فسخ الخطبة في القانون وآراء الفقه والقضاء

 فسخ الخطبة في القانون والفقه والقضاء
بيننا فيما سبق انه في ظل المذاهب الإسلامية كان الرؤى متردداً حائراً بين التقرير بمبدأ التعويض والعدول عن الخطبة وبين مبدأ عدم جواز هذا التعويض.
وفى ظل القوانين الوضعية لازمت فكرة الخوف على حرية الزواج من وضع القيود عليها ، ففي التقنين المدني الملغى ومن بعده التقنين الحالي – ثار الخلاف بين الفقه والقضاء حول ذات المسألة ، وعلى الرغم من أن المبدأ في حد ذاته ليس جديداً على الفكر الروماني ولا على المذاهب الدينية .. فالرومان عرفوا فكرة التعويض عن فسخ الخطبة وطبقوها. وباستقراء الآراء الفقهية في هذا الموضوع في ظل الفقه القانوني الحديث والمعاصر وجدنا أنها في عموميتها أجمعت على جواز التعويض وجاء الخلاف حول الأساس القانوني لهذا التعويض.
* وقد إنقسم الرأي إلى أساسيين:
أولهما : رأى ينادى بالتعويض على سند من المسئولية العقدية لأن الخطبة وفقا لهذا الرأي ما ها إلا (عقد بوعد بالتعاقد على الزواج ).
وثانيهما: رأى ينادى بالتعويض على سند من المسئولية التقصيرية في صورة من صور الخطأ فيها وهى التعسف في استعمال الحق لأن الخطبة في نظر هذا الرأي ليست بعقد على الإطلاق.
والرأي الثاني هو المجمع عليه من كثير من فقهاء القانون وشارحوه ويكاد يكون معمولا به في كثير من أحكام القضاء
وفى مبحثين متتاليين سنتولى عرض كل رأي وسنده.
المبحث الأول ( المسئولية العقدية كأساس للتعويض عن فسخ الخطبة) :
* تأثر الفقه المصري في تناوله لمسألة الأساس القانوني للمسئولية عن فسخ الخطبة ، بالآراء التي زاعت في الأوساط القانونية الفرنسية, ومن الفقه المصري الذي نادى بالمسئولية العقدية فى التعويض عن فسخ الخطة المستشار حسين عامر وذلك بقوله ( الذي نراه أنه فى الخطبة يصدر بإيجاب يقترن بقبول على الوعد بالزواج فهو اتفاق أراء الطرفان فيه أن ينشئا علاقات قانونية بينهما, وإذن فهو ارتباط قانوني وعقد كامل يلتزم فيه كل من الطرفين بإجراء التعاقد النهائي وهذا الوعد لا ينشىء إلا حقاً شخصياً إلا أنه لأي الطرفين أن يطالب الأخر بالتعويض عن رجوعه عن هذا الوعد وليس هذا ما يمس حرية الزواج إطلاقاً إذ يعتبر ذلك الوعد عقد تمهيدياً تعاقد فيه الخطيبان على الزواج بعد أن اطمأن كل منهما إلى اختيار الأخر زوجاً له وقد أراداه فعلاً وحقيقة). والفقه المصري المنادى بالمسئولية العقدية هنا يكون نادراً. وأما عن القضاء المصري فقد ندرت أحكامه القائمة على المسئولية العقدية وكان من بين الأحكام التي تصدت لهذا الموضوع حكم محكمة الإسكندرية الابتدائية فى 29/11/1948 الذي أقرت فيه بأن الخطبة عقد ملزم ولا يجوز إغفال الأثر القانوني المترتب على مخالفته وأنه وإن كان ليس ثمة ما يوجب الوفاء به عيناً إلا أن العدول عن الوفاء بهذا التعويض يوجب التعويض.
ولم يأخذ الفقه ولا القضاء فى مصر فى مجموعه بهذا الرأي رغم وجاهة أسانيده وقياسها على سند صحيح من القانون وعدم تعارضه مع أحكام الشريعة الإسلامية.
المبحث الثاني : (المسئولية التقصيرية ) [التعسف فى استعمال الحق كأساس للتعويض عن فسخ الخطبة]
يكاد الفقه الفرنسي والمصرف وكذلك القضاء يجمع الآن على أن التعويض عن فسخ الخطبة يقوم على أساس المسئولية التقصيرية وعلى صورة خاصة من صور تلك المسئولية فى استعمال الحق.
