة الدولة الحديثة وما يجب أن يسودها من مفاهيم وعلى رأسها "المواطنة".

يأتي اندهاشنا من مصدرين: الأول ؛ أن يحمل البعض مفاهيم أفرزتها الكنيسة الكاثوليكية في العصر الوسيط على أنها مفاهيم إسلامية ؛ والثاني: أن يعتقد البعض الآخر أن تلك المفاهيم ، وهذه الجماعات يمكن أن تغير في حركة التاريخ المصري من الإسلام المعتدل ، إلى الإسلام بثوب كاثوليكي عتيق ، تخلت عنه حتى الكنيسة الكاثولكية الحديثة.

فعندما يتحدث البعض عن مرجعية دينية ملزمة في مجال التشريع أو التفسير أو الأخلاق ، فهو إنما يستعير ذات التعبيرات ونفس الأساليب التي تبنتها الكنيسة الكاثوليكية في أوربا العصر الوسيط والتي أدت إلى وجود نظام قانوني وقضائي وأخلاقي خاص بالكنيسة ، حوسب على أساسه المجتمع الأوربي ، وتحكم به رجال الكنيسة في رقاب ومصائر العباد ، حتى ضجت أوربا بالثورة وخرجت عن بكرة أبيها من ربقة الكنيسة إلى فلسفة جديدة طورتها ، تجعل للكنيسة دورا محدودا في الحياة لا يتجاوز مجال الشعائر الدينية ، ومحرم عليها حتى إبداء الرأي في مجال السياسة والتي أصبحت من المهام المقتصرة على الدولة دون غيرها. وتلك هي العلمانية.

ويخطئ بعض المتدينين الذي يرون أن محاولتهم وضع رقابة دينية على كل سلوك وعلى كل إجراء في المجتمع هو مما يقرب الناس من دينهم ، فالإسلام لا يقر بتلك الرقابة ولم يجربها عبر تاريخه سوى في بعض الدول الحديثة التي تستند إلى بعض العناصر ، منها الدين ، لإحداث تماسك مجتمعي لم يكن موجودا عبر التاريخ ؛ فيتم استعمال الدين كأداة لسيطرة أسرة أو طبقة على الدولة من أعلى. كما إن دينية الدولة ، هي تجربة لم يدخلها المسلمون ولم يستسيغوها ، فلم يقروا بشرط أن لا يحكمهم إلا من بلغ درجة الفقه ولم يقبلوا أن يتحول المسجد من مكان عبادة واجتماع إلى مؤسسة ومصدر للسلطة والنفوذ.

غير إن الكنيسة الكاثوليكية الأوربية دخلت تلك التجربة وعاشتها حوالي ألف عام وخرجت منها خاسرة وفقدت ملايين من روادها ومن معتنقي ديانتها بعد أن فقدت ثقة الناس في قدرتها على القيادة أو الحكم أو أن تكون مؤتمنة على أي قدر من السلطة.

ولا يمكن رد حالة الإسلاموفوبيا التي تجتاحنا إلى المتدينين وحدهم وإنما أيضا إلى أولئك الذي يستنفرون الناس ضد التدين عموما والادعاء بأنه طريق لخلق كهنوتية دينية وتهديد مدنية الدولة ، ويرون في بعض الجماعات الدينية قوة هائلة يمكنها أن تبدل من قيم الإسلام العليا التي لا تقر رقابة مؤسسة أو جهة دينية على الدولة ومؤسساتها ، أو أن تغير من طبيعة الشعب المصري الذي مرّ عليه الغلاة والمفرطون وبقي هو معتدلا بلونه ونكهته الخاصة.

وكما أن التدين الإسلامي لا يعني القبول بدولة دينية ، فإن التدين الأمريكي فترة التأسيس والذي انعكس في إعلان الاستقلال لم يمنع أمريكا من أن تنشأ دولة مدنية لأمة متدينة في أغلبها ؛ وكذلك فإن تدين النظام الملكي الإنجليزي لم يحوّل انجلترا لدولة دينية. والغريب أن هذا الجزء من المصريين يدرك دون شك أن الإسلام عبر أربعة عشر قرنا لم يتحول لكهنوتية دينية أو لدولة دينية ، رغم أنه لم يكن يمنعه من ذلك شئ فيما لوكانت قيمه تسمح بذلك. وكان الأولى بهؤلاء الدفاع عن حق كل صاحب رأي أن يدلي برأيه وأن يدافع عنه ، حتى أولئك المتدينين الذي يعتقدون أن الوصاية الدينية على الدولة مسألة إسلامية ، وكان عليهم أن يتركوا المسألة في نطاقها من الجدل الفكري دون تحويلها إلى سبب للصراع السياسي يلهينا عن الهدف الأسمى وهو إقامة دولة ديموقراطية ناهضة.

واللافت أن الإسلاموفوبيا التي في بيتنا لها طريقتها الخاصة في فرض أولويات العمل في مصر بعد الثورة ، ففجأة تتركز الأنظار كلها حول المادة الثانية من الدستور مهملة ما قامت الثورة لأجله وما نزل الوحي لتحقيقه وما أرسل الله النبيين لنشره وهو إعلاء قيم الحرية وحقوق الإنسان وليس لإقامة بعض الناس أوصياء على البعض الآخر تحت أي دعاوى أو مبررات.
المصدر: مقال ل د.محمد محسوب عضو الهيئة العليا لحزب الوسط
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 107 مشاهدة
نشرت فى 4 أغسطس 2012 بواسطة aisser

ساحة النقاش

aisser
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

16,960