ولكي تعم الفائدة وتكتمل الصورة المعروضة بوجه أكمل فإننا سنعرض فى الصفحات التالية لدراسة مقتضبة لمبدأ التعسف فى استعمال الحقوق منوهين إلى أن البحث لم يخصص لدراسة مستفيضة لهذا المبدأ. ولكننا نعرضه للاسترشاد به فى مسألة التعويض عن فسخ الخطبة ولنعرف الأساس الذي قامت عليه تلك المسألة.
التعسف فى استعمال الحق – تعريفه وأساسه وتطوره :
يقتضى تعريف التعسف فى استعمال الحق بداهة أن نضع تعريفاً محدداً للحق الذي يتم التعسف فى استعماله أو الذي هو محل التعسف. وفى تعريف معنى (الحق) اختلفت النظريات الفقهية ، ولم يرد فى القانون المدني تعريف لكلمة (الحق) ولكن الاتجاه الحديث فى الفقه يذهب إلى تعريفه بأنه "الرابطة القانونية التي بمقتضاها يخول القانون شخصاً من الأشخاص على سبيل الاستئثار والانفراد والتسلط على شيء أو اقتضاء أداء عين من شخص آخر". والعدول عن الخطبة باعتبارها رابطة قانونية تخول للشخص على سبيل الانفراد التسلط على هذا العدول فهو بهذا التحليل (حق).
وترجع الأصول التاريخية لنشأة نظرية التعسف فى استعمال الحقوق إلى عهد القانون الروماني ، إذ كانت الحقوق قبل هذا القانون مطلقة وكان من غير المقبول تقييد هذه الحقوق، وفى القانون الروماني بدأ التقرب إلى مبادئ العدالة والأخلاق فقيل بأنه ليس من العدالة إطلاق هذه الحقوق حتى ولو نشأ عن استعمالها الفردي ضرر للغير، فإذا تصادمت حقوق الفرد مع حقوق الجماعة تعين تغليب الأخيرة على الأولى وأنه إذا أساء الفرد استعمال حقه وألحق ضرراً بالغير وقع عليه الجزاء المدني بالتعويض .
وقد عرفت الشريعة الإسلامية نظرية التعسف فى استعمال الحقوق ووضعت قواعد وأحكام لإعمال الجزاء على هذا التعسف إعمالاً للقاعدة الشرعية الأصولية (لا ضرر ولا ضرار ) المأخوذة من الأحاديث النبوية الشريفة ، فلم تعرف الشريعة الإسلامية نظاماً مطلقاً للحق . ووضع الفقه الإسلامي نظرية التعسف فى باب ( التعدي بطريق التسبب ) بمعنى أن التعسف فى استعمال حقه هو قد تعدى على غيره متسبباً باستعماله لحقه المشروع ومن هنا وضع الفقه الإسلامي قاعدة على ذلك مؤداها عدم جواز إلحاق الضرر بالغير أثناء استعمال الشخص لحقه المشروع وترتيب الجزاء على هذا الاستعمال التعسفي.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك فرقاً بين التعسف فى استعمال الحق وتجاوز حدود الحق....
ففي التعسف فى استعمال الحق يبقى الشخص فى دائرة حقه مستعملاً إياه, ولكن يلحق الغير من هذا الاستعمال ضرر, وأما فى تجاوز حدود الحق فإن الشخص لا يكون فى دائرة الحق ، وأيضاً يتجاوزه إلى خارجه بحيث يكون متعدياً على حق الغير، ويضرب الفقه لذلك مثالين:
أولهما : إذا أقام المالك بناء على أرضه وضمن حدودها عاليا فسد على جاره منافذ الضوء والهواء فهو يكون متعسفاً حق منحه إياه المشرع .
ثانيهما : إذا أوصى شخص بما يزاد على الثلث ، فهو قد تجاوز حدود حقه الذي منحه إياه المشرع وهو التصرف فى حدود الثلث .
والفرق بين المعيبين ليس فى الناحية القانونية فحسب بل وفى طبيعة الجزاء المترتبة على كل منهما.
* نظرية التعسف فى استعمال الحق فى القانون المدني المصري :
نصت المادة الرابعة من القانون المدني الحالي على (من استعمل حقه استعمالاً مشروعاً لا يكون مسئولاً عن ذلك من ضرر ، وبمفهوم المخالفة فإن من يستعمل حقه استعمالاً غير مشروع يكون مسئولاً عما ينشأ عن ذلك من ضرر). ولتحديد ما إذا كان استعمال الحق مشروعا من عدمه وضع المشرع فى المادة الخامسة عدة معايير يمكن من خلالها تحديد طبيعة استعمال الحق – وهذه المعايير وفقا للنص :
1-قصد الإضرار بالغير: يعتبر الشخص متعسفاً فى استعمال الحق إذا لم يقصد من هذا الاستعمال سوى الإضرار بالغير، وسواء كان هذا القصد عن عمد أو إهمال ، والتعسف القائم على هذا الاستعمال الضار بالغير يقوم على معيار الشخص العادي فى نفس ظروف المتعسف، ويقع على عاتق من يدعى حصول ضرر من استعمال الشخص لحقه عبء إثبات: ذلك الضرر, ويكون ذلك بكافة طرق الإثبات القانونية .
وفى خصوصية استعمال الشخص لحقه فى العدول عن الخطبة أو فسخها فإن الشخص العادل عن الخطبة يعتبر متعسفا فى استعمال حقه إذا عدل فى وقت غير ملائم كالعدول ليلة العرس مثلاً بحيث يلحق ضرراً بالطرف الآخر فى سمعته وماله ولم يثبت أن الطرف العادل قصد تحقيق منفعة له ترجح على الضرر الذي يلحق الطرف الآخر، كذلك العدول بدون أسباب ولمجرد الهوى والتصرف الطائش.
2-رجحان الضرر على المصلحة رجحاناً كبيراً: إذا كانت المصلحة التي يرمي الشخص إلى تحقيقها من استعمال حقه قليلة الأهمية بالنسبة للضرر الذي يلحق الطرف الآخر وكان ذلك تعسفاً فى استعمال الحق وفى مجال العدول عن الخطبة إذا تمت الخطبة مع عدم وجود النية على تمام الزواج بل لمجرد الكيد لآخرين ثم العدول عن الخطبة بعد ذلك.
3-عدم مشروعية المصالح التي يرمي صاحب الحق إلى تحقيقها : وهذا المعيار نتج من المفهوم الخاص للطبيعة الاجتماعية للحق، فالحق ليس له دور خاص فحسب بل يلعب كذلك دوراً اجتماعياً ويعتبر الشخص مستعملاً لحقه استعمالاً تعسفياً إذا كانت المصالح التي يبتغى تحقيقها من هذا الاستعمال غير مشروعة كمن يستعمل منزله فى أعمال القمار والدعارة.
وتلك هي المعايير التي وردت بالمادة لخامسة من القانون المدني وهناك خلاف فى الفقه حول هذه المعايير إذا كانت على سبيل الحصر أم جاءت للاسترشاد. وفى الفقه الحديث قول مؤداه أن هذا الخلاف لا يعدو أن يكون خلافا نظريا لأن الصور التي حددتها المادة الخامسة من المرونة والشمول والسعة بحيث تسع لكل حالات الانحراف باستعمال الحق وأن المشرع يأخذ بمعيار موضوعي فى تحديد حالات التعسف فى استعمال الحق وهو المصلحة الجادة المشروعة إذا غابت هذه المصلحة توافر التعسف.
جزاء التعسف : الأصل أن الجزاء المترتب على التعسف يحتمل أحد أمرين: أما التعويض المالي أو التعويض العيني – التعويض المالي يأخذ صورة النقود وأما التعويض العيني فيقصد به إلزام المتعسف بإزالة الضرر الذي لحق المضرور من جراء استعماله لحقه بصورة تعسفية. أما فى خصوصية الجزاء على التعسف فى استعمال حق العدول عن الخطبة فإن طبيعة الخطبة من حيث أنها عمل يتصل بذاتية شخص الإنسان ومستقبله فإن التنفيذ العيني لا يكون مقبولاً إذا ألزمنا الطرف العادل بإتمام الزواج, ولا يبقى من جزاء يمكن تطبيقه فى هذه الحالة سوى التعويض المادي.
موقف القضاء المصري من نظرية التعسف فى العدول عن الخطبة :
بعد انتشار وازدهار نظرية التعسف فى استعمال الحق وجد أن لها جذوراً عميقة فى الشريعة الإسلامية فضلا عن أن المشرع فى القانون المدني قد ضمنها نص المادتين 4 ، 5 ودعم الفقه هذه النظرية بالشروح وبالرغم من ذلك فإن بعضاً من أحكام القضاء ما زالت غير واضحة فى هذا الخصوص, ونستشعر الحرج فى تقييد حق العدول وتوقيع الجزاء المدني لإساءة استعماله. وبالنسبة لأحكام القضاء والتي دعمت هذه النظرية فمنها: 1."أنه وإن كان للخاطب شرعاً حق العدول عن الخطبة إلا أن هذا العدول لا يخليه من المسئولية المدنية إذا ثبت أنه اساء استعمال هذا الحق وأضر بمخطوبته" استئناف مصر 30/6/1930 .
1. "يتعين للحكم بالتعويض بسبب العدول عن الخطبة أن تتوافر شرائط المسئولية التقصيرية بأن يكون هذا العدول قد لازمته أفعال خاطئة فى ذاتها ومستقلة عنه استقلالاً تاماً ومنسوباً لأحد الطرفين وأن ينتج عنه ضرر مادي أو أدبي للطرف الآخر. " (نقض لا 28/4/1960 طعن 438 لسنة 25ق
2. "الشريعة أعطت للخاطب حقا معينا ولكنها لم تنص على حرمان المرأة أو وليها من حق التعويض عما لحقها من الضرر من جراء العدول".(محكمة قنا الجزئية 9/3/1933)
الفصل الثاني ( رؤيا الخاصة فى الموضوع):
بعد أن عرضنا لموضوع فسخ الخطبة ومدى جواز التعويض عنه، ورأينا الآراء المختلفة حول الأساس القانوني لهذا التعويض ، وعرفنا الرأي الذي استقر عليه القضاء والفقه فى هذا الشأن.
بيد أننا نساهم بدورنا فى الإدلاء برأينا الخاص فى هذا الموضوع مؤكدين أن الخطبة عقد ملزم للطرفين وقابل للإلغاء بالإرادة المنفردة وترتب الآثار القانونية التي تنشأ عن مخالفة الالتزام التعاقدي.
والعقد بصفة عامة كما يراه الفقهاء هو اتفاق بين شخصين أو أكثر على إنشاء رابطة قانونية أو تعديلها أو إنهائها والخطبة بتعريف الفقهاء لها هي اتفاق بين طرفين بموجبه يتعهدان بإتمام الزواج ، فهي بهذا الشكل أو ذاك عقد بوعد على الزواج ، وبتعبير الفقه المدني هي( وعد بالتعاقد) والرأي مستقر تماما على اعتبار الوعد بالتعاقد عقدا يرتب كافة آثار العقد، وان كان لكل من الطرفين العدول عن هذا الوعد مع تحميله الجزاء المدني الترتب على هذا العدول.
و نظرا للطبيعة الشخصية ملازمة للخطبة فان أثرها القانوني من خاصية التنفيذ العيني لا يمكن إعمالها فقط يكتفي بالتعويض كجزاء مالي ، والخطبة فى ذلك لا تفترق عن العقود ذات الصفة الشخصية كعقد احتكار الغناء مثلا أو التمثيل ولا نرى معارضة بين اعتبار الخطبة عقدا ترتب ذات الآثار فيما عدا الأثر الخاص بالتنفيذ العيني وبين مبدأ حرية الزواج إذ أن هذا الأخير لن يمس بل يبقى حق العدول مباحاً طليقا من كل قيد .. فقط يترتب على مخالفة الالتزام الناشئ عن عقد الخطبة اثر مالي بالتعويض أما ما يقوله المعارضون لهذا الرأي من أن إلزام الخاطب العادل بتعويض الطرف الآخر سيؤدى إلى إحجامه قبل العدول خشية الالتزام بالتعويض مما يؤدى إلى إتمام زواج على غير رغبة منه فان هذا القول بهذا الوضع فان نظرية العقود بصفة عامة تتساقط إذا روعي فيها الآثار التي ترتب على مخالفة العقد.
والطريف فى الأمر أن معارضو نظرية عقدية الخطبة يرتبون عليها أثار العقد فى حالة فسخه من وجوب عودة الطرفين إلى حالتهما قبل الخطبة واسترداد المعدول عنه ما دفعه للآخر من مهر وهدايا أو مصروفات ..وينكرون عليها صفة العقد..
  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 637 مشاهدة
نشرت فى 23 يونيو 2011 بواسطة ahmedel3arashiy

ساحة النقاش

أحمد محمد أحمد محمد عبد الله

ahmedel3arashiy
مهنة المحاماة مرتبطة إرتباطا لصيقا بنصرة الحق والدفاع عن المظلوم وإرساء دولة القانون والمؤسسات، كما تعد هذه المهنة معقلا للدفاع عن الحرية وعن إستقلال القضاء ، وحق الدفاع حق مقدس من الحقوق الأساسية للإنسان يقاس به مستوى الديموقراطية في المجتمع ، ومن هذا المنطلق لم تكن مهنة المحاماة في »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

734,355